أتى تصريح السيدة إلهام أحمد، عضو الهيئة الكردية العليا، ليضع النقاط على الحروف ويبدّد لغطاً ونقاشاً واسعين يدوران حول حقول النفط في غرب كردستان (كردستان سوريا)، وخاصة في رميلان، حيث أحد أكبر الحقول البترولية في سوريا، الذي يضخّ نحو ثلث إنتاج البترول السوري. هذه المدينة هي تحت سيطرة وحدات الحماية الشعبية (YPG) التي حررت المدينة النفطية قبل بضعة أسابيع في سياق «ثورة 19 تموز» (يوليو) العام المنصرم، التي بدأت من خلالها وحدات الحماية الشعبية جنباً إلى جنب الأهالي بتحرير المدن والمناطق الكردية تباعاً من سلطة النظام، من كوباني إلى رميلان، وبأقل قدر ممكن من العنف عبر محاصرة مفارز النظام وإمهال عناصرها للاستسلام، مع ضمان سلامتهم وعدم إساءة معاملتهم.وبعد قرار الاتحاد الأوروبي شراء النفط من المعارضة السورية ممثلة في «الائتلاف» المعارض، وبعد تحرير رميلان النفطية، بات لزاماً هنا التأكيد، كما ورد في موقف الهيئة الكردية العليا، أنّ النفط الواقع في المناطق الكردية ليس مشمولاً بسلطة المعارضة العربية السورية والممثلة في «الائتلاف»، بل ثمّة الهيئة الكردية العليا التي تمثل السلطة الشرعية في كردستان سوريا، وهي المخوّلة حصراً ببتّ بيع النفط وشؤون التعاقد والإيرادات والنسب بما يسهم في خدمة عموم السوريين، وخاصة أبناء المنطقة الكردية التي لطالما عانت الإهمال والإفقار والتجهيل وتخلّف بناها التحتية بفعل السياسات البعثية الممنهجة حيال الشعب الكردي ومناطقه. فالهيئة العليا تعلن وبدون لبس أنّ الأكراد من الآن وصاعداً شركاء في الأرض وما عليها وما في باطنها من ثروات لطالما حرموا منها، ولا سيّما أنّ كردستان سوريا غنية بمواردها البشرية والطبيعية الزراعية والمائية والنفطية، حتى إنه ليس بمبالغة وصفها أنها سلة الغذاء السورية، ما يضفي أهمية مضاعفة على أهميتها الاستراتيجية في إطار اللعبة الكبرى الدائرة في سوريا الآن. وتالياً لا بدّ من أخذها في الاعتبار عند الحديث عن شراء النفط السوري في المناطق المحرّرة من سيطرة النظام البعثي.
فالائتلاف ليس لديه سلطة على منابع الطاقة في كردستان سوريا، التي تديرها وتحكمها الهيئة العليا وتحميها وحدات الحماية الشعبية التابعة لها، إذ ليس سراً هنا أن ثمة ثلاث مناطق نفوذ في سوريا، الأولى الخاضغة لسيطرة النظام، وتلك الخاضعة للمعارضة العربية المسلحة، وثالثها المناطق الكردية الخاضعة لسلطة الهيئة الكردية العليا وذراعها العسكرية الدفاعية. وعند بتّ قضية استراتيجية هامة كقضية النفط، بما هي ثروة وطنية، لا يمكن تجاهل العامل الكردي المحوري هنا، فالأكراد لا يعارضون القرار الأوروبي من حيث المبدأ، لكن لهم تحفظاتهم وهم يريدون توسيعه ليشملهم ويشمل نفطهم كونهم ليسوا ضمن قوى «الائتلاف»، التي لم تقرّ ولم تعترف حتى الآن بالحقوق المشروعة لأكراد سوريا، وبالتالي ليس مقبولاً وليس منطقياً أن يكون «الائتلاف» حصراً الجهة المخوّلة ببتّ قضية حساسة كهذه، وخاصة أنه لا يمثل مختلف المكونات السورية. مثلاً المكون الكردي، كما سبقت الإشارة ليس ممثلاً فيه حتى الآن، رغم إبداء الهيئة الكردية العليا استعدادها للانضمام إليه، شريطة الإقرار بالحقوق القومية الديموقراطية للشعب الكردي في سوريا ما بعد البعث، الأمر الذي ما فتئ «الائتلاف» يماطل بشأنه.
