إني أتهم. يتعرّض العلويّون في لبنان لحملة اضطهاد فظيعة لم تصل إلى مرحلة الإبادة ــ ليس بعد. لكن أصوات المطالبة بتكفير العلويّين وإبادتهم باتت ترتفع من عناصر ليبرالية وسلفية في لبنان وسوريا على حدّ سواء. والذي هدّد العلويين في سوريا بالفرم يُحسب على الجناح الليبرالي في فريق 14 آذار السوري. لكن لو تركنا الشأن السوري جانباً، فيمكن الحديث عن وضع العلويّين في لبنان بصرف النظر عن تطورّات الأوضاع في سوريا وبصرف النظر عن ضخّ الكراهية من مصانع الوهابية.لبنان أصرّ منذ إنشائه ككيان يخدم المُستعمر على تشكيل تراتبية عنصرية من هرمية الكراهية التي تنبع من عقيدة التسلّط الطائفي الذي أرادته البطريركيّة المارونية (المُتحالفة فعلاً مع الصهيونية والتي وقّعت معها اتفاقية سريّة عام 1946، والتي لم نعلم بها إلا بعد كشف الوثائق في الأرشيف الصهيوني في الثمانينيات من القرن الماضي). وعليه، فإن الموارنة هم الأرفع مرتبة وذلك نتيجة (وسبب) بنيان الطائفيّة الذي فرضه المُستعمر مع حلفائه على الشعب اللبناني منذ بدء الجمهورية. لكن فرض (لا) ديمقراطيّة قائمة ــ مثلها مثل الصهيونيّة ــ على تفوق عنصر على عنصر آخر (أو على عناصر أخرى) يؤدّي حتماً إلى تأسييس التمييز والاضطهاد والقمع الطائفي والطبقي. وضخ النظام الطائفي هذا التراتبية الطائفية (النوعيّة، كما وصفها بصراحة بيار الجميل الحفيد وكما عبّر عنها جبران تويني الحفيد) في جسم المجتمع والثقافة في لبنان. وعليه، كان الغجر والسود والأكراد والعلويّون في أسفل السلّم التراتبي (وكان الشيعة حتى اندلاع الحرب الأهليّة في أسفل السلّم أيضاً). وكلما تدنّت مرتبة الطائفة أو الفئة في هذه الهرميّة اللبنانيّة، زاد إسهامها في تقديم الخادمات للمنازل. والشيعة والعلويّون والأكراد والفلسطينيّون شكّلوا معظم عائلات خادمات المنازل في سنوات ما قبل الحرب الأهليّة. لا يذكر أحد مثلاً أنه وقع على خادمة مارونيّة يوماً ما (أذكر في مؤتمر في أوتاوا، كندا، في التسعينيات من القرن الماضي، أن سمير خلف، بعدما عبّر عن موقف اعتبره الحضور طائفيّاً بحق الشيعة في لبنان، دافع عن نفسه بالقول: إنه لا يكنّ إلا كلّ المودّة للشيعة لأن خادمة منزل عائلته كانت شيعيّة. أذكر أن زميلي ــ وأستاذي في جامعة جورجتاون، مايكل هدسون ــ قال لي بعدها: لو أنه تكلّم عن السود في أميركا كما تكلّم هنا عن الشيعة لقام أحدهم برميه من النافذة).
