كان علينا أن ننتظر مهاجمة الكاتدرائية القبطية في العباسية حتّى نعاود اكتشاف الفاشية من جديد. لنقل إنّها كانت تحت أعيننا طوال الفترة الماضية، ولكن في شقّها المتعلّق بممارسات العسكر والأمن فحسب. التنظير للثورة هو بالأساس في مواجهة هؤلاء ومن يقف وراءهم من احتكاريين وكومبرادور ولصوص. الحساسية تجاه الإشكاليات الأخرى التي تواجهها الثورة بدت في ظلّ هذا الانحياز باهتة ومحالة على الهامش. وحدهم الليبراليون كانوا مهجوسين بالإشكاليات تلك، ومعنيّين بتغليبها على الأوجه الأخرى التي بدت لهم يسارية أكثر من اللازم، وفائضة عن حاجة «ثورة» لم تطرح على نفسها أصلاً إلّا الأسئلة الليبرالية. بالنسبة إليهم ليست هنالك من قضية في مصر خارج السّجال حول هوية الدولة. لنتذكّر معاً كيف التهم النقاش بين العلمانيين والاسلامويين كلّ المساحات التي حرّرتها الكتلة المنتفضة بغرض الاستفادة منها في المزيد من تثوير المجتمع. القضم هنا وجد له ما يبرّره في كثير من الاعتداءات التي مورست بحقّ الثوريين والمجال العام من جانب اليمين الديني المتطرّف. أصبح الفعل الثوري بعد تكرار هذه الممارسات الفاشية «مضطراً» إلى التعامل مع التيار الديني وجرائمه كما يتعامل مع العسكر والأمن. لم يكن الثوريّون في وارد ذلك عندما انتفضوا ضدّ النظام، فحينها كانت الأولويات مختلفة، وكانت النيّة معقودة لمجابهة العسكر بعدما أزيح مبارك وزمرته من الدرب. اتّضح فيما بعد أن الخلط بين الأولويات إنّما هو نتاج لمفهوم نظري عن الثورة لا يقيم كثير اعتبار للواقع وتعقيداته. من يتابع اليوم الحرب الشعواء التي تخاض على الأرض وفي الحيّز الافتراضي بين التيارين «المدني» والاسلاموي لا يستغرب كيف أديرت المرحلة الانتقالية حتى الآن، وبأيّ أدوات! معركة الثورة كانت منذ البداية ضدّ الفاشيات عموماً، وضدّ الأجنحة التي بدت فاشيتها محتملة أكثر، بالضبط لأنّها ليست عسكرية، ولأنّ إمكانية التوافق معها كانت لا تزال قائمة. ما لم يفهمه الثوريّون جيداً هو أنّ المعركة حين تخاض لا يجوز أن تكون مهادنة ضدّ أي خصم ممكن أو محتمل، واليمين الديني الذي يعاودون الانتفاض ضدّه الآن كان من ضمن أولئك الخصوم. التوافق معه في الأيام الأولى «للثورة» لا ينفي كونه خصماً، وهذا تكتيك سياسي اعتمدته كثير من الحركات الاحتجاجية أثناء تدرّجها في مواجهة السلطة ومن يقف معها. في الحالة المصرية أتيح لليمين الديني أن يتفلّت من الضوابط التي تحكم علاقات موضعية مماثلة. أيضاً سمحت له الشرعية الانتخابية التي أعطته إيّاها «الثورة» ومكوّناتها (بالتنمرد)، فظهر في حلّ من كلّ ما يقيّد حركته، وبدا كأنّه يرث المجلس العسكري فعليّاً لا صورياً. يتّضح اليوم أكثر فأكثر أنّ سلطة العسكر كانت أكثر قابليّة للكسر مما هي عليه السلطة الحالية. لقد أخطأت الكتلة المنتفضة في حساباتها عندما اعتبرت الإخوان ومن ورائهم السلفيين «حليفاً موضوعياً» ضدّ فاشية