في خضمّ ما تمرّ به المنطقة ولبنان، والشقيقة سوريا خصوصاً، يواصل البعض، في لبنان، حديث الانتخابات، وكأنّ شيئاً لا يستدعي مقاربات ومواقف جديدة. لا شك أن اكتساب مواقع جديدة أو عدم خسارة مواقع قديمة هو أمر يتصل، أيضاً، بالخلفية السياسية وبالسياسات والتحالفات العامة للأطراف المعنية. لكن الأمور لا تجري غالباً في خدمة هذا الاتجاه. وكالعادة، تواصل السياسة التقليدية اللبنانية الاعتماد على ضعف ذاكرة اللبنانيين وعلى طمس مسألة غياب سياق داخلي يحكم ويوجه، بنسبة مقبولة، التطورات والمتغيرات والمواقف، حيال المسائل اللبنانية موضوع الخلاف والصراع.يعود السبب الرئيسي في ذلك إلى أن سياسة لبنان لا يقررها، في الغالب الأعم، سياسيوه، ولا تنبثق، في الأجزاء الأساسية منها، من مؤسساته الشرعية الدستورية. هي سياسة يقررها، عادة، الخارج كمحصلة لصراعاته وتوازناته وتسوياته. والأطراف اللبنانيون مرتبطون بهذا الخارج، العربي أو الإقليمي أو الدولي، إلى حدود التبعية والارتهان. وحيث إن صراعاً ضارياً هو الذي يسود الآن على المستوى الاقليمي، فإن لبنان يتخبط في أزماته المتفاقمة والمتضخمة إلى حدود خطرة من احتمال انفلات زمامها. ولا يتوافر في رصيد فئاته الحاكمة ولا مؤسساته الدستورية، الآليات أو القدرة على امتصاص الأزمات وتأجيل انفجارها، فضلاً عن السعي إلى إيجاد الحلول لها.
وليس الأمر على هذا النحو الخطير فقط. بل إن الصراع الإقليمي يضاعف من تعريض لبنان، عبر انخراط طرفي الصراع اللبنانيين الأساسيين في الحرب الإقليمية والدولية (فضلاً عن الداخلية) الدائرة في سوريا. فالارتهان اللبناني يفرض الانخراط وليس مجرد الانتظار، وذلك في محاولة للتأثير، وفي تسديد الفواتير، وفي تفاعل مع مصالح أطراف الصراع، يفاقمه ما أشرنا إليه من هشاشة الوضع اللبناني ومن ضعف وحدته الداخلية ومن شلل مؤسساته وعجزها...
ولا يأتي حديث الانتخابات خارج هذا المشهد المتوتر والمأسوي. يستغرق العماد ميشال عون، رئيس «التيار الوطني الحر»، ويستطرد في الدفاع عن «المشروع الأرثوذكسي». ينسى العماد الذي اتخذ مواقف سياسية جريئة أنّ سلطة ما سُمي يوماً «المارونية السياسية»، قد استأثرت وهيمنت وكانت، بين أسباب أخرى، مصدر شكوى واعتراض وفوضى واحتراب أهلي. يتجاهل العماد عون في دفاعه الحار والمستميت عن «المشروع الأرثوذكسي» أنّ «المحاصصة» الطائفية والمذهبية لم تكن عادلة في الماضي، ولا هي كذلك اليوم، ولن تكون عادلة أيضاً في المستقبل. هذا رغم «المناصفة» ورغم احتمال أن «ينتخب كل فريق نوابه». إنّ «المشروع الأرثوذكسي» هو بهذا المعنى عودة خطيرة إلى الوراء. فالقيد الطائفي الذي نظم دستور ما بعد «الطائف» مواعيد وآليات حاسمة وواضحة للتخلص منه (في المواد 22 و24 و95 من الدستور)، يعود من الباب العريض: صيغة لتكريس الطائفية، رغم النيات والخلفيات الطيبة التي قد تكون وراء مواقف هذا أو ذاك من أطراف النزاع... النائب يمثل الأمة، وهو يشرع لكل اللبنانيين، لا لمن انتخبه وفق «الأرثوذكسي». وكل خلاف مرشح لأن يصبح انشطاراً وطنياً، وخصوصاً في مرحلة التفتيت التي تغذيها مشاريع وسياسات استعمارية، قديمة وجديدة، فضلاً عن الخلل الديموغرافي والانقسامات السياسية.
ومن نافل القول إنّ «المشروع الأرثوذكسي» سيعمّق الطائفية، أي ذلك المسار الذي حال دون أن «يركب» لبنان: بلداً واحداً، سيداً، حصيناً ومستقراً. إنّ لبنان بـ«فضل» نظامه السياسي قد أسهم أيضاً في تغذية العصبيات الطائفية والمذهبية في المنطقة، خلافاً لكل دعاوى «التعايش» وأكاذيبه. وهو شهد من الحروب الأهلية أكثر من أي بلد آخر. والخشية، في ظل التوترات والانقسامات الحالية، المحلية والإقليمية، أن يكون الآتي أعظم وأفدح أثماناً!
وكما أشرنا آنفاً، يذهب «المشروع الأرثوذكسي» في عكس خطوة «الانفتاح العربي» الذي أقدم عليه العماد ميشال عون، والذي تكرّس في «التفاهم» الثنائي مع «حزب الله». إنه تنافس مع الاتجاه اليميني التقليدي: على أرضه وبأدواته. سيكون هذا الاتجاه هو الرابح، في النهاية، مهما أغرت بعض النتائج القريبة بعكس ذلك.
إن الرد على «السبي» و«مصادرة» التمثيل، لا يكون بتكريس القسمة، بل بإزالة أسباب ذلك السبي وتلك المصادرة. لا يكون ذلك إلا عبر المساواة بين اللبنانيين: مواطنون لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، مع تكريس حق ممارسة الإيمان والأديان والشعائر بضمانة القانون والتسامح والوعي والمؤسسات.
ثم إنّ ربط النسبية بالتصويت الطائفي هو أسوأ ما يحمله «المشروع الأرثوذكسي». فالنسبية يمكن أن تؤدي نفس الغرض في صحة التمثيل وشموليته من دون دفع ثمن باهظ بمخالفة أحكام الدستور ونسف إيجابياته ومواده الإصلاحية، التي ظلّت حبراً على ورق في مرحلتي الإدارة السورية ومن ثم الإدارة الأميركية للبلاد!
لقد أدت المزايدة والبازارات الانتخابية، بين «المكونات المسيحية»، إلى الموافقة، بحماسة أو بفتور، على «المشروع الأرثوذكسي». وأدى ذلك إلى التخلي عن مشروع الحكومة الذي يظلّ، نسبياً، الأفضل مقارنة بـ«قانون الستين» و«الأرثوذكسي». وأدى غياب رؤية مسؤولة وطنية واضحة لدى فريق الثامن من آذار إلى مواصلة العمل بـ«القطعة» أملاً في تفادي الأسوأ.
الظروف الخطرة الناشئة لم تعد تسمح بترف التمارين القاصرة والمدمرة. «المقاومة» لا تأتلف مع المذهبية، و«الإصلاح والتغيير» لا يمكن أن يتحوّل تكريساً للطائفية.
لبنان المرشح لدفع ثمن باهظ، يشكو شعبه أيضاً من غياب خيار إنقاذي: الأول من أيار مناسبة لكشف العجز، فهل يكون منطلقاً للمبادرة؟!
* كاتب وسياسي لبناني