العلويّون مُهانون ثلاث مرّات في لبنان: اجتماعياً وسياسياً ودينياً. العلويّون يحتلّون مرتبة دنيا في السلّم الاجتماعي بسبب التراتبيّة الذي فرضها نظام التسلّط الطائفي في لبنان. وعليه، فإن العلويّين كانوا أدنى مرتبة من الشيعة في عصر كان الشيعة فيه في لبنان مهمّشين، وكان فيه زعماؤهم مجرّد أدوات بيد قيادة (طائفيّة لـ) طوائف أخرى. وتدنّي المرتبة الاجتماعيّة يعني أن العلويّين مُهمّشون اجتماعيّاً ويعني أيضاً أنهم مرفوضون في الزواج المُختلط (على ندرته في سنوات ما قبل الحرب) وحتى في الزواج بين المسلمين (ليس هناك إحصاءات دقيقة عن الزواج بين السنّة والشيعة في سنوات ما قبل الحرب، لكن هذا النوع من الزواج كان نادراً خصوصاً قبل نزوح شيعة من البقاع والجنوب إلى العاصمة. (والنفور الاجتماعي من العلويّين يفسّر ارتفاع نسبة الزواج داخل الطائفة، وإن كان السبب يختلف عن الدروز لأنّ تلك الطائفة أغلقت باب التحوّل إليها في القرن الحادي عشر). لكن فورة الطائفيّة المذهبيّة التي صدّرها آل سعود إلى لبنان في العقد الماضي، والتي تلقّفها آل الحريري بانصياع، أثبتت أن نعرة احتقار الشيعة (اجتماعياً ودينياً) لا تزال حيّة داخل الوسط السنّي في لبنان. ولا يحتاج التوتّر المذهبي إلا إلى عود الكبريت فقط، على قول يوسف وهبي الشنيع عن «الشرف». (على الأقلّ، كان هيغل صريحاً في «فلسفة الحق» عندما ربط بين مفهوم «الشرف» والموقع الدوني للمرأة، إذ إنه رأى أن الرجل يمكنه أن يتجلّى أخلاقيّاً خارج العائلة بينما ترتبط «خسارة» الشرف بـ«تسليم» الجسد ــ راجع الإضافة في القسم الثالث من الكتاب المُتعلّق بالعائلة). وكيف يمكن الزواج من العلويّين والعلويّات وقد اتفق علماء المسلمين على أنه لا تجوز مناكحتهم؟
وعلى عكس المُسلم (وكان على الشيعة أن ينضووا بخجل قبل سنوات الحرب في بوتقة «الإسلام» بصورة عامّة خشية الإحراج أو حتى الاضطهاد، ولهذا كان التعبير السياسي للإسلام ينعكس في قيادة سنيّة لشتّى الطوائف الإسلاميّة، المذكورة منها والمضمرة)، فإن العلوي كان في منزلة بين المنزلتيْن: لا هو (أو هي) من فئة الأقليّات المسيحيّة على أنواعها والتي لحظها القانون العام والانتخابي، ولا هو (أو هي) في منزلة المسلمين الممثّلين في المجلس النيابي. ببساطة، كان العلويّون في لبنان طائفة مُغيّبة وممنوعة من تبوّء مناصب في الدولة اللبنانيّة، وكان محرّماً عليهم حتى التقدّم للدخول إلى الكليّة الحربيّة (كان العلويّون أو بعضهم يقومون بتغيير دينهم للتقدّم إلى بعض وظائف الدولة). وفي حسابات الطوائف المحسوبة بـ«بيض النمل» على ما كان لينين يقول، لم يكن لا السنّة ولا الشيعة مستعدّين للتضحية بما كانت تجود به عليهم قيادة الطائفة المتنفّذة.
لكن الحظر الديني كان ولا يزال قاسياً. فإن تكفير العلويّين واقع تاريخي، ولا ينحصر بتكفير السنّة لهم. فمن منظار الشيعة الإثني عشريّة، فإن العلويّين ينتمون إلى فرق غلاة الشيعة الذين وقعوا في الضلال وبلغوا في شططهم الكفر. والعلويّون أقاموا في لبنان قروناً طويلة، وهم ليسوا من الطارئين عليه كما حاولت محطة «الجزيرة» (الوقحة في تقيّؤ الكراهية الطائفيّة ــ المذهبيّة هذه الأيام) في تقرير عنهم في شهور الأزمة السورية. هاكم (وهاكنّ) الرحّالة ابن جبير يتحدّث عن العلويّين عند مروره في بلادنا أواخر القرن الثاني عشر (ميلادي): «وللشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة، وهم أكثر من السنيّين بها. وقد عمّروا البلاد بمذاهبهم، وهم فرق شتّى: منهم الرافضة، وهم السبّابون، ومنهم الإمامية والزيديّة، وهم يقولون بالتفضيل خاصّة، ومنهم الإسماعيلية والنصيرية وهم كفرة فإنهم يزعمون الإلهية لعلي، رضي الله عنه، ومنهم الغُرابيّة، وهم يقولون: إن عليّاً، رضي الله عنه، كان أشبه بالنبي، صلّى الله عليه وسلّم، من الغراب بالغراب». (ص. 252 من طبعة دار صادر).
ومن دون الخلط بين الموضوع بين أيدينا وبين الصراع في سوريا، فإن الصراع هذا قد أجج الحقد المذهبي (في سوريا وفي لبنان وفي كل أرجاء العالم العربي وخصوصاً أن الوهابيّة ــ العقيدة الرسميّة في قطر والسعوديّة ــ تكفّر الشيعة فما بالك بالنصيريّة) ضد كل العلويّين. وفتوى ابن تيميّة الشهيرة باتت نبراساً دينياً لكل من يريد تسويغ الكراهيّة أو القتل ضد كل العلويّين. إبن تيميّة لم يوارب في فتواه، فهو يقول: «هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم...». وقد تعرّض العلويّون إلى حملات اضطهاد على مرّ القرون بما فيه العهد العثماني.