العسكر. فباستثناء أحداث العباسية والمواجهات حينها أمام وزارة الدفاع جنباً إلى جنب مع السلفيين لم ينخرط التيار الديني في أيّ معركة جدّية مع الجيش. كان على الثوريّين بمختلف تلاوينهم أن يلتقطوا تلك الإشارة حينها، ولو فعلوا لما كنّا قد احتجنا إلى كلّ هذه المعارك مع الفاشية الدينية. بالطبع ليس أمامهم اليوم إلّا المواجهة المفتوحة مع هؤلاء، ولكن عليهم قبل ذلك أن يضعوا لهذه المواجهة استراتيجية واضحة تتفادى الوقوع في المطبّات السابقة التي «صادفتهم» أثناء تحالفهم المشؤوم مع الإخوان. سيكون التناقض مع اليمين غير الديني (العلمانوي) أوّل ما سيواجههم لدى الانتهاء من المعركة المشتركة ضدّ الفاشية الحالية. هكذا يكون التدرّج في المواجهة عادة، وإلّا فلن تكون الثورة عندها... ثورة. أصلاً لم يكن ممكناً أن يكون الصدام مع الإخوان والسلفيين بهذه الحدّة لولا وجود أساس صلب للخلاف، وبالتالي لإعادة تقويم الصراع على ضوء الأساس ذاك وما يترتّب عليه من انزياحات وفضّ للتحالفات. والأساس هنا أيديولوجي في العمق، وما يظهر منه إلى السطح حالياً ليس إلّا رأس جبل الجليد. وكما أنّ المعركة مع الإخوان مطلوبة لذاتها كذلك هي الحال مع اليمين عموماً (كما سبق أن أشرت) ولكن ليس قبل الانتهاء من إسقاط السلطات الحالية في تونس ومصر. لا يوجد معنى للكلام أعلاه عن التدرّج في المواجهة إلّا في ضوء هذا الفهم لآلية اشتغال الثورة. الدينامية الآن تتصاعد باتجاه هدم الفاشية الحالية، وأيّ تطوّر آخر لن يكون ممكناً قبل الانتهاء من ذلك. المرحلة اليوم تبدو «شبيهة تماماً» بحالنا قبل بدء عملية الانتفاض في تونس. كلّ ما أنجز بعد ذلك من توسيع للهامش أمام الحراكين الشعبي والعمّالي مهدّد بالزوال والنكوص إلى الخلف. علينا أن نكون واضحين هذه المرّة أكثر من اللازم: مجمل النقاشات حول العملية السياسية الانتقالية والانحيازات الاجتماعية وموقع الطبقات العاملة والشعبية داخل الثورة و...إلخ لن تصمد كثيرا أمام إصرار الفاشية الدينية الحاكمة على ابتلاع المجال العام. هذه حقيقة أولى يتعيّن التعامل معها «بواقعية» وبإصرار على مواجهتها على ضوء فهمنا للواقع وتحوّلاته. الحقيقة الثانية هي أنّ من سيرفض هذا الابتلاع (ليطمئنّ مرسي فهؤلاء كثيرون جداً جداً ولديهم من الأصابع ما يكفيهم)، ويصعّب على السلطة الفاشيّة مهمّتها سيكون أمامه الاختيار: إمّا الانصياع بالتي هي أحسن، أو الالتحاق بالفلول وما تسمّيه هي «الثورة المضادة»، وعندها سيصبح ممكنا التعامل معه عبر أدواتها وعملائها داخل أجهزة الدولة. وما يحصل يوميّاً مع النشطاء أمام المحاكم ومقار الاحتجاز غير القانونية التابعة للشرطة والأمن يؤكّد ذلك، فهؤلاء الشباب هم الذين يرفعون اليوم أصابعهم في وجه الفاشية ويسمّون جرائمها بالاسم. يفعلون ذلك بإصرار وعناد منقطع النظير، ذلك أنّ الهامش الذي يتحرّكون داخله حاليّاً هو من صنعهم وحدهم، وسماحهم للفاشية