ثم إنّ هذا القرار الأوروبي قد يستغل للتسلح، لا لتحسين الوضع المعيشي والإنساني المزري في سوريا، ما سيسهم في تعقيد الوضع أكثر. لذا، الطرف الكردي يلحّ على ضرورة أن تكون واردات النفط لخدمة الناس وإغاثتهم ومساعدتهم وتخفيف معاناتهم، لا لشراء الأسلحة وتسعير الصراع والعسكرة أكثر فأكثر، ما يخدم النظام بالدرجة الأولى.
وفي مطلق الأحوال، فإن سوريا المستقبل لن تستقيم لها حال ديموقراطية ما لم تكن دولة اتحادية تعدّدية قائمة على تقاسم السلطات والثروات بين مختلف المكونات والأقاليم، بما يسهم في بناء وحدة وطنية طوعية مستندة إلى المصالح المشتركة والتكافؤ في إطار فيدرالي لامركزي ينزع تركة الدولة المركزية الثقيلة عن كاهل سوريا والسوريين، ولعلّ الموقف الكردي من المسألة النفطية يندرج في سياق هذه التوجهات التشاركية التعاقدية التي توفّر وتضمن لكل السوريين بمختلف مكوناتهم وطوائفهم وقومياتهم الحق في المشاركة في حكم بلدهم وإدارته والاستفادة من ثرواته وخيراته، التي لطالما حرموا منها ووظفت في سياق عسكرة الدولة والمجتمع ونهبهما لصالح النظام الاستبدادي وشبكة المصالح والقوى الفاسدة المستفيدة منه والمتواطئة معه.
هو النفط إذاً، يعزز قوة اللاعب الكردي في سوريا وموقعه في الحسابات الاستراتيجية الناظمة للصراع في سوريا وعليها، والتي باتت ملعباً لمختلف القوى الدولية والإقليمية والمحلية، حيث رائحة النفط تدرّ لعاب مختلف القوى. ولعلّ محاولات بعض تنظيمات «الجيش الحر» و«جبهة النصرة» _ الفرع السوري لتنظيم القاعدة _ لجسّ نبض مدى جهوزية الوحدات الشعبية في رميلان، تحديداً عبر مساعيها الفاشلة للتمدد نحو القرى القريبة منها ومن القامشلي، تندرج في سياق مخططها اليائس لضرب المكتسبات الكردية في سوريا، وأبرزها تحرير منابع النفط والطاقة ووضعها تحت حماية الهيئة الكردية العليا وإدارتها، بما هي الممثل الشرعي والوحيد للأكراد في سوريا.
فالأكراد وإن لم يتورطوا في دوامة العنف المجنونة التي تطحن البلاد، إلا أنهم يمتلكون قوة ردع دفاعية عديدها عشرات آلاف المقاتلين المتمرسين (عديد وحدات YPG نحو خمسين ألف مقاتل ومقاتلة) أثبتت جدارتها في صدّ العدوان عنهم وعن مناطقهم، كما لاحظنا خصوصاً في سري كانيه (رأس العين)، التي كانت معركة استراتيجية وجودية نجح أكراد سوريا في امتحانها وكسبها وقطع دابر محاولات التعريب الجديدة تحت لافتات الثورة. تلك الثورة رويداً رويداً لن يبقى لها من اسمها أي نصيب، حتى إن مفاعيل وارتدادات زلزال المقاومة الملحمية للأكراد في سري كانيه انعكست مباشرة حتى على طريقة تعاطي أنقرة عراب غزو المدينة مع مجمل الملف الكردي، ومراجعة حساباتها وسياساتها الفاشلة تجاه القضية الكردية، وصولاً إلى الدخول في مفاوضات مباشرة مع الزعيم الأسير عبد الله أوجلان، ما يؤكد حقيقة أن أكراد سوريا باتوا لاعباً داخلياً وإقليمياً كبيراً، وقوة وازنة لا يستهان بها في المشهد الشرق أوسطي ككل.
* كاتب كردي