في خضم الاستقطاب الطائفي الحادّ الذي يشهده العراق وبلدان عربية أخرى، دخلت تهمة أو صفة «الصفويون» و«الروافض»، تقابلها، على ألسنة المساجلين من الجهة المقابلة، تهمة أو صفة «العثمانيون» والنواصب، دائرة السجال والتنابذ الطائفي بين رجال السياسة والدين والإعلام. ولعل من أكثر هذه الصفات الاتهامية خطأً وظلماً هي صفة «الصفويون»، التي تطلق بكثافة هذه الأيام على الشيعة العرب العراقيين. وتلك، كما نعتقد، من نتائج الجهل بالتاريخ والتراث وخضوع الكثير من مفردات الخطاب السياسي والديني السائد للمزاج والرغبة الذاتية والتماهي الأيديولوجي، لا نتيجة الوعي بهذا التراث والتاريخ. سنحاول أن نثبت في هذه البسطة السريعة أن التشيّع العراقي هو على عكس ما يوصم به، لأنه هو الذي دحر وأنهى التشيّع الصفوي الكسروي حتى في إيران ذاتها، ذلك لأنه كان نقيضه التام على صعيد المضمون وآليات التشكل المجتمعي. وقبل أن نبدأ بالتعريف بوجهة النظر هذه، فلنلق نظرة على وجهة نظر مختلفة قليلاً، تؤكد وحدة الجذر الصوفي البكتاشي للصفويين والعثمانيين، وهذا ما يؤكد جهل الطائفيين المعاصرين من السنّة أو الشيعة بالتاريخ وخباياه:بمراجعة تاريخ التشيّع العراقي والآخر الصفوي نعلم أنّ التشيّع جديدٌ في بلاد فارس، فهو كان عراقي الجذور والنشأة منذ انحياز العراقيين، وأهل الكوفة منهم تحديداً، إلى الإمام علي بن أبي طالب ومن بعده لبنيه في القرن الأول الهجري، السابع الميلادي. غير أن التشيّع لم يبدأ كطائفة في العراق، بل كنوع من الولاء السياسي والديني للخليفة لعلي وأولاده، وأحياناً، كان انحيازاً أخلاقياً أملته ظروف تراجيدية، وخاصة مثلما حدث مع قائد الجيش الأموي في موقعة الطفّ المأساوية الحر الرياحي، الذي تمرد على أوامر يزيد بن معاوية وقاتل الى جانب الحسين بن علي حتى قتل، ومثله فعل قائد آخر كان عثماني الولاء ولا يتعاطف البتة مع العلويين، كما يؤكد المؤرخون وهو حبيب بن مظاهر الأسدي، الذي استفظع أن يقتل سبط النبي وآل بيته بسيوف بني أمية على أرض العراق، فهجر جيش يزيد والتحق بالحسين وقاتل مع الحسين الشهيد حتى قتل.
تحول التشيّع إلى مذهب ديني وطائفة مكتملة التشكل في زمن الإمام محمد الباقر وبعده ابنه الإمام جعفر الصادق، الذي استكمل تأسيسات المذهب الذي عرف في ما بعد باسمه «المذهب الجعفري». أما في بلاد فارس، فقد كانت سنية المذهب مطلقاً طول قرون، ومنها جاء مؤسسو المذاهب السنية الأربعة: الشافعي والمالكي والحنبلي والحنفي، لكنّ فارس أصبحت شيعية في عهد الشاه إسماعيل الصفوي في بدايات القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، أي بعد سبعة قرون تقريباً على بدايات التشيّع في العراق. وقد سميت الدولة الصفوية بهذا الاسم نسبة إلى الشيخ صفي الدين الأردبيلي الجدّ الخامس للشاه إسماعيل وكان سني المذهب.