وعملائها بالاستيلاء عليه يعني أنّهم لن يعودوا قادرين على انتزاعه مجدّداً إلّا بعد انقضاء وقت طويل. كلّنا نعلم كيف تنتكس الثورات أحياناً، وكيف تصعد الفاشيات على ظهرها لتستبيح كلّ شيء قبل معاودة أصحابها الانتفاض من جديد. نابليون فعل ذلك قبل أن تأتي كومونة باريس بعقود، وكذا الخميني في إيران («الحركة الخضراء» هناك ليست ثوريّة كما يعتقد كثيرون، لكنّها تتيح مجالاً لتجديد حيويّة المجتمع رغم نيوليبراليتها وإذعانها للغرب على الدوام). الوضع في مصر يحتمل قراءات مماثلة، لكن ما يميّزه عن تلك الحالات هو قلّة حيلة الفاشية الحاكمة الآن وعجزها إزاء ما يصدر عن المجتمع من آليّات للمقاومة ومناهضة الأخونة ـــ وهو التعبير الأثير لدى المصريين أو جزء منهم حالياً ـــ. الأرجح أيضاً أنّ العجز ذاك سيزداد بعد الاعتداءات الأخيرة ضدّ الأقباط وكاتدرائيتهم في القاهرة. حينما فعل الجيش أمراً مماثلاً قبل أكثر من سنة ونصف سنة (مجزرة ماسبيرو) لم يكن الأمر برفع الغطاء عن المسيحيين ـــ «تجريدهم من مواطنيتهم» أو اعتبارهم مواطنين درجة ثانية ـــ قد صدر بعد. كان بالإمكان حينها الوقوف ضدّ الفاشية العسكرية والضغط عليها بشتّى أنواع الاحتجاجات، فمن تواجههم كانوا متنوّعين إلى حدّ يصعب السيطرة عليهم، ولو تراجع العسكر قليلاً عن بطشهم بفضل ذاك التنوّع وبفضل الوحدة الاجتماعية التي تحتضنه. ثمّة حدود دائماً لقدرة الفاشية العسكرية على السيطرة والتحكّم في مجريات الأمور، وهذا ما تحاول أن تتفاداه الفاشية الجديدة اليوم، عبر أساليب مختلفة وغير تقليديّة، على رأسها الشّحن الطائفي وتأليب عناصر المجتمع بعضهم على بعض. سبق أن جرّب هذا الأمر في أكثر من مكان يشهد صراعاً بين الفاشيات والكتل التي تنتفض ضدها، غير أن النتائج لم تكن دائماً على قدر توقّعات السلطة أو ترتيباتها. في سوريا مثلاً كان المصير المحتوم لزجّ الجيش في الصراع ضدّ جزء من شعبه هو الفوضى الشاملة وتذرّر المجتمع على النحو الذي نعاينه يومياً. السلطة المافياوية كانت تعرف ذلك وراهنت على أنّها ستبقى وحدها بعد أن ينهار كلّ شيء، لكنها فوجئت بتماسك الكتلة الاجتماعية المعارضة وبقدرتها على توليد آليّات ذاتية تتكيّف مع حجم الدمار الذي لحق ببنيتها من جرّاء بطش السلطة. لاحقاً حصلت تطوّرات مذهلة أهمّها أنّ السلطة التي تولّت إدارة المناطق الخارجة عن سيطرة الفاشية قد باتت فاشية بدورها، وأخذت ترث النظام في كلّ شيء! أحياناً بدت «أكثر نجاحاً منه» في جزئية التلاعب بالمسألة الطائفية، وشحن المجتمع المتضرّر من بطش السلطة بالكراهية ضدّ الأجزاء الأخرى التي لم تتضرّر بالقدر ذاته (بعضها لم يتضرّر أبداً). ليس من قبيل الصدفة أبداً أن يكون هؤلاء بالذات على صلة تنظيمية بالفاشية التي تحكم مصر الآن. إذا نجحوا في سوريا كما نخشى وكما لا يفعل النظام (نظرية استدراجه المنتفضين إلى فخّ العسكرة باتت ملائمة جداً بعد انضمام