لطالما انعكست التطورات الإقليمية على لبنان على نحو دراماتيكي في الفترات التاريخية المختلفة التي أعقبت نشوء كيانه السياسي، فقضى اللبنانيون غالبية الفترات الزمنية منذ نشأته الرسمية عام 1943 في التوترات والأزمات. ولم يعد خافياً أن الاضطرابات التي عاشها، والتي حرمت أجيالاً واسعة منه الحياة الطبيعية، واضطرت أعداداً كبيرة منه إلى الهجرة، كانت انعكاساً للتطورات الإقليمية وتداخلاتها الدولية. ورغم ذلك، لا تزال غالبية من الناس تعتقد أن لبنان حالة قائمة بحد ذاتها، وأن تاريخه ومصيره يصنعهما أبناؤه من داخل بنيته، وهو منفصل عن محيطه، كأنه لا يتأثر به. والأكثر فداحة الاعتقاد بأنه هو الذي يؤثر في محيطه.رسم لبنان ككيان في ظروف تاريخية معلومة، وبقلم حبر معروف، وبأيدٍ واضحة. كانت بداية ذلك عام 1918 من ضمن اتفاقية سايكس _ بيكو التي هدفت إلى تجزئة المنطقة لغايات كثيرة، أبرزها منع احتمال قيام دولة «وحدة» مع المحيط من شأنها أن تشكل سداً في وجه الدول الاستعمارية التي كانت ناهضة آنذاك، للعبور إلى العالم العربي. وراح القلم الفرنسي مع زميلته البريطانية يضع الخطوط لخريطة قيست بأدق التفاصيل. رسم المستعمر الكيان وفقاً لمصالحه ورؤاه للمرحلة التي كانت قادمة، أي غمار القرن العشرين. جاء المستعمر ليفتح أسواقاً وبلداناً جديدة، وليصل إلى أماكن لم تتح له في السابق. كان عليه أن يجد معبراً يعبر منه إلى العالم العربي والخليج، فاختار للبنان تركيبة متوافقة مع هدفه. لذلك، جاءت التركيبة كحالة تزاوج للمارونية والسنية السياسيتين. الأولى، المارونية، سبق للفرنسي أن أقام صلات معها منذ القرن الثامن عشر عبر تجارة الحرير التي ازدهرت في الجبل اللبناني، فشكلت له استضافة دائمة، ومحطة للتمترس والانطلاق. وعبرها أسّس مدارسه وإرسالياته التي مهّدت الطريق لتقبّل عقله وعلومه ومنطقه.
بقي أمامه الجانب الآخر من الجسر الذي يوصله إلى العالم العربي، فكانت السنية السياسية خياراً طبيعياً متلائماً مع أهدافه، فركز فيها ومنها مراكز قوى مكّنته من التلاقي مع العالم العربي المتشابه معها لغةً ولساناً وعقيدة.
لم تكن الأحوال في المنطقة قبل ذلك منفصلة كيانياً، لبنانياً أو سورياً أو فلسطينياً أو أردنياً أو عراقياً. كانت الخلافة الإسلامية تبسط سلطتها منذ انتشار الإسلام وبسط سيطرته، والمجتمع مجتمع واحد متداخل ومتفاعل على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وعندها جاءت خطوط المستعمر الفرنسي والبريطاني، نجحت في الفصل بين أجزاء المجتمع، لكن لم يكن فصلاً مطلقاً، فاستمرت الروابط والتداخلات وتبادل المصالح والتقارب، وظلت الأحوال هناك حيث الحجم والدور التاريخيان أكبر وأقوى، تؤثر في الأحوال هنا، حيث الدور محلي وهامشي يتأثر ولا يؤثر. حتى قبل نشوء الكيان الجديد، وفي أفق تاريخي أقدم، قام فخر الدين الثاني بالتوسّع لمصلحة إمارته «المعنيّة» في جبل لبنان، مدعوماً من دول غربية، فما كان من الوالي العثماني إلا أن جهّز جيشاً جراراً زحف به إلى الجبل المعنيّ وأحرقه وطرد أميره إلى حيث داعموه.
