من البديهي التسليم بأنّ بلدان المنطقة بحاجة ماسة إلى التغيير الجذري والفوري في السلوكيات والمشروعات السياسية على طريق التحول نحو مجتمعات عصرية تقوم فيها دول حديثة، لكن فرضيات التغيير المطلوب تعوزها الشرعية والصدقية حتى تتحول إلى استراتيجيات تنموية فاعلة. في ظل هذه المناخات من التفتت والترهل والترقب والانتظار غير المجدي، تتعالى وتتوالى الدعوات الفئوية (في إشارة إلى أنها تنتمي إلى فئة معينة دون سواها) للعودة إلى السلف الصالح من قبل الجماعات السلفية والأصولية. فما هي الخلفية السياسية والاجتماعية التي تكمن وراء صعود وانتشار مثل هذه الأنماط من الحركات الإسلامية المتشددة والمتصلبة بطريقة دراماتيكية متسارعة؟ وما هو الحل الذي يمكن من خلاله استيعاب هذه اللحظة السياسية والتاريخية من المنطقة والعالم واحتواء الممارسات أو حتى الأدبيات الحادة المتطرفة في التعبير عن الرأي والمغالاة في التمسك ببعض المعتقدات التي تنبثق عنها أنماط سلوكية قاتلة بل مدمرة؟ وهل من إمكانية لهذه الحركات للمضي قدماً، مع ما يعنيه ذلك من تصعيد قد يبلغ حد الصدام والمواجهة ما لم تقتنع كافة المكونات واتجاهات الرأي بضرورة التعقل والتبصر والتحاور في ظل انهيار البنى السياسية والمجتمعية القديمة وعدم وضوح الرؤية وغياب البديل المقنع والمناسب؟تشهد المنطقة العربية منذ عقود عديدة ظاهرة صعود الحركات السياسية الإسلامية، ومنها على وجه التحديد الحركات الراديكالية التي تعرف بالحركات الأصولية. لقد تصاعدت وتيرة الحراك السياسي والجهادي لهذه الحركات التي تدعي العمل لبناء الدولة الإسلامية أو إعادة بناء نظام الخلافة الإسلامية طوال السنوات الماضية، وبرزت بصماتها في إطار ما بات يعرف بثورات الربيع العربي. فهي تعبّر بالتأكيد عن اتجاهات سياسية وفكرية معينة، وتمثل بطبيعة الحال أطراً للانتظام السياسي والسوسيولوجي البديل أو المغاير في ظل التخبط المعلن في الوعي السياسي. من هنا، يمكن القول إن ظهور ومن ثم انتشار هذا النمط الجذري من التنظيمات السياسية ذات الخلفية الإسلاموية هما في الحقيقة النتيجة الحتمية لفشل مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة في لبنان وفي الدول العربية على غرار المجتمعات الأوروبية والأميركية في الغرب. لعل الفشل في هذا المجال يعود إلى فساد الطبقات الحاكمة والنخب السياسية في البلدان العربية واستمرار استعمار الغرب بطريقة غير مباشرة في تدمير اقتصادات المنطقة والبنى الداخلية للمجتمعات فيها. قد يكون من غير الممكن الخوض في تفاصيل هذه المسألة الشائكة على نحو كاف، لكن البروز الملحوظ للأصولية الإسلامية هو نتيجة انعدام الثقة في الأنماط السلوكية للحكومات والبلاطات في ظل هذه الأنظمة الوضعية التي أخفقت في تنفيذ استراتيجية الحداثة من أجل إقامة النظام الديموقراطي في داخل الدول القائمة بغير الشرعية السياسية والدستورية.
