ما يحدث الآن بين الكوريتين ليس مهمّاً إلا بمقدار معيّن هو مقدار النيّة التي تبديها الرأسماليات المتصارعة لتنظيم الاختلافات بين أطرافها. أزمة كوريا الشمالية هي آخر ما يعوق التنظيم ذاك، وهي كذلك أوّل ما يمكن استخدامه بغرض الابتزاز والضغط على الطرف المهيمن والمتمدّد عسكريّاً واقتصادياً على حساب سواه (ما أجمل أن يبتزّ المرء الأميركيين ولو باستخدام ديكتاتورية سافرة ككوريا الشمالية).
تبدو الأمور وفقاً لهذا «التحليل» وكأنّها تجري بمعزل عمّا تلوكه وكالات الأنباء والصحف والفضائيات من أخبار وتحليلات. بالطبع لا تستطيع الصحافة المهيمنة مقاومة الميل الجارف لدى الامبرياليات الغربية في استعراض قواها النووية الباذخة، لكنْ ثمّة أيضاً مرض مزمن لدى أهل الإعلام، سواء انتموا إلى هذا المحور أو ذاك، اسمه الولع بالحرب وأخبارها. لا تؤخذ الحرب هنا إلّا بمظاهرها، ولا تبدو شبيهة بشيء قدر شبهها بالكاريكاتور. لنفكّر قليلاً في الصورة التي يجري تسويقها لكيم جونغ أون حالياً. الرجل يحاول فعلاً أن يستعرض قوّته «بأكثر ممّا تحتمل المرحلة»، وبقدرة على المناورة أضيق بكثير من تلك التي كانت في حوزة أبيه وجدّه. لكن ما يصلنا من صور له ولمساعديه لا يعكس هذه الحقيقة بالقدر الكافي. حتى مواقف روسيا والصين المتذبذبة حيال المشهد يجري توظيفها في سياق التلاعب بالصورة. لا مكان هنا لتأويلات تحاول أخذ الأمور أبعد بقليل من حيّزها السياسوي. هكذا نفهم من التعاطي الإعلامي المسيطر مع المسألة. قطعاً لسنا في وارد الكلام عن الاقتصاد الآن، رغم أنّه كالعادة يقبع في خلفية كلّ ما يحدث وما لا يحدث. لنجرّب هذه المرة الحديث عنه بالواسطة. طبعاً كلّنا نعرف الصعوبات التي تعاني منها كوريا الشمالية جرّاء العقوبات المفروضة عليها «دولياً». الامبرياليات الغربية لا تفعل ذلك عادة إلّا مع الخصوم الفعليين. و«كوريا الديموقراطية» (كما يحبّ الستالينيون تسميتها) خصم لهؤلاء تماماً كما هي الحال مع كوبا. لكن ما يجعل منها خصماً سهلاً بخلاف كوبا هو عجزها عن تقديم المثال. خلال أكثر من ستّين عاماً (منذ الحرب الكورية تقريباً) لم يصلنا شيء من «امبراطورية» كيم ايل سونغ. وما وصلنا فقط هو الخبرات العسكرية التي كانت تمدّنا بها «العائلة المالكة» «بين الحين والآخر». أيضاً لا نملك معلومات فعليّة عن حجم التبادل الاقتصادي بين كوريا الشمالية والأنظمة «الاشتراكية» التي كانت قائمة في المنطقة، وكذا الأمر في ما يتعلّق بالنشاط الاقتصادي داخل كوريا نفسها. يا ترى هل بالإمكان الحديث عن تدخّل الدولة في الاقتصاد هناك لتوزيع الثروة على نحو عادل، وهل الكلام عن الأوليغارشيا الحاكمة والفقر المدقع صحيح أم هو «محض دعاية امبريالية»؟ ثمّة غموض لا تجد مثيلاً له حتّى في الدول التي تعرّضت ــ كما كوريا ــ للحصار والإرهاب الاقتصادي من جانب الغرب. في كوبا مثلاً نعرف الكثير عن نظاميها الصحّي والتعليمي «المتقدّمين بأشواط» على النظم القائمة في الامبرياليات الغربية. نعرف كذلك أنّ المكانة التي يحتلّها فيديل كاسترو في وجدان الكوبيين لم تخوّله التحوّل إلى إله، أو إلى كومة من التماثيل الرثّة والقبيحة. وهذه الأخيرة منتشرة في طول كوريا الشمالية وعرضها على شكل «أصنام» للجدّ المؤسّس كيم ايل سونغ (نحن في صدد الانتهاء من هذا الأمر