القاعدة إلى جوقة المتلاعبين بالمشهد هنا) فسيكون ذلك حافزاً لأشقّائهم في مصر. بالمناسبة السلطة في سوريا لا تزال أكثر فاشيّة من هؤلاء، وبالتالي تبدو أقرب إلى الإخوان والسلفيين في مصر من سلفيي سوريا وإخوانها! ربّما كان القيادي الاخواني محمد البلتاجي محقّاً في النهاية، فهو توعّد الثوريين المصريين «أكثر من مرّة» بتحويل الصراع في مصر إلى سوريا أخرى إن لم يرتدعوا، ويكفّوا عن انتفاضهم! بالطبع سيفعل ذلك، فسوريا حالياً هي نموذج فعلي لتربية المكوّنات الفاشية وتسمينها إلى أن تصبح قادرة على إخضاع الشعب وتركيعه، مرّة باسم السلطة وجيشها وأمنها، ومرّة أخرى باسم «الثورة» ومسلّحيها، لكن ثمّة ما يصعّب على الإخوان في مصر مهمّتهم، ويجعلها مستعصية بخلاف الحال هنا:إضرابات العمّال والطلبة والأطبّاء وسائقي المترو و...إلخ. هؤلاء جميعاً ينتمون بتفاوت وبحسب التقسيم الاجتماعي لأعمالهم إلى ما يمكن تسميته الطبقات الاجتماعية العاملة. وهو مفهوم أوسع بقليل من التعريف الماركسي الكلاسيكي لمصطلح البروليتاريا. بالطبع جرّبت الفاشية هناك متمثّلة في الإخوان المسلمين وحلفائهم استدراجهم إلى مربّع الهويات الضيقة، إلّا أنّها لم تفلح كثيراً. كان لافتاً مثلاً حضور «الأقليات غير المسلمة» بكثافة ضمن الاحتجاجات المتدحرجة يومياً، لكن ليس بوصفها كذلك، بل بكونها تمثل إلى جانب آخرين لا يشاركونها المعتقد (الديني) ذاته ضمانة لصيرورة الهويّة الاجتماعية على نحو طبقي. من هنا لا يستخدم هؤلاء عندما يتحرّكون رموزاً دينية كما يفعل التيار اليميني داخل الكنيسة القبطية، أو كما تفعل القاعدة الاجتماعية للفاشيّة الحاكمة، بل يرفعون أعلام الأحزاب والحركات الثورية التي ترمز إلى انحيازاتهم الطبقية والاجتماعية. ستبقى انتماءاتهم الدينية موجودة وحاضرة ولكن كأثر رمزي لا يقدّم أو يؤخّر شيئاً في سيرورة انخراطهم داخل الثورة. كذلك فان مصير الثورة هناك متعلّق بمدى نجاحهم في الاستمرار كطبقة، لا كأفراد كما يريد الرأسماليون وأصحاب الامتيازات، ولا كطوائف كما تريد الفاشيات الدينية. نحن في سوريا فشلنا في ذلك، وبتنا موزّعين بالتساوي على الفاشيات ورؤوس الأموال واللصوص والإمّعات من كل الأنواع. إيّاكم أن تفشلوا في مصر. عليناً فعلاً أن نفوّت الفرصة على البلتاجي وأمثاله. إذا أسقطناهم بوصفنا أفراداً وجماعات فسنخسر القضيّة ولو ربحناها (صورياً طبعاً)، أمّا إذا فعلنا ذلك كطبقات وكفاعلين في صياغة هويّة سياسية للنضال ضدّ الفاشية، فسيكون سقوطهم مضاعفاً: مرّة كفاشية دينية فشلت في التلاعب بالهويات الضيّقة وتوظيفها، ومرّة أخرى كفاشية سياسية تستخدمها طبقة بعينها كذراع لتحطيم وحدة الطبقات الأخرى المنتفضة ضدّها. في الحالتين ثمّة ترياق اسمه الطبقات الاجتماعية أو العاملة. حاولوا أن تتناولوه ولو مرّة واحدة في اليوم. لا تنسوا أيضاً أن تدعوا للسوريين، فليس لديهم منه إلّا القليل.
* كاتب سوري