قد خلق الله الإنسان وأودع فيه متلازمتين، العاطفة والعقل، وذلك للإختيار في كل شؤون الحياة، ولا يمكن الإستغناء عن أي منهما.
فالعواطف هي التي تشعرنا بعظمة الخالق والمخلوقات التي حولنا وتحرك فينا بواعث العمل والأمل والإيمان بالغيب، وتبعث بالشباب خاصة على الحماسة والنشاط.
والعقل يوصلنا الى البراهين القاطعة في ما يتعلق بعباداتنا وحياتنا ومصالحنا المادية والمعنوية. ويوصلنا العقل ايضاً الى الحكمة... ومن يؤتى الحكمة فقد اوتي خيراً كثيراً.
وفي لحظات حساسة وصعبة يصعب فيها القرار في الاختيار لتضارب العقل والعاطفة كأن تكون انت أو أحد من ذويك مريضاً وفي حاجة الى عملية جراحية تؤلم لساعات ولربما لأيام... أو أنيناً وونيناً لسنوات. فهنا عليك أن تختار ولا شك أن العقل سيرشدك إلى تحمّل الم ووجع الساعات في سبيل الخلاص الكلي من المرض، فتلجأ الى العملية وإن كانت موجعة وخطيرة أيضاً.
ليس من العقل ولا من
الشرع أن نغطي احداً يحمل سلاحاً

وفي وقت الحيرة بين العقل والعاطفة لا شك ان الإنحياز الى العقل هو عين الصواب لأولي الألباب.
وحينما تحضر المصاعب والابتلاءات على الإنسان الفرد أو المجتمع أو الأمة، هنا على العقلاء وأهل الحل والعقد أن يختاروا الصالح وأن يدفعوا به لكي يمنعوا ما هو أعظم ويدرأوا المفاسد.
ولا شك أن تحقيق الكرامة للفرد وللمجتمع هي من اختيارات العقل والعاطفة معاً.
ويظن البعض أنّ الكرامة تتحقق عن طريق القوة، وخصوصاً إذا كان الطرف الآخر يستخدم القوة فيكون الرد بالمثل، ولربما استند مثل هذا إلى قول "المعاملة بالمثل، وردّ الصاع صاعين"، ولربما استدل البعض قولاً كريماً من كتاب الله تعالى: وان اعتدوا عليكم فاعتدوا عليهم بمثل ما اعتدوا عليكم.
لكن الأمثلة الشعبية والكلمات السجعية وحتى الروايات لا يمكن تقديمها على الآيات البينات، وثانياً: ان لكل آية مقاماً وموضعاً ومثل هذه الآية التي يقرأها البعض انما يكون مثالها وتطبيقها في حالات الإعتداء بين قومين وأمتين مختلفتين متصارعتين.
إن ما نلاقيه من معاناة هو إمتداد لمعاناة عمرها مئة عام لم يحمل أباؤنا فيها يوماً حجراً او سكيناً فضلاً عن السلاح، ولم نبطش بأحد ولم نقتل أحدا ولم يكن الظلم من شيمنا ولا من شيم اسلافنا ولا نريده أن يكون من شيم مجتمعنا المؤمن.
وقد رددنا على من اعتدى علينا بالورد وبالكلمة الحسنة وينبغي ان نكون كذلك دائماً.
حتى الشيخ محمد بن نمر عندما كانت الأحداث التاريخية في القطيف سنة 1348 للهجرة، لم يدع الناس لإستخدام السلاح في وجه الدولة بل أمر الناس بالاحتفاظ بأسلحتهم وعندما احتفظوا بها احتاجوها ليواجهوا بها البدو الغزاة حيث لم يكن الأمن حينها مستتباً.
إن نهج السلمية سلاح فتاك في عالم السياسة واقوى سلاح معنوي للمستضعفين. ولم يكن عبثاً عندما كرّر الشهيد الشيخ النمر رحمه الله أكثر من مرة وأكثر من مقولة، وفي أكثر من موضع، ضد العنف ولعل أبرزها مقولته المشهورة: زئير الكلمة اقوى من ازيز الرصاص.
