تمرّ الأزمة السورية في مرحلة جديدة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير والردّ السياسي عليه من قبل كل السلطة السورية وقيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحزب الله في لبنان. ينتمي العدوان إلى تلك المرحلة الممتدة والمتفاقمة من الصراع في سوريا وعليها، والتي اندلعت قبل 24 شهراً بالتمام والكمال. العدوان هو محاولة لمنع النظام السوري من تعزيز مكاسبه الميدانية، وخصوصاً أن لحزب الله نصيباً أساسياً فيها، وتحديداً في المناطق والقرى والمدن التي أعلن أنه يساهم في الدفاع عنها أو في حمايتها، وصولاً إلى إعلان الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، في خطابه قبل الأخير، أنّه لن يسمح بسقوط سوريا لمصلحة الحلف «الأميركي ـ الإسرائيلي».يشكل تعاظم التدخل الخارجي في الأزمة السورية مرحلة طبيعية في مسار تمددها وتفاقمها وتعقدها. وحيث إن هذه الأزمة ما زالت مستعصية على التسويات والحلول، فإن هذا التدخل مرشح للتصاعد، وصولاً إلى احتمال عمل عسكري خارجي في صيغة فرض مناطق حظر جوي، أو إقامة ممرات ومناطق آمنة، أو حتى تدخل عسكري مباشر عبر الحدود التركية أو الأردنية. هذا فضلاً، طبعاً، عن احتمال ازدياد «الحصة» الإسرائيلية في التدخل عبر أشكال متنوعة، وخصوصاً من خلال تفوّق طيرانها الذي قد تعوقه صفقة صواريخ «اس اس 300»، التي يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى تأجيلها قدر الإمكان.
لن يحصل التدخل الخارجي من قبل طرف واحد بالتأكيد. الحلف الآخر، الذي يضمّ روسيا وإيران وسوريا (والعراق إلى حدّ ما) وحزب الله، لن يقف مكتوف الأيدي. فروسيا ما زالت تدير سياسة مثابرة ونشيطة وحازمة أدّت، حتى الآن، إلى منع الاستفراد بسوريا سياسياً وديبلوماسياً وعسكرياً. هذه السياسة التي نفذها بدينامية وكفاءة مميزين الوزير سيرغي لافروف ومساعدوه، (والتي جعلته يستحق لقب وزير الخارجية الأبرز في العالم) تواصل حشد عوامل القوة لمصلحة توجهاتها. وليس في الأفق الآن، ما يشير إلى فتور أو تراجع في الدور الروسي، فروسيا تخوض معركة متعددة الأهداف الدولية والإقليمية (وحتى الداخلية) من خلال دعمها الكثيف للنظام السوري. وهي تستطيع الارتياح إلى قدرتها على تحقيق بعض الإنجازات ذات الطابع الاستراتيجي رغم الرفض الأميركي، حتى الآن، الذي قد لا يستمر على هذا المنوال، كما تشير التنازلات الأميركية الأخيرة في التراجع عن شعار إسقاط الرئيس بشار الأسد أو تنحيه كشرط للمفاوضات، كما كان الأمر في السابق. ونستطيع أن نلاحظ، من خلال المشهد الخاص بالشرق الأوسط على الأقل (هذا دون التطرق إلى تهديدات كوريا الشمالية قبل أسابيع) إلى أن القيادة الروسية تتحول بالفعل إلى لاعب دولي يشق طريقه بشكل واثق، مستفيداً من الإخفاقات والتردد الأميركيين، ومستفيداً أيضاً من التحولات الاقتصادية الكبيرة في العالم لغير مصلحة الولايات المتحدة، التي لم يتعافَ اقتصادها بعد من الأزمة الكبرى الأخيرة التي عصفت به منذ عام 2008.
