(هذه جزء من سلسلة، وكنت قد كتبت في «الأخبار» جزءاً أوّل في الموضوع (كانون الأوّل، 2007: «قبل انقشاع الرؤية: قالوا في النظام السوري»).
فتح موت الحريري الباب عريضاً أمام الطامعين بتزوير سيرهم والطامحين إلى اختلاق البطولة في تاريخ عديم البطولة. وعليه، فإن مصباح الأحدب وأحمد فتفت اللذين يكرّران اليوم أنّ كل السياسات والزعامات والنيابات كانت مُقرّرة في زمن سيطرة النظام السوري، ينسيان أنهما صعدا إلى الساحة السياسيّة في تلك الحقبة عينها. أما فارس سعيد: فكيف يقترب من البطولة وهو النيابة لم تصله إلا في زمن غازي كنعان؟ ومروان حمادة وأكرم شهيّب اللذان تقيّآ كمّاً هائلاً من مديح النظام السوري في عهد حافظ وبشّار، يصرّان على أنهما كانا رمزيْن للعنفوان والكرامة على أعتاب قادة أجهزة الاستخبارات السوريّة. وخالد ضاهر حوّل زياراته _ باعترافه _ الذليلة إلى ضبّاط الاستخبارات السورية (الذين أدخلوه المجلس النيابي مثلما أدخلوا غيره) إلى استدعاءات بسبب نضالاته ضد النظام نفسه. إنه موسم اختلاق البطولات، كيف لا وسامي الخطيب، الرمز التاريخي المُعاصر للبناني الذي عمل بإمرة الاستخبارات السورية على مدى عقود، بات يعقد شال «ثورة (حرّاس) الأرز» حول عنقه، وبات مُحبّاً للديموقراطية في سوريا. أحمد الحاج قاد «قوات الردع»، بإمرة النظام السوري، لكنه يرى في نفسه ثائراً للسيادة ربّما لأنه اعتمر (مثله مثل سامي الخطيب) قبّعة غيفارا. بقي أن نسمع أن زياد الحمصي وفايز كرم هما رمزان لمقاومة العدوّ الإسرائيلي.
لفتني هذا الأسبوع فؤاد السنيورة وهو يتحدّث بنبرة ملؤها العاطفة الجيّاشة ضد النظام السوري وتأييداً للثورة المُسلّحة (وهو الذي يرفض رفضاً قاطعاً رمي الحجارة على العدوّ الإسرائيلي لأنه يعتبر ذلك عملاً غير حضاريّ). تحدّث السنيورة هذا عن «إجرام» النظام. ما لفتني في العبارة (مثل عبارات رفاق السنيورة في «ثوّار الأرز» بمَن فيهم الأكثر تطرّفاً في صفوفهم اليوم في معاداة النظام السوري، كإدمون رزق، الذي دبّج في مديح نظام الأسد أبلغ العبارات) أن السنيورة يفترض، مثله مثل كل الساسة في لبنان، أن الأرشيف في لبنان قد تعرّض لحريق مُفتعل وأن كل آثار التملّق والارتهان والارتزاق والخنوع للنظام السوري اختفت إلى الأبد. لا يدري السنيورة ورفاقه في «ثورة (حرّاس) الأرز» أن رصيدهم في مديح النظام السوري وفي مديح قمعه في لبنان ما زال موجوداً لكل من يريد أو تريد أن تنقّب. كذلك إن الذاكرة المعاصرة موجودة: قبل بضع سنوات كان الذين يدعمون «الثورة» في سوريا يهتفون بحياة بشّار وبحياة والده (بعدما أنعموا عليه بلقب الخلود). هؤلاء بكوا على باسل الأسد بقدر ما بكوا على رفيق الحريري. ارجعوا إلى مراثي نايلة معوّض، ومفتي صور المطرود، علي الأمين، عن حافظ الأسد.
لنبدأ بالسنيورة هذا. كم فُجع السنيورة بوفاة حافظ الأسد. قال بالحرف في برقيّة لبشّار الأسد (الذي ينعته اليوم بـ«المجرم»): «لقد آلمنا وأحزننا كثيراً نبأ وفاة والدكم الراحل الكبير الرئيس حافظ الأسد الذي جاء في وقت أحوج ما تكون فيه الأمة العربيّة إلى قيادته وحكمته ونفاذ بصيرته ومواقفه الأبيّة الكريمة. لقد ترك الرئيس الأسد (أي والد «المجرم» بشّار) بإنجازاته العظيمة بصمات لا تُمحى على تاريخ الأمة العربيّة ستبقى راسخة في ذاكرة الأجيال. فهو بحق باني سوريا الحديثة. وهو من أمّن لسوريا الشقيقة على مدى أكثر من ربع قرن استقراراً داخلياً جعلها تنعم بالأمن والأمان الاقتصادي والاجتماعي ومكّنها من أن تصمد في وجه المؤامرات الخارجيّة وأن تحصّن الأمّة وتقودها نحو استعادة أراضيها وكرامتها (أي إن حافظ الأسد حرّر الجولان، وفق السنيورة، من دون أن يدري أحد غيره) وأن تكون لسوريا كلمتها المسموعة والمهابة وكذلك صدقيّتها على الصعيدين العربي والدولي. ولن ينسى لبنان للرئيس الأسد ما قام به من جهود في سبيل إنهاء الحرب والحفاظ على وحدته وأمنه وتحقيق الوفاق الوطني، وفي رعاية مسيرة بنائه وإعماره والوقوف إلى جانبه ومؤازرته من أجل تحرير أرضه المُغتصبة وإستعادة حقوقه». («السفير»، 13 حزيران، 2000).