لكن الحديث عن السكوت اللبناني الشامل، والذي يعمّ كلا الفريقيْن في لبنان، يتعلّق أيضاً بالعداء الديني العقيدي. والتكفير السنّي للعلويّين بات مُعمّماً في كل وسائل إعلام النفط والغاز، لكن العداء الشيعي الإمامي للعلويّين ــ من زاوية العقيدة ــ يحتاج إلى بعض الشرح للمساعدة في فهم سبب هذا السكوت العام والمدوّي في لبنان عن قمع العلويّين واضطهادهم. بادئ ذي بدء، الطائفة العلويّة ليست جديدة أبداً في التاريخ الإسلامي العام وهي تتحدّر من فرق غلاة الشيعة التي تعود إلى التاريخ المُبكّر للإسلام. وكانت الشيعة الإماميّة تعتبر مُبكّراً (القرن العاشر والحادي عشر) أن النصيريين هم كفّار. ويقول زميل خبير في التاريخ الشيعي (لا يريد الإفصاح عن إسمه) إنّ الصمت وعدم التواصل شاب العلاقة بين الشيعة الإثني عشريّة وما اتفق على تسميته لاحقاً بالعلويّين. واستمرّ عدم التواصل بين الفريقيْن (والحكم الأخلاقي ــ الديني المُتبادل، أي أن الشيعة الإماميّة كفّرت العلويّين فيما اعتبر العلويّون أنهم هم يمثّلون الشيعة الحقّة وأن الشيعة الإماميّة تأثّروا بالفكر السنيّ وقلّلوا من شيعيّتهم أو أنهم ذهبوا بعيداً في «تقديس» الحسين) لقرون عديدة حتى أواخر القرن التاسع عشر. وبدأ الاكتشاف الشيعي أو التواصل مع العلويّين عبر علماء النجف الذين أخذوا يتواصلون مع تلاميذ علويّين بدأوا بالتوافد إلى مدارس النجف. وبدأت اللقاءات بين رجال الدين العلويّين (من أمثال سليمان الأحمد) ورجال الدين الشيعة مما أدّى إلى بروز نزعة شيعيّة لـ«تصحيح» مفاهيم العلويّين. وقد لعب العالم اللبناني حبيب آل إبراهيم («المهاجر العاملي» المولود في حناواي من قضاء صور عام 1886) دوراً في هذا التواصل الجديد لكن الخلاف العقائدي لم يخفت أو يَزل.
وبعد إنشاء الحكم الإسلامي في إيران، بدأ العلماء الشيعة بالتوافد إلى المناطق العلويّة لنشر المبادئ والتعاليم الإثني عشريّة بينهم. وبالمفهوم العقائدي، فإن العلويّين هم شيعة «مضلّلون» بسبب عزلتهم والقمع الذي تعرّضوا له (وكأن العلويّة فكرة متأخرة). طبعاً، لم يحبّذ علماء العلويّين هذه الفكرة الفوقية عن ضلالهم المفترض وخصوصاً أنهم يعتبرون شيعيّتهم صافية غير متأثّرة بالفكر السنّي. لكن الجدال النظري الفقهي لم يكن سهلاً ولا سيما أن العلويّين، مثل سائر الفرق الباطنيّة، لا يعمّمون فكرهم ويفرّقون حفاظاً على السريّة بين العامّة والخاصة من حيث الاطّلاع على مبادئ الفكر. لكن من يجادل في رغبة بعض الطوائف في «الاستتار بالمألوف»؟
لكن دعوة العلويّين إلى الانضمام للعباءة الشيعية الإثني عشريّة حصلت بمبادرة سياسيّة من موسى الصدر، الذي كان من أوثق حلفاء النظام السوري في التاريخ المعاصر (ينسى ذلك متحذلقو الليبراليّة في 14 آذار). لكن الخلط بين العلويّين والشيعة الإماميّة ليس سهلاً لأنه كان على موسى الصدر تجاهل أمور العقيدة (تأليه علي) وأمور الممارسة (ترك أركان الصوم والصلاة) بالإضافة إلى مفاهيم أخرى (استنساخ الأرواح). طبعاً، يشوب الإعلان العلوي ملامح من التقيّة لكن من القمع التشكيك بما تعلنه فرقة ما في الدين لأن في ذلك الحكم رؤية بمنظار فرقة أخرى سائدة. لكن موسى الصدر ساهم في الترويج لتقبّل العلويّين بين الشيعة رغم الخلافات التي لم تُحلّ، إلا سياسيّاً وبيانيّاً.
