الدولة العميقة هي ببساطة البنية السرية التي تدير دفّة سياسة الدولة خلف ستار الأمن. وقد جرى تطوير مفهوم الدولة العميقة بحسب حالة كل دولة حين تفقد الدولة وظيفتها الأصلية وفلسفة وجودها كناظم للمصالح العمومية، وتتحوّل إلى مجرد مؤسسة نفع خاص، تتشكل على قاعدة روابط شديدة الخصوصية بين مجموعة صغيرة من الأفراد وتضطلع بمهمة قمع المطالب العمومية باسم الدولة. فهي ليست الدولة التي تمد يدها للشعب، وإنما دولة خفيّة، تظهر في لحظة مباغتة حين تتعرّض مصالح الفئة المنتفعة من وجود الدولة للتهديد من قبل المثقفين، والجماعات السياسية، والناشطين الحقوقيين، وحتى رجال الدين غير المنضوين داخل عباءة الدولة العميقة.في السعودية، الدولة العميقة تحيل إلى الحكومة السرية، القائمة على بنية أمنية واستخبارية، مع فارق أن في الدول الريعية، لا تتوسّل الحكومة دعم مافيات المخدرات، والسلاح، بل تلوذ بمصادر دعم ذاتية، لحماية موقعها، ومصالحها ضد التهديدات الداخلية حصرياً. وبالضرورة، فإن هذه الدولة نشأت على النقيض مع الاصلاح والتغيير، وترى بقاءها متوقفاً حصرياً على إدامة أمد الاستبداد، بل لا تظهر إلا حين تلوح مخاطر الانتقال الديمقراطي.
وفي غضون العقدين الأخيرين، فرضت الدولة العميقة في السعودية نفسها في محطات سياسية حاسمة، وكانت تتدخل لوضع حد لحراك ديمقراطي فاعل، وإعادة الاعتبار والمبادرة للجهاز الأمني للدولة، فيما يتوارى وجهها السياسي، فيصبح خطاب الدولة العميقة شديد الشراسة، تعكسه مؤسساتها الأمنية، والدينية، والإعلامية... حينئذ فحسب يصحّ اختبار جوهر الدولة، وبمقدار ما تتغلغل الدولة العميقة في المجال العام، تتفسخ بناها، وتصبح عارية سوى عن سلطة تزداد بشاعة كلما غلب الأمني على السياسي. حينذاك أيضاً، تتقطع الأواصر، فلا تحرص الدولة سوى على شدّ أعصاب السلطة، وإن أفضى إلى تفتيت البنى الاجتماعية، فالحضور الأمني أكثف من السياسي، الذي يصبح عنصراً ثانوياً.
حين نتأمل مواقيت يقظة الدولة العميقة، نجدها متّصلة بحراك شعبي. وتأخذ اليقظة وتيرة تدرّجية: رصد، تربّص، ثم انقضاض. عنفوان الحراك الشعبي لحظة اندفاعته الاولى يجعل الاصطدام به عبثياً وفي لحظة ما كارثياً، ولذلك فإن خيار إرخاء الحبل يصبح آمناً وعقلانياً، وهنا تقتصر وظيفة رجال الدولة العميقة على مراقبة ورصد قادة الحراك، والشخصيات الفاعلة فيه والمحرّضة عليه. في المنطق الأمني: السماح للرؤوس المحرّكة للاضطرابات بالبروز، وتشخيص أدوارها، ونقاط قوتها وضعفها، واختيار اللحظة المناسبة للانقضاض عليها.

أمثلة ذلك:
ـ عقب اندلاع أزمة الخليج الثانية في آب (أغسطس) 1990، بدأ حراك شعبي مطلبي عبّر عن نفسه في هيئة عرائض تطالب بالإصلاح السياسي تقدّمت بها شخصيات وطنية إصلاحية في نهاية عام 1990 ورفعت إلى الملك فهد، وطالبت بما نصّه «إصلاح شامل لنظام الحكم في البلاد». وتواصل رفع العرائض إلى الملك من قبل تيارات سياسية وفكرية دينية ووطنية، وتخلل ذلك تشكّل أول حركة اعتراض نسائية تظهّرت في كسر الحظر المفروض على قيادة المرأة للسيارة، حيث طافت مجموعة نساء ناشطات بسيارات في شوارع الرياض.
من بين التطوّرات اللافتة حينذاك، انشقاق طبقة وسيطة في البنية التراتبية للمؤسسة الدينية الرسمية، وظهور ما عرف لاحقاً بـ«تيار الصحوة»، الذي شنّ حملة ناقدة على سياسات الدولة ومؤسساتها، في سياق حركة احتجاج وصفتها صحيفة «نيويورك تايمز» في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1990 بـ«معارضة الكاسيت»، وتمحورت انتقادات التيار الصحوي حول المشروعية الدينية لنظام الحكم السعودي، وهي مشروعية بدت في «مذكرة النصيحة»، التي رفعها 109 سلفيين للملك فهد بعد إعلانه الأنظمة الثلاثة (الأساسي، والشورى، والمناطق) في مارس 1992 موضع ريب شديد.