يدلل تنامي ظاهرة اعتناق الإسلام السياسي الراديكالي على ضعف وربما فقدان الثقة في الحكومات والأنظمة في مختلف بلدان الشرق الأوسط، والمقصود هنا طبعاً البلدان العربية والإسلامية أو ذات الغالبية الإسلامية. والخطورة في هذا الصدد تكمن في أن تراجع أو غياب الثقة لا يقتصر حصراً على منظومات الحكم القائمة، بل إنه يصيب أيضاً المؤسسات المنبثقة عن هذه الدول نفسها. فالتنظيمات الدينية الراديكالية لم ولن تعترف بالحقائق الموضوعية لوجود تلك الدول في التاريخ السياسي وفي الجغرافيا السياسية، ذلك أنها تنقض المرتكزات التي تقوم عليها هذه الدول، وترفض قبول هذه المساحات القطرية المفترضة للحراك السياسي، وبالتالي الجهاد بكل أنواعه. والمسألة ليست مدعاة للتفاؤل بإمكانية البدء بالتغيير المطلوب للدفع باتجاه التحديث والتنمية. فالطروحات التي تنادي بها هذه الحركات السياسية تعبر عن وجهة نظر معينة في ما يخص نظرية الحكم وفق الشريعة الإسلامية، بمعنى أنها تجسد طريقة فهمها هي لنظام الحكم الإسلامي بحسب قناعاتها ومعتقداتها في هذا المضمار، وقد لا تتفق بذلك مع بقية القوى السياسية والمكونات المجتمعية، بحيث تختلف معها في كيفية فهم نظرية الحكومة في الإسلام، وكذلك في كيفية التعاطي مع مسألة الحكم في الدولة من باب أولى. هكذا ترفض الحركات الراديكالية فكرة العمل السياسي أو حتى النشاط الجهادي من داخل المؤسسات الوطنية وفي إطارها، بل تدعو إلى ضرب هذه البنى والنظم في محاولة أو مغامرة تهدف إلى إيجاد البديل الذي لا يحظى بالإجماع أو التأييد من قبل كافة الشرائح الديموغرافية والاجتماعية. هي في الواقع تمثل تهديداً واضحاً للنظام الإقليمي القائم وللمؤسسات الوطنية للدول القائمة، لكنها في المقابل ليست قادرة حتى اللحظة على تجسيد نظرية متماسكة تكون البديل لما هي عليه الحال، وتلقى بالضرورة موافقة سائر التيارات والكيانات السياسية. بهذا المعنى، ربما تحيلنا مستقبلاً ظاهرة اشتداد وطأة التحركات الإسلامية الجذرية في الحدث السياسي الداخلي والإقليمي على المزيد من التخبط الفكري وحتى التقاتل الميداني لعدم تحقق أو توافر مقومات الحوار العقلاني غير المسبق الشروط.
تلقى هذه الحركات رواجاً ملحوظاً في بعض الأوساط من النخب الدينية والفكرية، وكذلك في بعض الأوساط الشعبية، لكنه يبقى محدوداً من حيث مدى القدرة على اجتذاب فئات واسعة من الرأي العام في الشارع. فالخطاب السياسي والأيديولوجي لهذه الحركات ليس جماهيرياً على الإطلاق، إذ ليست لديها القدرة على استقطاب الجماهير على نطاق واسع، وإنما تتجسد فاعلية مثل هذه الحركات في قدرتها على تعبئة بعض الأفراد ودفعهم إلى اعتناق أفكارها العقائدية، وهم من العناصر الذين لديهم القابلية أو الاستعداد النفسي والعقلي والخلقي لتبني والتزام مثل هذه العقائد. فالتربية المنزلية أو المحيط العائلي أو المهني أو غيرهما من الظروف السوسيولوجية الخاصة لهؤلاء الناس من شأنها أن تسهم إلى حد كبير في بناء القناعات السياسية والشخصية التي تحتضن وتعتنق الدعوات إلى انخراطهم في الأصوليات الإسلامية المعاصرة. إن الشعور بالاحتقان أو الضغط النفسي والحيف الاجتماعي وكذلك القمع السياسي وغير ذلك من شأنه أن يعزز لدى المرء القناعة بعدم الرضى والتوجس من الأفق السياسي في ظل غياب التجربة النموذجية التي يرتضيها وتعبر عن تطلعاته أو تفضيلاته السياسية. هكذا يمكن القول أيضاً إن انتشار هذا النمط من الحزبيات الإسلامية المتشددة يأتي في سياق التعبير عن المعارضة العارمة، لكن بطريقة معينة للواقع القائم والخوف من التحديات السياسية كالحديث عن الصحوة الشيعية مثلاً أو الدعوة إلى نهوض المارد السني في المقابل!