هنا). كلّ ذلك وغيره الكثير كان يصبّ في طاحونة الامبريالية وفي نهمها إلى ابتلاع صورة الخصم الأيديولوجي، وتقيؤها لاحقاً ككاريكاتور أو كمسخ. هي لم تستطع فعل ذلك مع عبد الناصر رغم أنّه كان شمولياً، وأضناها كذلك تحوّل بعض «الاشتراكيات» إلى ديمقراطيات شعبية تفوقها في النفوذ على مستوى القارّة ــ حالة فنزويلا مع تشافيز ــ، بينما استطاعت في الحالة الكورية أن تحوّل السّجال النووي بينها وبين النظام الستاليني إلى مادة للتندّر، بدل أن يكون مصدراً للرهبة والترقّب كما كانت عليه الحال أيّام الاتحاد السوفياتي السابق، أو كما يحدث الآن في روسيا بعد عودتها من البوّابة البيروقراطية القومية المقوننة لعمل المافيا. في الحالة السوفياتية كما في حالات أخرى مماثلة كان السلاح النووي هو آخر ما يمكن أن يشهره الروس في وجه خصومهم، رغم كونه فعليّاً المصدر الأساسي للتوازن والردع المتبادل بين المعسكرين. لم يكن الروس مكشوفين وقتها إلى الحدّ الذي تبدو عليه كوريا الشمالية اليوم. كانت الصناعات الروسية الثقيلة منها والخفيفة مصدراً أساسيّاً للدخل القومي، إلى جانب مساهمتها في المجهود الحربي. صحيح أنّ ما ظهر من الصراع بين المعسكرين بدا موحياً بأنّ الحرب هي الأساس، وبأنّ كلّ ما أنجزته روسيا من تصنيع إنّما يصبّ في مطحنتها أخيراً، إلا أنّ أوجه الحياة الأخرى بقيت قائمة في تلك البلاد، وظلّت تسير جنباً إلى جنب مع مسار الحرب. حصل شيء من هذا القبيل أيضاً في الصين، الحليف الأقرب إلى كوريا الشمالية. هناك حيث لم يبقَ من تجربة ماو تسي تونغ إلّا الشيء القليل، وحيث غدت رأسمالية الدولة هي المدار الفعلي للنمو الاقتصادي بعدما أنجز دينغ سياو بينغ قطيعته مع الثورة الثقافية لا تزال الولايات المتحدة عاجزة عن احتواء التجربة. كلّ القواعد العسكرية التي أقامتها تدريجيّاً في مجال الصين الحيوي هي نتاج لهذا العجز، وعلى ما يبدو فهو مرشّح للتفاقم أكثر فأكثر. وإذا لم تفعل شيئاً في هذا الصدد ولو على سبيل اليأس من الإتيان بأفعال غير عسكرية فستبدو كمن يبيع لقاعدتها الاجتماعية العريضة أوهام السخرية من الكاريكاتور التوتاليتاري، في حين أنّها تعاني من أعراض هذا الكاريكاتور بالذات (ما رأي هواة نقد التوتاليتارية بذلك؟). الصراع بين الرأسماليات على الأسواق يحتّم ذلك، وهذا ما يجعل من الكلام المتواتر عن الديموقراطية والمسألتين القومية والثقافية أمراً خارج السياق. والأرجح أنّ ما يحصل الآن بين الكوريتين هو «آخر محطّات هذا الصراع»، بعدما أصبحت الحروب التقليدية بين الامبرياليات وراءنا. كلّ ما يحدث حاليّاً هو تنظيم للخلاف بين امبرياليات آفلة ــ أو في طور الأفول ــ ورأسماليات صاعدة. بهذا المعنى لا تخوض كوريا الشمالية اليوم «حربها» بالأصالة عن نفسها، بل بالوكالة عن الأصيل الذي يشعر في هذه اللحظة بتمدّد الامبريالية الأميركية عسكرياً في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. لا يهمّ إذا كان التمدّد هنا بغرض التغطية على الانحسار الاقتصادي، فالرأسمالية الصينية ماضية في «معركتها» رغم معرفتها بذلك، ورغم الاتفاق المسبق مع الأميركيين على قوننة الصراع وتنظيمه. لنلاحظ أيضاً أنّ الصين لا تدفع من كيسها هنا، فمن يدفع هم الكوريون الشماليون وحدهم. وهذا سبب إضافي لكي يتعامل معهم الإعلام