في رد الفعل على العدوان الإسرائيلي، يلفت، بالتأكيد، الموقف الذي أعلنه السيد نصر الله الأسبوع الماضي في احتفال إذاعة «النور». أعطى ذلك الموقف، للوهلة الأولى الانطباع بأنه موقف تعبوي وليس أكثر من ذلك. ذلك أن فتح جبهة الجولان، بعد نحو أربعة عقود على إقفالها، ليس أمراً سهلاً. لكن ذلك ليس مستحيلاً تماماً إذا كان وراءه قرار استراتيجي بإحداث (أو محاولة إحداث) اختراق في مجرى الاستعصاء الحالي، وأساساً في مجرى ما استقرت عليه الأمور لعقود متوالية في العلاقات السورية ـ الإسرائيلية التي حيَّدت الجولان كساحة تماس وصراع، بموافقة الطرفين، ولمصلحة العدو الإسرائيلي بالنتيجة، ومهما كانت النيات (الدليل أن إسرائيل قد سارعت إلى إعلان ضم الجولان، دون سواه، ودون رد فعل مباشر وعملي من قبل السلطات السورية، طوال العقود الماضية).
الواقع الميداني في سوريا لن يجعل هذه المهمة سهلة أبداً: الواقع في البلاد عموماً، وفي مناطق ريف دمشق امتداداً إلى المناطق المتصلة بمنطقة الجولان المحتل، خصوصاً. في التجارب، إنه إذا لم تكن الجبهة الداخلية على شيء من الاستقرار والتماسك فلن يكون العمل المقاوم سهلاً. نتذكر كيف تعطلت المقاومة في لبنان في مراحل الصراع بين التنظيمات اللبنانية أواسط الثمانينيات. وهي لم تعاود الانطلاق إلا بعد إرساء معادلات جديدة، مفروضة أو متوافق بشأنها بين القوى المتصارعة على أرض الجنوب وخارج الجنوب.
الصعوبات والعقبات في سوريا اليوم أعظم وأكبر. مثل هذا القرار الذي أعاد الاعتبار للبعد المتمثل في أولوية الصراع مع العدو الإسرائيلي، يحتاج إلى «مدخل» سياسي لم «تهتدِ» إليه السلطات السورية حتى الآن، وقد لا يؤدي تدخل حزب الله إلا إلى تصعيب الوصول إليه، نظراً إلى البعد الآخر، المتقدم الآن، للصراع، وهو البعد المذهبي.
ذلك يشترط، إذاً، إعطاء أولوية للحلّ السياسي ولمراجعة سياسة النظام حيال شروط هذا الحل ومتطلباته. وينبغي أن يبدأ ذلك باعتماد مقاربة جديدة تُخرج النظام من عزلته القاتلة التي يتخبط فيها نتيجة إصراره على مواصلة سياساته وعلاقاته الداخلية السابقة. نقطة البداية قد تكون في اتخاذ ما ينبغي من صلات ومواقف وتوجهات لبدء علاقة جديدة مع «المعارضة الداخلية»، التي كان يصفها النظام بأنها «شريفة ووطنية». هو لم يفعل شيئاً في السابق من أجل مدّ جسور ثقة معها، العكس هو ما حصل خصوصاً بعد التجربة التي شجّعها الروس والصينيون، والتي اعتقل على أثرها المناضل عبد العزيز الخيِّر، وما زال مفقوداً منذ أشهر عديدة!
لقد دهمت مجموعة استحقاقات النظام السوري دفعة واحدة: استحقاق الأزمة الوطنية، أي أزمة الاحتلال، واستحقاق الأزمة السياسية، أي أزمة الحكم الفئوي، واستحقاق الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية التي تفاقمت وقذفت، دون إنذار ودون رحمة، ملايين السوريين، في الريف خصوصاً، إلى دائرة الفقر والخراب.
لا تحلّ الشعارات محل البرامج، ولا الإرادات الحسنة، محل الخطط والسياسات المناسبة والضرورية.
صمت جبهة الجولان كان إحدى أدوات المحافظة على النظام. إذا كان صوت الجولان، الآن، لنفس الهدف... فما بدلوا تبديلا!
* كاتب وسياسي لبناني