تتصاعد مخاوف اللبنانيين من انفلات الوضع السياسي والأمني وانفجاره على نحو كامل وشامل. تقدم يوميات الأحداث اللبنانية مزيداً من أسباب هذه المخاوف. مع استقالة الحكومة، بلغت هذه المخاوف ذروتها بسبب الطابع الانعطافي الذي أدخلته هذه الاستقالة على مسار الأزمة اللبنانية.ربطاً بالاستقالة أثيرت أسئلة حادة بشأن عجز النظام السياسي القائم حيال الأزمات والقدرة على التعامل معها وعلى احتوائها لمصلحة سلمية التنافس والخصومة والصراعات. وحيث إن خلافاً جوهرياً قد نشب بشأن قانون الانتخاب، وأدى إلى عدم القدرة على إجرائها، أو تأجيلها على الأقل، فإنّ ذلك سيؤدي حتماً إلى «استقالة» مماثلة للمجلس النيابي. والمجلس النيابي هو المصدر الدستوري التمثيلي لكل السلطات في البلاد. وهو سيكون، ابتداءً من أواسط حزيران المقبل، مساحة فراغ وخواء مهما كانت الصيغ الانتقالية التي سيُلجأ إليها. هذا الأمر ليس حدثاً استثنائياً في تاريخ البلاد. إنه أمر متكرر ومتفاقم ومرشح لمزيد من الاستعصاء، أي لمزيد من افتقاد اللبنانيين المؤسسات المعبرة عن وحدة اجتماعهم والقادرة على احتواء أزماتهم، فضلاً ــ طبعاً ــ عن محاولة حلها بالوسائل السياسية المناسبة.
القلق اللبناني، إذاً، هو قلق سياسي قبل أن يكون أمنياً. إنه قلق على الكيان والوحدة المجتمعية والسلم الأهلي، وكذلك على الحد الأدنى من مستلزمات الحياة والبقاء والحركة والعمل والإنتاج عندما يتعلق الأمر بالجانب الأمني.
والسؤال الثاني الذي استثارته الاستقالة هو بشأن موقعها من التطورات المتسارعة في المنطقة، ومن المواقف والمناسبات التي حصلت في الأيام والأسابيع الاخيرة، وخصوصاً منها زيارة الرئيس الأميركي لكلّ من الكيان الصهيوني (خصوصاً) والأردن والضفة الغربية، وكذلك القمة العربية الرابعة والعشرين التي أنهت أعمالها في «الدوحة» يوم الثلاثاء الماضي.
مع زيارة الرئيس الأميركي، وقبيل هذه الزيارة، تبلورت معالم خطة أميركية جديدة نسبياً لممارسة مزيد من الضغط على النظام السوري، بهدف إسقاطه عسكرياً أو سياسياً. في خدمة تلك الخطة، طُوي ملف النزاع التركي الإسرائيلي: فجأة اعتذر نتنياهو وقَبِل أردوغان الاعتذار والتعويض. وقبل ذلك جنحت القيادة التركية «فجأة» نحو معالجة سياسية لملف الصراع مع أكراد تركيا وزعيمهم وحزبهم المقاتل ضد سلطات أنقرة منذ عقود. ولقد أثمر ذلك إعلاناً/ نداءً من الزعيم الكردي المعتقل عبد الله أوجلان بالدعوة لإلقاء السلاح واعتماد الحوار السياسي وسيلة لاحتواء الصراع ومعالجة أسبابه. وعلى خط مكمِّل تخلى ملك الأردن «فجأة» عن حياده وحذره إزاء الصراع في سوريا. وهو ترجم ذلك بمواقف وإجراءات أخطرها على حدود البلدين، ومن أبرزها فتح معسكرات لتدريب مقاتلين معارضين بإشراف أطلسيّ (فرنسي – بريطاني خصوصاً). وتأتي، في السياق نفسه، زيارة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، للعراق لتبليغ اعتراض الإدارة الأميركية على استخدام الأجواء العراقية لعبور الطائرات الإيرانية في نطاق خطة دعم النظام السوري بوسائل عسكرية إيرانية كبيرة وفعَّالة.