المسيطر ككاريكاتور، لا كقوّة نووية في صدد مواجهة كبرى مع الغرب وذراعه الأميركية الضاربة. الصين نفسها تبدو متورّطة في تعميم هذه الصورة عن شقيقتها الصغرى، فلو لم تتعامل مع النظام الكوري بذرائعية محضة لما كانت السخرية التي يواجه بها شعب كوريا الشمالية قبل نظامها شائعة إلى هذا الحدّ. صحيح أنّها المنفذ الوحيد لكوريا على العالم، وصحيح أيضاً أنّها تمدّها بشريان الحياة عبر التبادل التجاري الذي تلاشى بالكامل مع باقي الدول بعد الحصار والعقوبات المتكرّرة، إلا أنّها لا تقدّرها كما ينبغي لدولة أن تفعل مع دولة أخرى. وحين يتصاعد النزاع بين كوريا الشمالية وجيرانها المتحالفين مع الامبريالية (اليابان وكوريا الجنوبية تحديداً) تكلّف الصين بمهمّة التحكيم، تماماً كما يفعل كلّ الأوصياء في حالات مماثلة. في العادة تنتهي الأمور بشكر الجميع للصين على تدخّلها، وعلى فضّها للنزاع بالتي هي أحسن، لكن بعد أن تكون السيادة التي يتشدّق بها نظام العائلة قد أصبحت في خبر كان. لا يشبه الأمر هنا ما كان يحصل أيّام المعسكر الاشتراكي، فالصين حينها كانت تحمل مشروعاً تحرّرياً وإن اختلفنا في تقويم مآلاته، وكذا الأمر مع الاتحاد السوفياتي السابق. في ذلك الوقت كانت الأسلحة تتدفّق على المقاومات وحركات التحرّر لأنّها بدت وحيدة في مواجهة البطش الامبريالي، ولأن التماسك الايديولوجي الذي ميّزها وجد امتداداً فعلياً له داخل دول المعسكر الاشتراكي السابق. في المقابل ظهرت هذه الدول بمظهر من يتعفّف عن طلب مقابل لدعمها. بالأحرى لم يكن هنالك من مقابل أصلاً. والى أن تتبلور الكتل الاجتماعية المنتفضة حاليّاً، ويصعد مشروع بديل من صلبها لا على ظهرها سيبقى النقاش بشأن كوريا الشمالية وأزمتها في إطار الكلام عن توازنات تصنعها الرأسماليات حين تتفق وحين تختلف أيضاً. اليوم هي مختلفة على أمور كثيرة: على تقاسم الأسواق، وعلى كيفيّة تظهير الانحسار الغربي من دون أن يبدو انكساراً لشريك أساسي في الكعكة المالية («الشراكة» هي معيار العلاقة بين الغرب وروسيا والصين حالياً!)، وعلى حجم وتموضع الأساطيل الحربية الموكلة برعاية التقاسم ذاك. ثمّة «حكمة» تقول: عندما يختلف الكبار يدفع الصغار ثمن اختلافهم. في الماضي كان الثمن محتملاً أكثر، لأنّه يدفع لقاء ما هو أهمّ من البقاء على قيد الحياة. الآن جلّ ما تطلبه «كوريا الشمالية» وشعبها في ظلّ حكم ستاليني وبقايا «اشتراكية» سلالية هو ألّا تفنى! الامبريالية الأميركية الوضيعة والقذرة تستكثر عليها هذا الطلب، وتشدّد الخناق على شعبها ــ قبل نظامها ــ أكثر فأكثر. ومن يبحث عن الكاريكاتور حقّاً وعن مسخ السياسة وتحويلها إلى بضاعة للاستهلاك الإعلامي الرخيص فسيجدهما هنا لا في أيّ مكان آخر. الجميع على ما يبدو راضون بذلك، فلعبة الإثارة واستهلاك الحرب كمنتج وكماركة للتسويق باتت حاجة في زمن الانتقال من الرأسمالية إلى... الرأسمالية. أمّا من يبحث عن ملمح اشتراكي في ما تفعله الصين فلن يجده على الأرجح، إلّا إذا كفّت الشعوب عن دفع ثمن الصراع بين الرأسماليات. حتى الآن لا يبدو الشعب الكوري في وارد ذلك. هو يطالبنا بالكفّ عن التعامل معه ككاريكاتور، وكملحق بنظام العائلة في كوريا الشمالية. حبّذا لو يسمع المتيّمون بالحرب على ضفّتي «الممانعة» والركوع هذا الكلام.
* كاتب سوري