وإذا ما بارحنا التشيّع العراقي الأول وانتقلنا إلى التشيّع المعاصر، الذي بدأ بموجة تشيّع القبائل العربية العراقية خلال القرون الثلاثة الماضية، ويطلق عليه بعض الباحثين «موجة التشيّع الثاني»، فسنرى، أن علماء وفقهاء التشيع العراقي هم الذين دحروا وأنهوا التشيّع الصفوي ذا التقاليد الكسروية الفوقية وسادت نسختهم ذات المضامين القاعدية الشعبية الرافضة للدولة الفوقية «البرانية». هذا ما أوضحه مثلاً الكاتب عبد الأمير الركابي في دراسته المعنونة (لماذا يعزف الشيعة العراقيون عن «ولاية الفقيه»؟) وفيها يلخص التناقض الجوهري بين التشيّع الصفوي والآخر العراقي كالتالي: «امتازت حركة التشيّع الإيراني الحديث بالسلطوية التي هي من خاصيات البنية الإيرانية الامبراطورية، في الدولة والأفكار كما تجلت في التاريخ قبل الإسلام في الزرادشتية وقبلها، وتميز التشيّع العراقي بنبذ الطابع السلطوي، وبالتعددية والانحياز إلى المجتمع، لا بل الاندماج فيه خارج الحكم، وتلك أيضاً من خاصيات تجلي الحركات والأفكار في المحيط العراقي، وبالذات في أرض السواد التي هي موئل التشيّع الأول).
وبما أن من اللاستحالة مقارنة بدايات التشيّع «الأول» في العراق بما يقابلها في إيران لانعدام وجودها آنذاك، يمكن الانتقال إلى فضاء مقارنة تحليلية أخرى تغطي التشيّع الثاني وتستغرق القرون الأربعة الماضية. تبدأ هذه التجربة بتشيّع الدولة الصفوية السنية أوائل القرن السادس عشر في إيران، تتزامن معها مرحلة التشيّع العراقي الثاني، أو ما يسميه بعض الباحثين «حركة تشيّع القبائل العراقية الجنوبية» في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر م. أما التمظهر الأخير والمستمر للتشيع الإيراني المختلف نوعياً، فيستغرق الربع الأخير من القرن الماضي، حين شهد تجربة دولة «ولاية الفقيه» بعد انتصار الثورة الإيرانية 1979.
إن الدارس لهذه المراحل التاريخية سيخلص إلى استنتاج مهم وقوي يرفض أي شكل من أشكال التوحيد النوعي لتجربتي التشيّع في العراق وإيران. والخلافات هنا تتصل بالعوامل والآليات والنتائج والمديات الاجتماعية ومستوى اندماج الخصوصيات المجتمعية المختلفة تماما بين العراق وإيران. وقد بلغ الخلاف ذروته بين التشيّع العراقي القواعدي الرافض للدولة البرانية بشكلها الكسروي، ولأي تعامل معها، وهو المبدأ الجوهري في التشيّع العراقي. وهو مبدأ لا يزال ساري المفعول إلى يومنا هذا، ويمثله خير تمثيل السيد السيستاني وأسلافه الحكيم والخوئي وغيرهما، رغم محاولات الساسة المعاصرين زجّ المرجعية النجفية في شؤون الحكم والسياسة.
يمكن اعتبار الشيخ إبراهيم القطيفي القادم من القطيف في الجزيرة العربية إلى عاصمة التشيّع العالمية النجف الأشرف خير ممثل سجالي لهذا التشيّع، أما التشيّع الصفوي شبه الكهنوتي المشابه نوعياً لتمثيل التسنّن في تجارب الخلافة العباسية والأموية، حين تحول رجل الدين «المرجع» وجماعته إلى مؤسسة من مؤسسات الحكم المنفصل عن المجتمع ، فيمكن اعتبار الشيخ علي الكركي العاملي القادم من جبل لبنان ـــ مروراً بحوزة النجف، حيث أكمل دراسته الفقهية ـــ إلى أصفهان عاصمة الدولة الصفوية والمعين من قبل الشاه بمنصب «شيخ الإسلام» ثم بمنصب «وكيل الإمام» في عهد الشاه طهماسب الصفوي الممثل الأوحد له.
بدراسة المرحلتين تحليلياً، يصل الباحث سالف الذكر إلى الاستنتاج التالي: «ففي المناسبتين الفاصلتين – تشيّع القبائل العربية العراقية وتشيّع إيران الصفوية - اختلفت جوهرياً الرؤى والنزعات الغالبة والمميزة لكل من الحركتين، وبينما امتازت حركة التشيّع الإيراني الحديث بالسلطوية التي هي من خاصيات البنية الإيرانية الإمبراطورية، في الدولة والأفكار كما تجلت في التاريخ قبل الإسلام في الزرادشتية وقبلها، تميز التشيّع العراقي بنبذ الطابع السلطوي، وبالتعددية والانحياز إلى المجتمع، لا بل الاندماج به خارج الحكم، وتلك أيضاً من خاصيات تجلي الحركات والأفكار في المحيط العراقي، وبالذات في أرض السواد التي هي موئل التشيّع الأول».