بقيت جبهة التيار الصحوي الأشد سخونة، بعد اعتقال شخصيات إصلاحية وإبرام مصالحة مع «حركة الإصلاح» الشيعية المعارضة في يوليو/ تموز 1993، وظهرت «لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية» كتطوّر لافت في حركة الاحتجاج السلفي، الذي انتهى بانتقال أبرز مؤسسيها إلى المنفى في بريطانيا، وبدء مرحلة المعارضة الدينية السلفية من خارج الحدود.
في تلك الحوادث كان السياسي والأمني يمارسان الدور الأمني ذاته، لأن السياسي متحدّر، في الأساس، من خلفية أمنية. كان الملك فهد وزيراً للداخلية في الفترة ما بين 1962 ـ 1975، وخلفه بعدذاك شقيقه الأمير نايف، ولي العهد ووزير الداخلية الأسبق. ولأن المواجهة تتم داخل دائرة التحالف التاريخي بين الديني والسياسي، فقد كان التعامل حذراً مع مشايخ الصحوة، وجمع بين القمع والاحتواء، فكانت التدابير الأمنية تحصل بغطاء ديني، وقد أفرطت الدولة العميقة في استغلال المفتي السابق، الشيخ عبد العزيز بن باز، وأعضاء هيئة كبار العلماء لناحية إسباغ مشروعية دينية على الإجراءات القمعية ضد مشايخ الصحوة، بما في ذلك اعتقالهم، وحرمانهم من السفر والوظيفة والوعظ العام.
ـ بعد هجمات الحادي عشر من سبتمر/ أيلول 2001 عادت موجة العرائض الشعبية المطالبة بالإصلاح السياسي الشامل، وبدت الأجواء مواتية لحراك شعبي سلمي فاعل. وبرز حينذاك اتجاهان متنافران: الأول، راديكالي عنفي يستلهم من الروح القتالية لبن لادن وشبكة تنظيم القاعدة، والثاني، إصلاحي سلمي يستلهم من القيم الديمقراطية المشاعة عالمياً، ويضم بداخله طيفاً من القوى السياسية من تحدّرات ايديولوجية واجتماعية متباينة. بدأ الاتجاهان يعملان بصورة متزامنة في التعبير عن أهدافهما، وتجسيد وجودهما على المسرح السياسي المحلي، فبينما كانت الجماعات المسلّحة تهيئ لأول موجة عمليات انتحارية ضد المنشآت المدنية في الرياض، كانت القوى الاصلاحية تعقد جلساتها التنسيقية لتسليم أول عريضة لولي العهد السابق والملك الحالي عبد الله في يناير/ كانون الثاني 2003، والتي كانت بعنوان «رؤية لحاضر الوطن ومستقبله»، وقد تضمنت محاور الاصلاح المقترحة التشديد على حاجة الدولة إلى دستور فاعل، واصلاح النظم التعليمية والقضائية، وتشكيل مؤسسات منتخبة، وفصل السلطات، وحرية التعبير، وفتح باب الحوار على نطاق وطني واسع لمناقشة المشكلات الاقتصادية والامنية والاجتماعية والسياسية التي تواجه الدولة. وقد أعقب ذلك تسليم اربع عرائض أخرى من قبل التيار الاصلاحي وبعض اشتقاقاته والتي تلتقي في مطالبها عند السقف الذي حددته العريضة الأولى. ولكن في الخامس عشر من مارس/ آذار 2004 واجه التيار الاصلاحي عملية مباغته أوقفته بصورة حازمة وصارمة، بعد اعتقال رموزه الفاعلة. الملك عبد الله الذي استقبل بعض الموقّعين على عريضة «الرؤية» كما بات يعرف شعبياً، وقال لهم «رؤيتكم هي مشروعي»، وجدوا أنفسهم أمام جبروت الدولة العميقة، التي قبرت خطاب الاصلاح الذي تبناه الملك، على الأقل من الناحية اللفظية. شرّعت الدولة العميقة منطقها، وقاموسها أيضاً، فقد رفض الأمير نايف، وزير الداخلية الأسبق، استخدام كلمة «إصلاح» واستبدلها بكلمة «تطوير»، على أساس أن الاصلاح يومئ إلى فساد الدولة، بينما التطوير عملية ميكانيكية محضة تشهدها كل دول العالم. مهما يكن، ومنذ العام 2003 وحتى نهاية 2010، كانت الدولة العميقة حاضرة بسطوة خطاباً، ونخبة، وأيضاً أجندة انقلابية. وتحت عنوان «التطوير»، باتت مطالب الإصلاحيين أجنّة مشوّهة في رحم الدولة، فقد وضعت الأخيرة حمل جمعية حقوقية «مرتبطة بالملك مباشرة»، فيما ضاق هامش حرية الصحافة على ضيقه السابق، وخلت مقالات الرأي من أي دعوة وإن مخاتلة بالإصلاح. توارى ظل الملك عبد الله، الذي انهمك طويلاً في مشاريع إعادة طلاء وجه الدولة السعودية في الخارج عبر مشاريع حوار الأديان، فيما تكفّل قائد الدولة العميقة في الداخل، الأمير نايف، بإعادة ترسيخ السلطة الشمولية.
