بشكل متزامن تقريباً، كان اللبنانيون يتابعون يوم الثلاثاء الماضي مشاهد دراماتيكية لا يمكن المرور عليها مرور الكرام: رئيس لجنة الاتصال والتواصل و«الصلة والوصال» (أو التعايش الطائفي والمذهبي الشهير!) يعلن فشل مهمة اللجنة الممثلة لكل «العائلات» اللبنانية في تحقيق أي تقارب بشأن صيغة مشروع قانون الانتخاب. إمامان سلفيان، أحدهما رزين في مظهره وواقعي في تصرفاته، «يفتي» بإعلان «الجهاد» لـ«نصرة» أهل السنّة والجماعة في مدينة القصير السورية وفي كل سوريا.
يسبقه إلى ذلك «إمام» آخر، استعراضي و«شلَّوف» يعلن تشكيل مجموعات مقاومة للغرض نفسه، دفاعاً عن الجماعة نفسها في المدينة نفسها، ولقتال مجموعات «حزب إيران» كما يحلو له أن يسمي حزب الله اللبناني. في صباح ذلك اليوم، كانت قذائف «الجيش الحر» أو سواه تستأنف سقوطها عشوائياً على أحياء مدينة الهرمل البقاعية وبيوتها. حصل ذلك بعد أن أُعلن تحقيق انتصار ميداني يمنع تكرار هذا السقوط على المدينة القريبة من الحدود السورية ـ اللبنانية.
شكّلت الأحداث المذكورة، القذائف المتساقطة مجدداً (رغم «الانتصار»)، وإعلان إفلاس لجنة الاتصال النيابية، وفتاوى إعلان «الجهاد» والمقاومة (وقبيل ذلك إطلاق موكب نائب لبناني النار على حاجز للجيش اللبناني)، مظاهر جديدة دامغة على سقوط النظام اللبناني، وعلى تسارع انحدار البلاد نحو الخواء والتشرذم واحتمال الاحتراب
الأهلي. لم يحرك كل ذلك وسواه أحداً في سدة المسوؤلية أو في مواقع القرار والنفوذ الرسمي والسياسي. فقط صدر عدد من البيانات والمواقف الروتينية، في الشكل والمضمون، تحمل الخصم المسؤولية وتؤكد وتفضح العجز المتمادي عن صياغة أي موقف جديد كما يتطلب أو يفرض الانحدار المتسارع نحو الهاوية. كتلة «المستقبل»، مثلاً، التي أصدرت بياناً يعترض على إرسال مقاتلين إلى سوريا، ثابرت على اتهام «حزب الله» بجرّ البلاد إلى الفتنة من خلال قتاله إلى جانب قوات النظام السوري. كان الأجدى أن تعترف بدورها، هي أيضاً، في الانخراط المبكر والمستمر في الأزمة السورية بكل الأشكال التي ذكرها أو لم يذكرها أحد نوابها الذي «نأى» بنفسه عن لبنان وذهب إلى فنادق إسطنبول وأوروبا ليدير، على طريقة غيفارية معكوسة، معركة «تحرير» سوريا. أما عضو في الكتلة، من منطقة الشمال، فكان يواصل عنفه الكلامي ضد القضاء والرؤساء بعد عنفه العسكري ضد الجيش اللبناني!
لاحظ الصديق نجاح واكيم في ندوة شاركنا معاً فيها في قصر الأونيسكو يوم الأحد الماضي، (دعت إليها منظمة «كفاح الطلبة»)، أنّ ما طالب به شباب لبنان في تحركهم الشهير تحت عنوان «الشعب يريد إسقاط النظام»، يتحقق الآن بشكل شبه كامل. لاحظ أيضاً، أن مشكلة البديل تتفاقم بشكل تضيع معه فرصة تاريخية.