أما «حصة» لبنان من هذا التوجه الأميركي، فقد تمثلت في وصف متكرر، من قبل الرئيس الأميركي، لحزب الله بأنه حزب إرهابي. وهو وصف يعني الكثير للرئيس ميقاتي «الوسطي» وصاحب المليارات، الذي بدأ «ينأى» بنفسه، باطّراد، عن تحالفاته وعلاقاته السابقة لحساب تحالفات وعلاقات جديدة وفقاً للمتغيرات والمستجدات التي بات النظام السوري بسببها مستهدفاً ومستنزفاً وضعيفاً. ولقد شكلت مسألة التجديد للواء أشرف ريفي ذريعة جاءت من «السماء»! فميقاتي الذي كان قد نجح في حماية اللواء ريفي في موقعه ودوره، سيكون رابحاً إذا ما تمكن أيضاً من التمديد له. أما إذا لم ينجح، باعتبار أن ذلك يتخطى قدرة شركائه على تقديم المزيد من التنازلات، فيكون قد وجد الذريعة للاستقالة ولإسقاط حكومة «حزب الله» كما يسميها خصومه المحليون، وكما يطالب، بذلك أيضاً، السعوديون سابقاً والأميركيون حالياً!
وكانت مناخات التحضير للقمة العربية في الدوحة تذهب في نفس الاتجاه لجهة «حشر» لبنان في الزاوية. فهو مطالب، وبإلحاح مقرون بضغوط اقتصادية وسياسية، بضرورة الانسجام مع الموقف الخليجي – العربي من النظام السوري لجهة الاعتراف بالمعارضة ممثلة لسوريا في القمة، وأيضاً من جهة الانخراط في المزيد من حصار النظام السوري واستهدافه.
ما هي حدود خطوة الميقاتي لبنانياً وفي أي نوع من التصعيد تقع؟ الهدف الأول لا جدال فيه، وهو «تحرير» الشرعية اللبنانية من أرجحية سيطرة قوى الثامن من آذار على الموقف الرسمي اللبناني، السياسي والعسكري والأمني. وإذا كان الدكتور سمير جعجع قد عبّر عن الحد الأقصى الذي يمكن الذهاب إليه في ضوء الاصطفافات الجديدة (تشكيل حكومة من قوى 14 آذار و«الوسطيين»)، فإن احتمال المجيء بحكومة تكنوقراط يبقى قائماً أيضاً بسبب الجهد المستمر في دفع الرئيس نبيه بري نحو التمايز عن «حزب الله»، وهو الذي أطلق ويطلق المزيد من الإشارات السياسية والعملية حول جنوحه نحو «الوسطية» هو الآخر.
ويقع في خلفية، بل في مقدمة الصراع في شقه الداخلي، منع إجراء الانتخابات على أساس مبدأ النسبية. ويجمع ذلك عديدين ممن لا يرغبون في رؤية العماد ميشال عون وقد أصبح المرشح القادر على بلوغ سدة الرئاسة الأولى في العام القادم وعلى رؤية حلف الثامن من آذار، وقد حصّل أكثرية نيابية.
ويتصل بذلك، حكماً، أن إخراج الشرعية من ضفة إلى أخرى، إنما يعني أمور عدة جوهرية في علاقة لبنان بالصراع الدائر في سوريا. يعني المزيد من التورط اللبناني، الرسمي والسياسي، في دعم المعارضة بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر داخلية قد تصل إذا ما بلغت حدود التورط الكامل، إلى إشعال حريق داخلي كبير في لبنان. إن هذا الاحتمال الذي يشكل المرحلة اللاحقة في المخطط الذي أشرنا إليه (والذي يشمل الحلقة الفلسطينية استطراداً)، قد يدخل حيّز التنفيذ مبكراً إذا شاء أصحاب المخطط المذكور. المقصود طبعاً، زج حزب الله في صراع داخلي بهدف استنزافه وصرفه عن دوره ضد العدو الصهيوني.
إننا، إذاً، أمام مخاطر كبيرة وخطيرة وقد تصبح قاتلة، بسبب جذرية المخطط، من جهة، وبسبب مرض نقص المناعة الداخلية اللبنانية من جهة ثانية.
لا يغيب عن الذهن دائماً، ما تعانيه القوى الوطنية من وهن وعجز وغياب: لبنان قد يتعرض، بسبب كل المخاطر والسلبيات المذكورة، فيما لو اجتمعت، لأسوأ اختبار.
اجتراح مخرج لمصلحة تقليص المخاطر إلى الحد الأدنى يبقى احتمالاً وارداً إذا ما بُوشر بعمل إنقاذي يحتاج إلى مبادرات سريعة ومراجعة حسابات جذرية؟!
* كاتب وسياسي لبناني