أكثر من ثمانٍ وعشرين سنة مرّت على تهجير قرى إقليم الخروب وبلداته. في الثامن والعشرين من نيسان من عام ألف وتسعمئة وخمسة وثمانين. ونحن إذ نعيد كتابة التاريخ والتذكير بالأحداث المؤلمة والمروّعة التي حدثت في ذلك اليوم المشؤوم والتي ذهب ضحيتها عشرات المدنيين من المسيحيين الآمنين، ذنبهم الوحيد أنهم آمنوا، وما زلنا نؤمن معهم بحتمية العيش المشترك، وبضرورة ممارسة هذا العيش، بغضّ النظر عن الظروف والنتائج المترتبة عن ذلك.
إنما نفعل ذلك، ليس بهدف نكء الجراح وإعادة عقارب الساعة ﺇلى الوراء، بل بهدف اﻹضاءة على تلك الحقبة السوداء من تاريخنا واستخلاص العبر منها، وحثّ المسؤولين عن تلك المجازر المرتكبة بحق البشر والحجر على حد سواء، على ضرورة العمل السريع على التعويض والإعمار والإنماء، لمختلف قرى وبلدات الجبل والإقليم المهجرة من جهة، وثني أيٍّ كان في الحاضر والمستقبل عن العمل على إنشاء الكانتونات والإمارات المذهبية من طريق ارتكاب المجازر والفرز الطائفي أو المذهبي.
نيسان 1985
كانت الأحداث تتسارع في ذلك العام، وراحت الاتصالات تدور في كل الاتجاهات لتجنيب قرى ﺇقليم الخروب وبلداته تجرع كأس التهجير الذي سبق أن تجرعه أهل الجبل المسيحيون بعيد الانسحاب الإسرائيلي في عام 1983؛ إذ إن نيات جيش الاحتلال كانت واضحة آنذاك، وكانت تقضي بممارسة لعبة الأرض المحروقة في مختلف المناطق التي يُنسحَب منها من جهة، ومن جهة ثانية، الضغط على الدولة اللبنانية من طريق خلق كيانات طائفية ومذهبية، تقوم على ممارسة التطهير الديني والمذهبي. فاتُّفق على سحب المسلحين من قرى وبلدات الإقليم المسيحي، وهذا ما حصل في حينه وجرى تعزيز قوى الجيش المتمركزة في معمل الجية الحراري، لكي تتمكن من حماية خط الإقليم الساحلي وإعطاء نوع من الطمأنينة للمواطنين.
إلا أن كل ذلك لم يحدّ من مستوى التوتر، الذي بلغت ذروته من طريق بث الشائعات المنذرة بقرب سقوط بلدات الإقليم المسيحي واجتياحها من قبل الاشتراكيين. وكان ذلك محتماً بفعل تقاطع المصالح بين الإسرائيليين وقسم من السوريين من حول زعيم المختارة. ولعل موقع الإقليم الجغرافي، ولا سيما بلدة الجية وميناؤها الحيوي شكلا شرطاً أساسياً، ﻹنشاء إمارة الجبل. ولقد تكثفت الاتصالات، وخاصة مع الجانب السوري، لثنيه عن دعم وتأييد المخطط الجنبلاطي القاضي باجتياح الإقليم وتهجير المسيحيين، بيد أن محور رئيس الأركان السوري آنذاك حكمت الشهابي تفوق على محور وزير الدفاع مصطفى طلاس، وأُعطي الضوء الأخضر لعملية اجتياح الإقليم في الثامن والعشرين من نيسان في ذلك العام.
اليوم الأسود
باكراً جداً وقبيل بزوغ فجر يوم الثلاثاء الواقع فيه الثامن والعشرون من نيسان، ودون أي سبب، بدأت مدفعية الاشتراكيين، من جميع المواقع دفعة واحدة، بدكّ منازل المسيحيين الآمنين، من عين الحور إلى المطلة، مروراً بالجية والرميلة وجميع البلدات، والقرى وحتى المزارع الوادعة التي لم تكن قد أفاقت بعد ولم تستوعب ما يجري. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أكثر من ثلث المسيحيين كانوا من الجنبلاطيين، وذلك تبعاً لعلاقات سياسية نُسجت على مرّ السنين، وكان للمعلم كمال جنبلاط اليد الطولى في رعايتها، ولكن شتان ما بين الزعامة والإمارة. ولتحقيق الإمارة كان لا بد من بدء عملية الفرز الطائفي والتطهير المذهبي، فأُنزلت حواجز الرعب التي راحت تصطاد الآمنين، على مفارق الهروب ودروبه. ولكي يتم ما كتب، بدأت الجحافل البربرية بتصفية العجزة والمسنين على طرقات الجية وداخل معملها الحراري، حيث ارتُكبت فظاعات تقشعر لها الأبدان. أما الذين لم يستطيعوا النزوح، فإنهم إما قتلوا أو نُقلوا إلى ثُكَن التعذيب والأسر، ولم يوفر المهاجمون أفراد الجيش اللبناني وضباطه، فقُتل البعض، ونُكِّل بالبعض الآخر.