ولقد أضرّ العلويّين في لبنان هذا الربط الاعتباطي بينهم، كطائفة وكأفراد، وبين النظام السوري خصوصاً في سنوات سيطرته في لبنان. والنظام السوري لم يعبأ بالعلويّين ولم يتحسّن وضعهم في تلك السنوات. والتحسّن الطفيف في وضعهم تمّ بشق النفس. صحيح أن اتفاق الطائف وعد للمرّة الأولى بتمثيلهم في المجلس النيابي ومؤسّسات الدولة، لكن القانون الخاص بهم لم يمرّ في المجلس النيابي إلا عام 1995. وليس هناك من يرى أن قادة الطوائف المتحالفة مع النظام السوري (من أمثال نبيه برّي ووليد جنبلاط ورفيق الحريري) استفادوا من النظام السوري بدرجة أقل مما استفاد منه قادة العلويّين في لبنان. كان الحضور السياسي للطائفة العلويّة في سنوات سيطرة النظام السوري في لبنان ضئيلاً بالرغم من نفوذ ميليشيا علي عيد، الذي استفاد من علاقته بالنظام السوري دون أن يكترث لتحسين وضع الطائفة في النظام الطائفي. كما أن ممارسات ميليشياه كانت بسوء ميليشيا جنبلاط وبرّي في الحرب الأهلية. لكن لم يكن كل العلويّين مرتبطين بالنظام السوري، وقد انضوى كثير منهم في صفوف المنظمات اليساريّة التي صارعت النظام السوري في عام 1976 وما بعده.
إني أتهم. يتعرّض العلويّون في لبنان بصمت لحملة لا تختلف عمّا تعرّض له اليهود في حقبة الصعود النازي في ألمانيا. لقد شهدت طرابلس أكثر من مرّة على امتداد العام الماضي ما اصطلح على تسميته في التاريخ الألماني «ليلة البلّور» المكسور، حيث تعرّضت محال اليهود للتكسير والحرق وحيث تعرّض افراد يهود للاعتداء. لقد تعرّضت كل متاجر العلويّين في طرابلس للحرق والتلف أو السرقة وهُجّر أصحابها بالقوّة منها. هي «ليالي البلّور» المكسور: أليس هذا ما تعرّض له العلويّون في مدينة طرابلس بالرغم من صمت المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان المحليّة التي لا تفتح فاها دون ورود إذن من الرجل الأبيض في أوروبا؟ لقد قام بعض أهل طرابلس بالتهجير العنفي لعلويّين قطنوا بينهم لعقود وقرون ولم يصدر صوت مُعترض من طرابلس كلّها. والطريف أن أبواق آل سعود وآل الحريري وآل ثاني من الليبراليين في مواقع «ناو حريري» و«ناو كبّارة» و«ناو مدن الملح» يعتبرون أن معاداة السلفيّة في لبنان تنمّ عن تعصّب (أو حتى رهاب) ضدّ الإسلام والسنّة. وعليه، يجب، بمقياس هؤلاء، محاباة السلفيّين حتى في كراهيتهم وفي نظرتهم الدونيّة للمرأة ولكل «الغير». هل تفوّه الليبراليّون والليبراليّات بكلمة ضد اضطهاد العلويّين والدعوات العلنيّة لقتلهم؟ لو تعرّض واحد من أبواق عائلة الحريري في لبنان لشتيمة على فايسبوك لقامت الدنيا ولم تقعد، ولأصدرت منظمة «إعلاميّون ضد العنف» ــ إذا كان موجّهاً ضد العدوّ الإسرائيلي وأعوانه ــ بيانات تنديد، وتقوم الأمانة العامّة لـ14 آذار (وجلساته مفتوحة منذ سنوات) بإصدار فرمان استنكار. لكن ماذا عن تداول فتاوى هدر دم العلويّين في لبنان ونشرها في مناشير؟
أكثر من ذلك، لو أن الحملة على العلويّين في لبنان موجّهة ضد من تبقّى من الجالية اليهوديّة في لبنان (والتي تعرّضت لاعتداءات مهينة ومشينة في الثمانينيات وأصابت أيضاً من كان يُسمّى «طبيب الفقراء» بينهم)، لأصدر الليبراليّون في لبنان والعالم العربي بيانات التنديد ولطالبوا حلف شمالي الأطلسي بالإغارة على متهمين بالفعل فوراً. وفريق الممانعة الذي يخاف الفتنة (وكأنه نجح في تفاديها بخططه الغبيّة الواحدة تلو الأخرى)، بسبب تركيبة النظام السوري وحزب الله الطائفيّة، صامت هو أيضاً. إني أتهم كل الفرقاء في لبنان والمجتمع المدني المرتبط إما بالنفط والغاز أو بمعايير المجموعة الأوروبيّة بالصمت عن حملة عنف يتعرّض لها العلويّون في لبنان. كيف يمكن السكوت عن القصف العشوائي والقنص الذي يتعرّض له جبل محسن بمجرّد أن يشعر ليبرالي أو سلفي في طرابلس بالحنق؟ وإلى متى تُبثّ التقارير عن «اشتباكات» في طرابلس من جهة واحدة فقط، وكأن جبل محسن هو المعتدي، مع أن توقيت بدء الاشتباكات في طرابلس يتزامن دائماً وأبداً مع غضب سلفيّي طرابلس لسبب من الأسباب. وأكاذيب سلفيّي طرابلس وحريريّيه تمرّ في الإعلام مثل أكاذيب رئيس بلديّة عرسال عن صيد الأرانب ليلاً ونهاراً في الجرود على الحدود السوريّة، وهي مثل أكاذيب عقاب صقر عن تهريب الحليب إلى سوريا ومثل أكاذيب سلفيّي طرابلس عن المجموعة المقاتلة في تل كلخ (أنهم تسرّبوا في جنح الظلام بهدف الإسعاف). يريد السلفيّون ومن يروّج لهم في وسائل إعلام لبنان أن نصدّق أن أهل جبل محسن يختارون لحظات يكون فيها الغضب العارم معتمراً في صدور أهل باب التبّانة، مثل اغتيال وسام الحسن أو مقتل الشيخ عبد الواحد، كي يبدأوا هكذا فجأة بقصف باب التبّانة. يريد السلفيّون في لبنان منا أن نصدّق أن الأقلية العلوية المُحاصرة في جبل محسن تصرّ باستمرار على استفزاز باب التبّانة كي تزيد من عزلتها ومن حصارها.
إني أتهم كل وسائل الإعلام في لبنان بالتورّط في دعاية عنصريّة حاقدة ضد العلويّين في لبنان، الذين ــ خلافاً لليهود في لبنان ــ لا يحظون بأي تغطية سياسيّة من أحد (لأسباب بانت أعلاه، بينما كان اليهود يحظون بتغطية ورعاية سياسيّة من حزب الكتائب الذي كان يحصل على معظم أصوات اليهود ــ راجع «الانتخابات النيابيّة: 1972، بالأرقام والنسب المئويّة»). إن الثقافة الشعبيّة والسياسيّة اللبنانيّة تغطّي عمليّة قمع العلويّين واضطهادهم، ومنظمات حقوق الإنسان ــ خصوصاً مثل فرع بيروت من «هيومن رايتس وتش» ــ لا ترفع صوتاً أو همساً للتنديد، فيما تصدر المنظمة المذكورة بيانات شبه يوميّة ضد النظام السوري (ويستحق هذا النظام كل التنديد)، مما يشير إلى تناغم بينها وبين مكتب الحريري الإعلامي في بيروت. هل سننتظر أن تتطوّر ممارسة تكفير العلويّين إلى مرتبة حرب إبادة ضدهم في لبنان (وفي سوريا في وقت لاحق إذا وصل سلفيّو قطر والسعوديّة إلى السلطة)؟
إن القصف والقنص المُستمرّ، والمزاجي تبعاً لتقلّبات أهواء سلفيّي باب التبّانة وحريريّيه، يستحق الإدانة، وخصوصاً أن الدولة اللبنانيّة لم تعن يوماً بحقوق العلويّين ــ لا كطائفة من الطوائف ولا كمواطنين ومواطنات في بلد الطوائف. وأسباب صمت الجميع في لبنان، ولا سيما الذين واللواتي يتشدّقون صبحاً ومساء بشعارات فارغة عن الحريّة وعن حقوق الأقليّات، مُتعلّقة بفساد الليبرالية اللبنانية (والعربية). هناك من يخاف رفع الصوت للدفاع عن حق العلويّين خوفاً من الارتباط بالنظام السوري الذي تسيطر عليه أسرة علوية. إن التمييز ضد العلويّين في لبنان وتغييب حقوقهم بدأ قبل وصول حكم الأسد إلى دمشق وقبل اندلاع الصراع في سوريا. هذا شأن يتحمّل مسؤوليته لبنان، حكومات ومؤسّسات ومجتمعاً تمرّس في العنصريّة والطائفيّة.
إني أتهم. إن مسخ الوطن يرتكب جريمة اضطهاد عنيفة ضد طائفة بحالها والصمت سائد بين المواطنين والمواطنات. العلويّون: بشرٌ هم، في القانون والعرف اللبناني؟
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)