هذه هي المعادلة اليوم: سقوط النظام وعجز البديل وشلله وفشله. نعم، النظام ينهار. إنّه يعلن كل يوم فشله عبر أشكال جديدة واستحقاقات جديدة: تتعطل مؤسساته وآليات عمله ووسائله. يفاقم من ذلك استفحال خلاف مرجعياته الخارجية، إلا ما يلوح من تقاطع مصالح محدود وموقت، بعدم فتح الصراع في لبنان على مصراعيه منعاً لصرف الأنظار عن الصراع والأزمة السوريين، وخشية أن تطاول الفتنة المذهبية قلب مشعليها. والخطير في الأمر أن انهيار النظام وفق المعادلة المشار إليها، هو أيضاً، انهيار للوطن بالضرورة. فقد ترسخت في لبنان بجهد أجنحة طبقته السياسة الحاكمة نظرية أن النظام والكيان واحد، فإذا سقط النظام الطائفي سقط بالتالي لبنان، دون عودة ودون رحمة. ولقد بالغ البعض، في فترة من الفترات، بربط الامتيازات داخل النظام نفسه ببقاء النظام والكيان. وعندما اختلت التوازنات وقع «الإحباط» ومعه الضياع والهجرة والحنين واحتمالات الفدرلة والتقسيم وسواها.
هذا زمن القوى الوطنية اللبنانية: تلك القوى التي في تاريخها الترويج للأفكار الجديدة (الاشتراكية) والدعوة للتغيير وصياغة الأفكار والبرامج والعلاقات والتحالفات من أجل إحداثه. في تاريخها، أيضاً، محاولات دؤوبة لتنظيم العمال والفلاحين والمستخدمين في أطر جديدة، نقابية وسياسية من أجل تخفيف، ما أمكن، من معاناتهم وتحقيق ما أمكن من مطالبهم.
وفي تاريخها، أيضاً وأيضاً، ابتداع المقاومة ضد العدو الصهيوني والمساهمة في تحقيق انتصارات عرقلت اندفاعته وأفشلت عدوانه، وأذاقته مرارة الخسارة والهزيمة كما لم يحصل في أي مكان آخر.
وفي مبادرات هذه القوى كذلك، سِجِل جيّد من العمل التحالفي المشترك، ومن الصيغ الجبهوية السياسية والشعبية والنقابية الناجحة التي تركت بصمات مؤثرة في حقب تاريخية متواصلة.
وكان الفصيل الأساسي في قوى التغيير، قد تجاوز أخطاءه وانعزاله، وصاغ، في منعطفات تاريخية، شعارات صحيحة في النضال ضد الانتداب، وفي مشاركة البشرية الكفاح ضد النازية والفاشية، وفي إطلاق البرامج الثورية المرحلية: «الحكم الوطني الديموقراطي» عام 1968، و«البديل الديموقراطي للنظام الطائفي» عام 1999... لكن الذي حصل ابتداءً من أوائل عام 2004 أنه حين بدأت فئات واسعة، وخصوصاً في أوساط الشباب، بتبني هذه الشعارات تخلى عنها أصحابها، ممن لم يأخذوا من كنوز التجارب بحلوها ومرها سوى تكرار الشعارات التي تأخذ من «اليسار» لفظيته لا حركيته ومضمونه وجوهره.
وبكلام أكثر مباشرة، يعيش الحزب الشيوعي اللبناني، الذي أشرنا إلى بعض مساهماته الكبيرة، حالة شاذة اليوم. تمعن كتلة متنفذة في قيادته في عزله وشرذمته وتضييعه. هذا الواقع المؤلم يلقي بثقله شبه القاتل على العمل الوطني دون رحمة أو معين!
تبدأ معالجة الخلل في العمل الوطني من معالجة الخلل في قوة الدفع الأساسية فيه. لكن التاريخ لا يرحم والذين يفوتهم القطار سيتأخرون وسيدفعون الثمن لا محالة.
ما العمل؟!
* كاتب وسياسي لبناني