طريق الجلجلة
بدأت رحلة العذاب الطويل الذي سار عليه كل أبناء الإقليم، والذي سبق أن سار عليه كل أبناء الجبل، وكبر حزب المهجرين وأصبحوا يشكلون قضية، قضية بحجم الوطن، كل الوطن. وكان لا بد للمهجرين أن يتنقلوا في كل البلدات والمدن والأمكنة، فذاقوا كل أنواع القهر والعذاب. اصطفوا أمام المدارس والمؤسسات الدينية والاجتماعية بحثاً عن مأوى أو ملبس أو مأكل، وعوملوا كمواطنين من الدرجة العاشرة، وكانوا يدفعون المستحقات عليهم من دون التمتع بالحقوق، ولم يُعفَوا من أية رسوم أو ضرائب. والأنكى من كل ذلك، أنه جرى التعامل معهم على أساس أن عودتهم هي من سابع المستحيلات. وبالرغم من استحداث وزارة للمهجرين في حكومات ما بعد الطائف، إلا أن هذه الوزارة لم تقم بكل ما يلزم في سبيل عودة المهجرين، وإعمار منازلهم ودفع التعويضات لهم، بل إنها أسهمت إلى حدٍّ بعيد في تبديد مستحقاتهم المالية، ودفعها في غير محلها لأشخاص لا تنطبق عليهم صفة التهجير. وللتذكير فقط، إن إجمالي التعويضات التي حصل عليها أبناء الجبل والإقليم لا تتعدى نسبتها الخمس عشرة بالمئة من الأموال المرصودة للوزارة. إنها المأساة الملهاة، ومن غرائب هذه السنوات العجاف، أن تعطى وزارة شؤون المهجرين لأولئك الذين سبّبوا التهجير، وكما يقال في العامية: حاكمك وربك. كل ذلك حدث، ولكن بعيداً كل البعد عن منطق الصدفة لكي يصار في «زمن السلم»، إلى تحقيق الأهداف التي لم يتمكنوا من تحقيقها إبان الحرب، وذلك تأكيداً لنبوءة معمر القذافي عن المسيحيين في بدايات الحرب الأهلية، القائلة بأن ثلث المسيحيين يقتل، والثلث الثاني يهاجر، أما ما بقي فيجري إخضاعه ومن ثم أسلمته. وهكذا أضحت المماطلة في ملف المهجرين السمة الأبرز، تارة بسبب أو دون سبب، فعندما يوجد التمويل، يصار إلى ابتداع حجة عدم اكتمال الملفات أو ضياعها في دهاليز الوزارة، وعندما تصبح الملفات جاهزة ومستوفاة لكامل الشروط التعجيزية، يكون الجواب مقنعاً وجاهزاً بأن لا تمويل. وهكذا دواليك، والمهجَّر عالق بين سندان الوزارة ومطرقة الصندوق (المركزي للمهجرين).
نيسان 2013
ما أشبه اليوم بالأمس! أكثر من ثمانٍ وعشرين سنة مرت، بيوت الجبل والإقليم على حالها. ويظهر جلياً أن معظم هذه البيوت لم يُعَد إعمارها. أما تلك التي أعيد تشييدها، فلم تُنجَز بالكامل، باستثناء بعض المبادرات الفردية من بعض المقيمين والمغتربين الذين تمكنوا من إعادة بناء بيوتهم. لكن العودة تبقى منقوصة، ليس فقط بفعل عدم اكتمال عملية الإعمار ودفع التعويضات، بل بفعل عدم إعطاء المسيحيين في مناطق التهجير أبسط حقوقهم السياسية؛ فما زال المسيحي في بلدات الإقليم والجبل يشعر بأنه مجرد رقم بسيط لا قيمة له ولا وزن، وهو بفعل القانون الانتخابي المعروف بقانون الستين لا يستطيع اختيار ممثليه في الندوة النيابية. ولقد أسهمت الحرب وسنوات التهجير الطويلة في اختلال التوازن الديموغرافي. وبالرغم من أن المسيحيين استطاعوا ممارسة فعل الغفران، إلا أنهم لم ينسوا ولن ينسوا وباتوا على اقتناع بأن قانوناً عصرياً للانتخابات، يحافظ على حقوق الأقليات وصحة التمثيل، وحده الكفيل بإنصافهم. إن إعطاء المهجرين حقوقهم السياسية، بعد أن حُرموا حقوقهم المادية، وحده الكفيل بمنع بعض غلاة الطائفية والمذهبية، في الحاضر والمستقبل، من التفكير بخلق الكيانات والإمارات أو الكانتونات ذات الطابع الأحادي أو المذهبي. ويبدو واضحاً أنّ الاستمرار في اغتصاب حقوق المسيحيين المهجرين ومنعهم من الحصول على كامل حقوقهم، ولا سيما السياسية، يشكل استمراراً لفعل التهجير.
* كاتب لبناني