القاعدة أن يكون الحزب الشيوعي حزب التغيير: أن يصوغ له البرامج والخطط في ضوء نظريته ونظرته الثورية. هذه القاعدة مقلوبة الآن. لاحظ زياد الرحباني، وهو الذي اشتهر، دون أن يسعى إلى ذلك، بالاستشراف عن بعد ومن قبل، بأن «التغيير من الداخل» والداخل هو «الحزب». السبب «هشاشة» الحزب التي تتفاقم يوماً بعد يوم. والهشاشة ليست سبباً. إنها نتيجة. يعني ذلك أنه يجب الذهاب إلى عمق الأزمة التي يمرّ بها الحزب، فتشلّ دوره ووظيفته في تحفيز التغيير وفي تحويله طاقة فاعلة في تحديد مسار الأحداث.المؤتمرات هي مبدئياً وعادة، محطات وفرص للمراجعة والتصويب والتصحيح. تلوح فرص ذلك في الوقت الراهن بمناسبة حلول موعد انعقاد المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي. لكن الذين يديرون شؤون الحزب يرفضون الاعتراف بأزمته. وهم لذلك، أصروا على إضفاء صفة «العادي» على المؤتمر المذكور: الدنيا بألف خير! أكثر من ذلك، هم لم يجدوا سبباً «مقنعاً» لعقد المؤتمر في موعده بحلول شهر شباط الماضي. ضُرب موعد جديد بعد ثمانية أشهر من الموعد القديم. لا بأس من الاستفادة من هذه المدة، وتمديدها إذا لزم الأمر، من أجل إجراء بعض «العمليات الجراحية» (حسب وصف أحد أعضاء المكتب السياسي في أحد الاجتماعات التحضيرية!).
مرّ التأجيل بسهولة نسبية. حتى في نظام مفلس، كالنظام اللبناني، لم يمر تأجيل الانتخابات دون مخاض عسير. لم نسمع أحداً يتبنى تأجيل الانتخابات التشريعية، وإن كان كثيرون يتمنون أو يعملون من أجله. غريب أن تكون قوى «التقليد» أحرص على احترام الاستحقاقات والالتزامات من قوى التغيير!
«والعمليات الجراحية» المذكورة آنفاً هي كناية عن التخلص من المعارضين. أما الوسائل فهي الاستبعاد والإقصاء والفصل. والغاية «الثورية» تبرر الوسيلة: فلا بأس من تركيب الإفلام وإطلاق الشائعات وكيل الاتهامات. الموضوعية والإنصاف لا مكان لهما في «مواجهة الخطر». والحقيقة لم تعد «دائماً ثورية» كما كان يعتقد لينين. الأولوية لصيانة المقعد، ولو كان مثقوباً أو «هشاً» كما وصف زياد. أما «العلاقات الرفاقية»، فقد باتت موضة قديمة، أكل الدهر عليها وشرب.
بين أبرز، بل «أخطر»، ما يواجهه الحزب الشيوعي تطبيق مبدأ تداول المسؤوليات القيادية على مستويي المركز والمناطق. هذا قرار اتخذ قبل 12 سنة، أي في المؤتمر الثامن، من أجل أن يطبق في المؤتمر الحادي عشر. تكرر هذان العهد والتعهد في المؤتمرين التاسع والعاشر. مهلة الدزينة سنوات تلك كانت أكثر من كافية، كما قيل يومها، من أجل إعطاء كامل الفرصة لذوي المواهب الخاصة لكي يعبّروا عنها تفعيلاً لعمل الحزب وتطويراً لدوره وحضوره وتأثيره. بالنسبة إلى البعض، كانت تلك «شطحة بورجوازية» خطيرة ولا مبرر لها. جرى تحيُّن الفرص للانقضاض على العهد المقطوع و«التداول» الموعود. لم تكن الفرص كثيرة. أكثر من ذلك، ألحَّ البعض على ضرورة الإيفاء بالوعد والتزام قرارات المؤتمرات الثلاثة. وحيث إن حسن تحقيق هذه النقلة النوعية (نحو المشاركة وتطوير المسار الديموقراطي) قد اشترط ضخ دم شاب بشكل منهجي في الجسم القيادي بنسبة 20% في كل مؤتمر، فقد بات عنصر الشباب خصماً ومنافساً موضوعياً، يجب النيل منه، بما تيسّر من وسائل الإلهاء والإبعاد والتهديد والتهشيل والاستتباع...
«العمليات الجراحية» الجارية الآن نالت من كثر. وهي أيضاً إنذار موجه إلى آخرين. ذهبت ضحية ذلك عناصر واعدة جديدة وعناصر مخضرمة أمضت عقوداً في النضال الحزبي. ذهبت ضحية ذلك أيضاً هيئات مرجعية، بما في ذلك الهيئة القضائية الوحيدة في الحزب، رغم أنّ تعطيلها ينال من كل شرعية الهيئات الأخرى. هذا التعطيل أفقد الحزب الشيوعي القدرة على الاحتكام إلى هيئاته لبتّ النزاعات والتباينات وكشف الحزب أمام الإعلام وحتى الشارع.
الأداة الفعَّالة في كل ذلك كانت «التنظيم». والتنظيم هذا هو باللجوء إلى إنشاء حزب داخل الحزب: يلغي دور هيئاته الشرعية لمصلحة التكتل الذي استولى، تباعاً، على المواقع القيادية المؤثرة.
يدور الحزب، بسبب «عملية التحضير» للمؤتمر الحادي عشر، هذه، على نفسه، ويتخبط في مشاكله الداخلية. وهو يقف عاجزاً، نتيجة ذلك، عن الانخراط في نقاش وتحفيز سليمين من أجل تجاوز أزماته وتفعيل دوره. ومعروف أنّ الحزب عندما يتعافى، يتعافى أيضاً مجمل التيار الوطني والتغييري في لبنان.
تستلهم قوى التكتل المذكور تجارب محزنة طبعت بعض تاريخ الشيوعيين، وخصوصاً في المرحلة البكداشية. يومها دفع الثمن المئات، وكان الشهيد الكبير فرج الله الحلو أبرزهم. استعادة هذه التجارب، بشكل مكثف الآن، لا يعد إلا بالمزيد من الخسائر و«الهشاشة» كما عبّر زياد الرحباني.
لم يفت الأوان بعد. لا بد من صياغة منهجية لانتشال الحزب من هذه المأساة.
سيقال هذا خروج على التنظيم. إنه فعلاً خروج على «التنظيم»، من أجل إعادة بناء الحزب على أسس الديموقراطية التي لا تسمح بأن يلغي صاحب السلطة منافسيه أو أن يتعسف باستخدام هذه السلطة.
ليس الحزب الشيوعي ملكاً لأعضائه الحاليين فقط. وليس حتى ملكاً لهؤلاء ولمن تركوا المواقع التنظيمية (وقد باتوا الأكثرية الساحقة). إنّه «حزب الشعب اللبناني». بهذا المنظور يمكن مقاربة أزمة الحزب ودوره. فتطرح مشاريع وثائق مؤتمره، كما كان يحصل سابقاً، على الرأي العام الحزبي والوطني والسياسي: تُطرح في شقها السياسي والتقويمي، أملاً في استدراج مشاركة واهتمام يغنيان نقاش أعضائه ويثيران اهتماماً واسعاً، ويتوجان نشاطاً وتجربة عظيمتين قدمهما أفراد حزبيون وزملاؤهم في التحرك الأخير الذي أطلقته «لجنة التنسيق النقابية» وشمل كل لبنان.
* كاتب وسياسي لبناني