إن من يريد أن ينهج المنهج الحقيقي للشيخ الشهيد رحمه الله، عليه الإلتزام الكامل والصريح بالسلمية ومن ادّعى غير ذلك فقد طعن الشيخ الشهيد في ظهره وقتله اشد من قتلة الثاني من يناير 2016. وقد رأينا كيف أنّ العالم الغربي خاصة تضامن مع الشيخ الشهيد واكتشف حركته السلمية النقيضة كل التناقض والإرهاب المزعوم والملفق ظلماً بالشيخ الشهيد ورفاقه رحمهم الله.
ان منهج السلم وعدم الاعتداء والبدء بالقتل لهوَ منهج رباني أصيل، دلت عليه كثير من الآيات الكريمة في القرآن والروايات الشريفة وكذا سيرة اهل البيت عليهم السلام.
واثبتت تجارب التاريخ ان القتل ليس حلاً، فقال هابيل لقابيل: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
وهذا مثال منذ بدء الخليقة الى يومنا هذا، وقد رأينا كيف تعاطى الزعيم نلسون مانديلا في جنوب افريقيا مع خصومه، وكذا مارتن لوثر كينغ في أميركا وغاندي في الهند وغيرهم من القادة السلميين في العالم، وقد دخل الشهيد الشيخ نمر باقر النمر هذا العالم من قريته الصغيرة الى هذا التاريخ من أوسع أبوابه.
ان الحركات والمطالبات السلمية ومبدأ اللاعنف هي أقصر الطرق لتحقيق الأهداف والمكاسب، والعنف انما يزيدنا بعداً عن تحقيق الأهداف المنشودة والحياة الكريمة.
إن استخدام السلاح في بلادنا، وتحديداً مجتمعنا، انتحار ولربما كان هناك من عديمي الفكر من يريد أن يوقعنا فيه.
لسنا في حاجة الى عنف وعنف مضاد، إنكم تسيئون الى حركة مطلبية قام بها من هم قبلنا، ولم يستخدموا فيها أيا من وسائل العنف والقوة برغم كل الضغوط، ولذلك بقينا واستمررنا، ولو استخدم اسلافنا السلاح، لما كان لنا نحن اتباع مدرسة اهل البيت عليهم السلام وجود الان في هذه المنطقة.
وأرى انه ليس من العقل ولا من الشرع أن نغطي احداً يحمل سلاحاً في وجه الدولة، او غير وجه الدولة وقد رأينا كم هم الأشخاص الذين ذهبوا ضحية للرصاص الطائش من أطفال ومراهقين يحملون السلاح.
إن السلاح ينبغي ألّا يكون إلا بيد الدولة فقط، وهذا ليس قانوناً او فكرة أنا ابتدعتها إنما كل المجتمعات المتقدمة، وتلك التي فيها معارضة وخصومة وعداوة مع حكوماتهم، فإن رفع السلاح يهزم قضاياهم السياسية والحال اننا لسنا في مواجهة ولا معركة ولا جبهة قتال مع الدولة ولا نريد ان نكون كذلك بأي حال من الأحوال وفي أي وقت من الأوقات.
كما ينبغي ايضاً ألا يكون هناك تبرير لأحد يمارس العنف، أو يحمل السلاح في مقابل سلمية اسلافنا وسلمية الشيخ الشهيد وسلمية اهل الحل والعقد في مجتمعنا.
ولعل هناك من يروقه ان يشيطن أهالي العوامية والقطيف لكي يحقق من وراء تلك الشيطنة مكاسب مادية او غير مادية.
فلنسحب البساط من تحت ارجلهم ولا نعطِهم الذرائع ولا ندع فرصة لحبكات أمنية تفسح المجال لإنتهاكات وزيادة في التوتر وتفسد علينا مسيرتنا في المطالبة بالحقوق التي نعتقد بمشروعيتها.
رحم الله الشهداء الأبرار الذين سقطوا في الثاني من يناير 2016، الشيخ النمر ومحمد علي الصويمل وعلي ابن سعيد الربح ومحمد فيصل الشيوخ، ومن سبقهم من الشهداء الذين سقطوا في الشوارع وفي المساجد والحسينيات وكل مكان.
(كلمة القيت في جامع الامام الحسين (ع) في العوامية، بتاريخ 11 فبراير/ شباط 2016، لمناسبة أربعين الشهيد الشيخ نمر باقر النمر)
* أخ الشهيد نمر باقر النمر