لطالما تكررت صورة التأثير الإقليمي في الكيان الضعيف الذي ولد لا ليكون بلداً بخيار أبنائه، ولا وطناً لمستقبلهم ومستقبل أجيالهم، بقدر ما كان حاجة للمستعمر الذي رسمه وفق حاجاته ودون الوقوف على آراء شعبه في ما هو متّجه إليه. لذلك، عندما ظهرت الناصرية ضربت شريحة كبيرة من اللبنانيين كيانها بعرض الحائط واندفعت تؤيد الناصرية دون احتساب مخاطر انعكاسات تأييدهم الحماسي لعمقهم التاريخي على كيانهم الفرنسي الهوى المستجدّ. وعندما قام حلف بغداد معادياً للناصرية، تفكّك الكيان المصطنع وانهار تحت أول تجربة تاريخية غير متوائمة مع انتماء شعوب المنطقة وتعاطفها التاريخي في ما بينها، إلى أن رمّم في نهاية انتفاضة 1958 بتسوية ناصرية _ أميركية.
تكرر المشهد عينه بعد ذلك مع صعود المقاومة الفلسطينية وتوافدها إلى لبنان، فأخلّت بالتوازن بين ركني كيانه: المارونية السياسية المعارضة للفلسطيني، الذي لا يشبهها هويةً وانتماءً، والسنية السياسية المتعاطفة مع أبناء شعب هي لم تنفك تشعر بأنها جزء منه، والقلم الفرنسي والبريطاني حدد الخطوط، لكنه لم يلغِ التاريخ والجغرافيا والانتماء.
وفي سياسة العصر الأميركي الحديث، استخدم الأميركي تجزئة أسلافه لكي يحقق مصالحه وأهدافه وفقاً لما يناسب اتجاهاته الاقتصادية والسياسية. فوضع الخطط للسيطرة على المنطقة دولة دولة وكياناً كياناً. بدأ بالحرب على العراق، ثم انتقل إلى لبنان لينقضّ بعدها على سوريا، وكل ذلك وفاقاً لما أعلنته مراكز بحوثه وإدارته الاستراتيجية. وهكذا عندما كان الغرب يريد أن يحقق مشروعاً أو خطة في المنطقة، اعتمد على المؤثرات المتبادلة للدول والكيانات بعضها على بعضها الآخر. لم يكن خافياً إلا على «الأبله» أسباب تصاعد وتيرة الحرب على حزب الله، حيث تصاعدت نبرتها من بعض أحياء الشارع السوري مبكراً بعد بدء الأحداث في سوريا، بينما عُرف عن هذا الشارع تعاطفه وتأييده على نحو كبير لحزب الله والمقاومة في مختلف الحروب مع العدو الإسرائيلي.
ولم يكن غريباً أن تتصاعد التهم ضد المقاومة باتهامات شتّى، ليس من باب التجنّي تحديداً بقدر ما كان من باب توزيع الأدوار والمهمّات على القوى السورية وشبيهاتها اللبنانية في خضمّ اندلاع الصراع السوري. ولم يكن قد قضى أي مقاتل على أرض سوريا في تلك الفترة متّهم بالانتماء إلى المقاومة. وكان جليّاً أن المعركة السورية تستهدف المقاومة في لبنان كجزء من الاستهدافات التي رسمتها الدوائر العالمية لها. كان الغرب يدرك عمق تأثير المجتمعات العربية في بعضها البعض، بأكثر مما كانت تدركه عقول كثيرين من قادة ومفكري القوى السياسية وتياراتها المختلفة التي اتهمت الحزب بالتورط في سوريا.