ـ في عصر ثورات الربيع العربي، انتعشت مطالب الإصلاح السياسي الشامل، واستعجل المراقبون الأجانب في الترويح لنبوءة وصول رياح التغيير إلى السعودية عقب سقوط نظام حسني مبارك في 11 فبراير/ شباط 2011. كانت النداءات تعلو من العالم الافتراضي لجهة المشاركة في ما عرف بـ«ثورة حنين» المقدّرة في 11 مارس/ آذار 2011. عبّأت الدولة العميقة كل قواها الأمنية والدينية والاعلامية لإجهاض الربيع السعودي. فكان يوم 11 مارس/ آذار مختلفاً من ناحية الحضور الأمني الكثيف، ونقاط التفتيش المبثوثة في المدن الكبرى في المملكة، وحتى المروحيات شاركت، وغصّت المساجد برجال المباحث، فيما أعلنت وكالة الأنباء السعودية في 29 آذار (مارس) 2011 عن أمر صادر عن المفتي العام للمملكة بطباعة 1.5 مليون نسخة من فتوى هيئة كبار العلماء بحرمة التظاهر، وكانت صحف محلية مشهورة تطري على الفتوى وتعتبر ثورات الربيع العربي «ليست عفوية الحدوث، بل هناك أيد خفية دولية وإقليمية تحركها» (الاقتصادية 10 مارس/ آذار 2011). فيما راح صحافيو الدولة العميقة يسوّقون بضاعة «أمن الوطن»، بدلاً عن الحرية.
رغم التقديمات الاجتماعية بقيمة 36 مليار دولار (أعلن عنها الملك في 17 مارس/ آذار 2011)، والتهويل الديني بحرمة التظاهر والفتنة والخروج على ولي الأمر، والفجور الإعلامي غير المسبوق بإنذار المحتجّين في بعض المدن بقيامة أمنية، تواصلت الاحتجاجات لعامين وقد سبقت «ثورة السعوديين في تويتر» على حدّ «نيويورك تايمز» في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2012، ثورتهم الشاملة في الواقع.
تصاعدت وتيرة الاحتجاجات، وحضرت كل الملفات: الاصلاح السياسي الشامل، ملف المعتقلين، التمييز الطائفي، البطالة، الفقر، أزمة السكن، الفساد، نهب الثروة الوطنية، الحريات العامة، قيادة المرأة للسيارة. وفيما كان ما يربو على 9 ملايين ناشط على مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر وفايسبوك) يواصلون نثر آرائهم الاحتجاجية كانت الشخصيات الوطنية والدينية الاصلاحية تستعد لخوض معركة فاصلة مع الدولة العميقة.
كان خطاب الشيخ الصحوي سلمان العودة (خطاب مفتوح) في 15 آذار/ مارس الماضي، والذي حذّر فيه من قمع الثورة الشعبية وقال بالحرف «الثورات إن قمعت تتحول إلى عمل مسلح، وإن تجوهلت تتّسع وتمتد، والحل في قرارات حكيمة وفي وقتها تسبق أي شرارة عنف». كانت الأربع وستون نقطة التي أوردها العودة في خطابه كفيلة بإعلان الدولة العميقة النفير، بعد التأييد الواسع النطاق لخطاب العودة كما جاء في حملة «خطاب العودة يمثلني» في تويتر.
وهنا شهدت البلاد مرحلة انقلابية عبر الإعلان عن خلايا التجسس التي آذنت بمرحلة تدابير قمعية تحت عنوان «أمن الوطن»، وصوّرت خلية التجسس المزعومة باللون الطائفي المراد فرضه عليها، على أنها كافية لشرعنة العودة الشرسة للدولة العميقة. فبركات الأخيرة لخلايا التجسس كانت عبثية وساذجة شكلاً ومضموناً، لأن المستهدفين غير ذي صلة، الأمر الذي استدعى موقفاً إنسانياً ووطنياً من قبل شخصيات دينية وسياسية شيعية في القطيف والاحساء، التي نبذت التوظيف الطائفي لأجواء صنعتها الحكومة، بهدف الهرب من الاستحقاق الاصلاحي. بدا واضحاً أن الهدف من رواية خلية التجسس إحداث قطيعة بين احتجاجات القطيف مع مثيلاتها في المناطق الأخرى، بهدف الاستفراد وتقطيع أوصال الحراك الشعبي.
تكهّنات المراقبين والباحثين بقرب اندلاع ثورة شعبية في المملكة السعودية، وفي العام 2013 على وجه الخصوص، أثارت فزع الدولة العميقة التي باتت تتصرّف من وحي الخوف على المصير، وبات كل رجالها في المؤسسات الأمنية والدينية والاعلامية في الداخل والخارج يعملون على أساس أن ثمة معركة وجودية يجب خوضها قبل غرق السفينة المتهالكة.
* باحث وناشط سياسي