يبقى الحديث عن اللجوء الفعلي إلى العنف من قبل الجماعات الإسلامية الأصولية في محاولة منها لتحقيق مقاصدها ومآربها، وهو الأمر الذي يكثر ويتسع نطاق حصوله على أرض الواقع أخيراً تحت ستار تطبيق أحكام الشريعة في الجهاد من أجل بناء نظام إسلامي، مع ما يعنيه ذلك وفق أنصار هذا الفكر من ضرورة القصاص والعقاب في مواجهة بقية الخلق من غير المسلمين، أو بمعنى أصح من غير المؤمنين. فبدلاً من الاحتكام إلى مقولة «لا إكراه في الدين»، تعمد هذه الفرق أو المجموعات إلى التكفير وإصدار الأحكام بالإدانة والتجريم والردة على قاعدة سلوك خيار الحرب واستعمال القوة المسلحة والقسرية اعتقاداً منها بأن ما تقوم به أقرب ما يكون إلى الجهاد الذي خاضه المسلمون الأوائل في زمن الدعوة وفي عصر الفتوحات الإسلامية، لكن الفارق كبير بين الأمرين. إن أخطر ما يتهدد وحدة المجتمع السياسي العربي والمشرقي والمحمدي، وقبلها استقرار وأمن الناس من كافة الطوائف والمذاهب والأديان، هو لجوء هذه الحركات إلى تكوين تشكيلات وميليشيات مسلحة ومنظمة لتكون الأداة الوحيدة لتنفيذ المشروع المعلن أو المفترض. فبدلاً من التمهيد أو الدعوة حتى إلى الحوار في ما بين المسلمين، وكذلك على مستوى العلاقات مع المسيحيين من أبناء المنطقة و«الديار» ، تنتهج التنظيمات الأصولية خياراً مغايراً، يتخذ طابعاً عنفياً شرساً في أغلب الأحوال، ومن ذلك أعمال القتل والتفجير والتصفية، لتبث الرعب والهلع في نفوس الناس، وخاصة المدنيين الأبرياء، وتجمع بذلك بين بالإرهاب الفكري والجسدي في آن واحد، أو ما يمكن أن يصطلح على تسميته كذلك. والحقيقة أن الإسلام براء من كل هذه الممارسات والدعوات، وهنا تتجلى الخطورة البعيدة المدى في تشويه صورة الديانة الإسلامية وتقويض نظرية الإسلام السياسي من المنظور الاستراتيجي. فقد باتت مقولة الإسلام السياسي رديفاً لما يمكن أن تمثله أو تعبر عنه هذه السلوكيات أو التجارب الراهنة، التي يعتورها التفكير المغلوط والبعيد عن الواقع المعاصر من الناحية الزمنية والعلمية والقيمية. لقد تطورت نظم المجتمعات السياسية والحضارية، وكذلك تطور معها بالتأكيد مفهوم الإسلام السياسي لناحية التجسيد العملي الراهن لمبادئ الشريعة الإسلامية في تحقيق الحرية والكرامة الإنسانية والمساولة والعدالة بطريقة مختلفة، قد لا تشبه على الإطلاق الدعوة إلى والعمل على إقامة الحكومة الإسلامية كما في الماضي.
إن الحركات الراديكالية التي تصاعدت وتيرتها في العقود القليلة الماضية، وظهرت إلى العيان على نحو واضح إبان الحرب على العراق في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والحرب على سوريا حالياً، وقبلهما غزو واحتلال أفغانستان، ليست نموذجاً يصلح للتطبيق أو الحل، بل إنها جزء من المشكلة ومن التخبط أو التشظي الفكري الذي تدركه المنطقة، وتستشعره أيضاً دول الغرب في داخل مجتمعاتها من حين إلى آخر. فالبلدان العربية والإسلامية في الشرق بحاجة ملحة بداية، وقبل أي شيء آخر، إلى استعادة استقرارها وتثبيت أمنها؛ تأتي بعدها الخطوة التي تلي، والتي تتمثل في انطلاق فاعليات الحوار الوطني والديني بين أطياف المعارضات والقوى التقليدية التي كانت تقبض على السلطة وكافة الفئات والتيارات السياسية والعرقية والدينية. وهي بحاجة إلى كل لاستعادة استقلال القرار السياسي الوطني حتى تتمكن من تنفيذ أجندات الحوار والتفاهمات التي يتفق عليها، وصولاً إلى تحقيق أو بدء تنفيذ رؤية أو برنامج التنمية المقررة، فالإنماء الاقتصادي والاجتماعي بكل مندرجاته وحده قادر على اجتثاث البؤر الأمنية المتفجرة ومكافحة إرهاب الفكر لا العنف الجسدي فقط.
* باحث سياسي في مركز الدراسات السياسية لأوروبا اللاتينية في فرنسا