وعلى صعيد آخر، اندفعت قوى الرابع عشر من آذار تقدم التبريرات للتدخل في سوريا. نصّبت هذه القوى نفسها مدافعاً عن الشعب السوري وعن النازحين، ولم يكلّفها أحد ذلك. وراحت جهاراً وعلانية تقدم الدعم المختلف إلى القوى المناهضة للنظام السوري من عتاد وسلاح ومقاتلين وأموال وتجهيزات لوجستية مختلفة، ولم تكن تخجل بعملها. ألم تؤمن لنفسها التبرير الإعلامي والسياسي بما يتوافق مع ميول ومشاعر شارعها للتدخل؟ والتبرير لخصومها عن أسباب تدخلها؟ لم يرفع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري راية الدعم للمعارضة السورية بحجة «إنسانية»؟ ألم يقم بما قامت به كل القوى المتحالفة معه؟ إذا كان مشروعاً لقوى الرابع عشر من آذار التورط في المستنقع السوري، فلماذا تستغربه على خصومها؟
أما الأغرب من كل ذلك، فهو أن ينظر قادة القوى التي التزمت البعد القومي في أدبياتها إلى الصراع السوري كأنه لا علاقة للساحة اللبنانية به، أو كأنه لا تأثير للصراع في مجريات الأمور عقب انتهاء المعارك. وليس من مبرر لهذه القوى المدعية البعد القومي في أدبياتها السياسية أن تنحو منحى الحياد، أو ما راج بـ«النأي بالنفس»، إلا لأنها موغلة في كيانيتها، وما خطابها القومي إلا استهلاكي الطابع لا يستطيع الصمود أمام مغريات اللعبة السلطوية اللبنانية، وما يمكن أن تغذيه السلطة السياسية اللبنانية من منافع لحساباتها المصرفية المثقلة بالأموال من أي مصدر تمويلي مهما كانت هويته.
وبعد أكثر من سنتين بات واضحاً وجلياً أن معركة سوريا ليست معركة الشعب السوري ضد النظام على ما راج في المراحل الأولى للصراع. فالمخطط الغربي واضح، والمعركة تستهدف كل دول المنطقة، وتهديم أنظمتها وضرب جيوشها، وذلك يفتح أمامها باب الصراع الأهلي على الأرض، ولن تكون نهاية قريبة لشعوب المنطقة للنهوض، ويصبح تقسيمها دويلات وكانتونات مذهبية وعرقية أمراً واقعاً، وسهل المنال. والمعركة أيضاً باتت تعلن عن نفسها، بما يتورط فيها من قوى، أنها معركة عالمية الأهداف، محلية الطابع. ولذلك تقف الدول الموالية لسوريا كروسيا وإيران والصين وسواها موقفاً حازماً، فما سيصيب أبناء المنطقة في حال نجاح المخطط الغربي، سينعكس عليها هي أيضاً، ولن تكون نتائج انتصار المحور الغربي في مصلحتها على الصعد المختلفة.
إن ارتدادات نتائج المعركة ستنعكس على كل القوى المنضوية في المحور الشرقي، ووفقاً للنتائج التي سيرسو الصراع عليها. ولأن التأثير متبادل، وخصوصاً من الجانب السوري على لبنان، ربما كان لا بد لحزب الله وحلفائه من التقدم للدفاع عن أنفسهم في المعركة، وبالتالي تصبح باطلة تهمة تورط القوى «اللبنانية» في ساحة غير لبنانية. فبعد بلوغ الصراع العمق الدولي الكبير والواضح، لم يعد هناك من ساحات منعزلة وفقاً للكيانات القائمة. إنها معركة محورين عالميين، ساحتها سوريا، وكل الدول معنية بها، ولم يعد الاتهام بعدم جوازية تورط طرف فيها أمراً منطقياً.
لذلك، كان من البديهي أن لا يتورط الحزب فحسب في الصراع السوري، بل أيضاً كل القوى المتحالفه معه في تحالف المعسكر المقاوم دفاعاً عن مصالحهم الاستراتيجية ومصيرهم المشترك.
* كاتب لبناني