وبرصد الكاتب حالة الصدام الفقهي بين الشيخين القطيفي والكركي في القرن السادس عشر، التي بلغت درجة إصدار الفتاوي المتبادلة والتساجل العلني، نصل إلى تسجيل النواتات الفكرية لكل من التجربتين، فقد كان من رأي القطيفي، ممثل التيار العراقي الذي سيرسخ لاحقاً ويتوطد، أن العمل لدى الحكام والسلاطين حرام، حتى لو كان الحاكم شيعياً. بينما ارتأى الكركي ما ارتآه، وقبل المنصب ومارسه. ومن الطريف، وفق المقارنة التاريخية، أن يكون منصب الكركي الذي ابتدعه الشاه الصفوي وقتها، هو نفسه المنصب الذي كانت الأرستقراطية الإيرانية تعتمده قبل الإسلام، حينما كانت تستعين بالزرادشتية. فقد كان للرئيس الديني (موبذان موبذا/ بالفارسية) وهو قاضي القضاة في الوقت نفسه، مكانة سامية في الدولة.
اتخذت التجربة المجتمعية العراقية في ما بعد مساراً آخر اندمجت بمقتضاه المشاعات الزراعية في الجنوب والوسط، التي حللها حنا بطاطو وأطلق عليها نمط اقتصاد «الديرة» المشاعي. والديرة هي الضيعة في اللهجة العراقية المعاصرة، وقد اندمجت، والأدق استوعبت، هذه المشاعات المنتجة والمسلحة المدن الشيعية المقدسة الشيعية النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، وأصبح رجل الدين ممثلاً مندمجاً لها في مضيف الديرة أو في ما يسميه الركابي «دولة اللادولة المشاعية». وقد «امتاز هذا الكيان بالتعددية المرجعية والتداخل مع محيطه، والتشابه معه كينونةً وبنيةً، وعاش كدولة لا دولة، لا تتمتع بسلطات إكراهية من أي نوع. هذا النمط من الممارسة الشيعية، هو الذي انتصر لاحقاً على مستوى التشيّع في العالم، بينما اختفت الصفوية، وفي قم أو غيرها، يعتمد اليوم مبدأ الاجتهاد والتقليد والحوزة، ما يعني انتصار التشيّع العراقي الذي ظل هو الشائع والسائد...).
وظل هذا الوضع قائماً مكرِّساً انتصار التشيّع العراقي على التشيّع الصفوي حتى وصول رجال الدين الشيعة بقيادة الخميني إلى الحكم وقيام دولة «ولاية الفقية»، التي أعادت التشيّع الإيراني شكلاً إلى التشيّع الصفوي، لكن غير الكسروي، حيث حلّ آيات الله محل الشاه وطاقمه الحاكم واستولوا على السلطة بكاملها، ما أوجد ظاهرة جديدة في تاريخ التشيّع لا هي بالصفوية ولا هي بالعراقية، وتشبه إلى حد بعيد الدولة الثيوقراطية في أوروبا مع الفوارق. أما في عراق اليوم، فالتشيّع القواعدي العراقي لا يزال يقاوم بضراوة محاولات تحويله إلى ملحق لدولة المكونات الطائفية التي جاء بها الغزو الأميركي، ولا يبدو أن النصر سيكون حليف هذه الدولة ضده، لأنها تتعاكس مع آليات وخصوصيات التشكل المجتمعي العراقي والتي هي نتاج لتاريخ العراق الكوني المديد بمجمله وستكون أي محاولة لزرع أو فرض التشيّع الصفوي في العراق أشبه بعملية زرع قلب غير بشري في جسم إنسان!
أية صدقية أو موثوقية علمية تتبقى إذاً لاتهام التشيّع العراقي والشيعة العراقيين بالصفوية؟
* كاتب عراقي