لكن السنيورة معذور، لأنه كان يسترشد بهدى معلّمه، رفيق الحريري. رفيق الحريري كان يرفض أي مقارنة بين احتلال العدو الإسرائيلي وسيطرة النظام السوري في لبنان. تجد الحريري الأب يقول: «إن دور سوريا إيجابي. لقد ساعدتنا وتساعدنا سوريا في حفظ الأمن والاستقرار» («السفير»، 28 أيار، 1999). وكان الحريري لا يفوّت فرصة شرقاً وغرباً ليدافع عن وجود الجيش السوري في لبنان، فتراه قائلاً: «إن الوجود السوري في لبنان هو لخدمة الشعب اللبناني وأعتقد أنه تُبذل كل الجهود من الطرفين لتأكيد ذلك» («السفير»، 12 أيلول). وفي حديث آخر، قال رفيق الحريري، إن الوجود السوري في لبنان «ضروري في المرحلة الراهنة من أجل استقرار لبنان ومصالحه، وخصوصاً أن الأخطار الإسرائيليّة ما زالت ماثلة والتطورات الأخيرة تثبت ذلك» («السفير»، 28 شباط، 2001). لكن من الظلم اتهام رفيق الحريري بعدم الحرص على لبنان لأنه _ وفق سيرة 14 آذار الرسميّة _ كان يعمل من أجل سيادة لبنان بمجرّد أن قرّر النظام السوري التمديد لإميل لحّود (مع أن فتفت نفسه في حديث صحافي آنذاك أصرّ على أن الخلاف بين الحريري ولحّود هو اقتصادي بحت). أم أن الحريري أولم على شرف مسؤول الاستخبارات السوريّة في لبنان، رستم غزالة، في كانون الأوّل، مثلاً، («السفير»، 10 كانون الأوّل، 2003) فقط من أجل الحديث عن سيادة لبنان وحريته؟ وقد رقص الحريري أمام غزالة في ذلك الاجتماع على وقع الدربكّة إمعاناً في إصراره على سيادة لبنان.
أما المفتي محمد علي الجوزو، «المُرشد الروحي» لخليّة حمد التي رفضت أي مساس بوجود الجيش السوري في لبنان، فكان يتبرّم من أي انتقاد لـ«الدور السوري في لبنان» («السفير»، 3 نيسان، 2001). طبعاً، الجوزو اليوم هو من أعتى معارضي «المؤامرة السوريّة _ الفارسيّة» على لبنان. الجوزو (الذي بات يحبّ المسيحيّين في بعض أيام الأسبوع) كان يتهمهم (كلّهم، كما يتهم اليوم كل الشيعة وكل المسيحيّين بشتى التهم) علناً بطعن النظام السوري، وكان يذكّرهم بأنهم «لم يجدوا من يعاونهم غير سوريا» («السفير» 1 آب، 2002). أما بهيّة الحريري، فاعتبرت أن وفاة حافظ الأسد «لحظات للتأمّل في ملامح الزمن السياسي العربي والمحلّي بعد غياب القائد الكبير الرئيس حافظ الأسد الذي ملأ ثلاثة عقود من الزمان من حياتنا السياسيّة المحليّة والقوميّة بحكمته وفرادته وإنجازاته وانتصاراته (في الجولان؟) منذ 73 حتى تحرير الجنوب قبل أيّام. إنه زمن الرئيس الأسد الذي نضجنا في عصره. تعلّمنا في مدرسته الدروس العظام وتعميق إيماننا بحقوقنا وبأمتنا. إنها لحظة حارّة ومؤلمة وحزينة وعلينا أن نتعامل معها على طريقته أيضاً بصلابة وبنظرة استراتيجيّة عميقة الإيمان بالله وبالأمة وبالحقوق وأن نستشرف الغد الواعد لأمتنا ولأجيالنا المقبلة. إن حافظ الأسد هو الزعيم العربي الذي لم تنكس رايته طيلة ثلاثين عاماً، فلقد عرف كيف يتعامل مع الضغوط والصعاب وشدة الرياح... في هذه اللحظات يتوجّب علينا... أن نكون أوفياء للرئيس الأسد ولسوريا وأن نمدّ أيدينا وقلوبنا كلها باتجاه سوريا ونجله وخليفته العقيد الركن الدكتور بشّار الأسد ليتابع المسيرة ويحفظ الأمانة بكل ثقة وثبات وليوفّقه الله ويسدّد خطاه ويلهمه الصبر والسلوان فإنه مؤتمن على كرامة العرب وعزّة العرب ونصرهم على الأعداء» («السفير»، 13 حزيران، 2000). لكن قبل التسرّع في الحكم على تملّق بهيّة الحريري عليك التذكّر أن كل فريق الحكم الحريري المُتعاون مع الاستخبارات السوريّة كان «مغلوباً على أمره»، حسب الرواية الرسميّة لـ14 آذار الحريريّة _ السعوديّة. لكن فريد مكاري كان متحفّظاً في برقيّته لبشّار الأسد، إذ إنه اكتفى بالقول إن أمله أن تستمرّ سوريا بقيادة بشّار الأسد في البقاء «كوكبة إشعاع وتنطلق بخطى ثابتة إلى مزيد من التقدّم والرقيّ والازدهار» (المصدر السابق). وفريد مكاري أعلن مع كتلته الكورانيّة عام 2004 أنه مع التمديد لإميل لحّود «حتى نستطيع أن نقاوم» («المستقبل»، 2 أيلول، 2004).
أما مروان حمادة الذي يصرّ على اقتناص دور البطولة وعلى التعمية على عقود من الولاء المطلق للنظام السوري، فإنه عام 2001 كان يرفض «الانقلاب على سوريا» في لبنان. وأصرّ حمادة على التمسك بـ«العلاقة المميّزة» مع النظام السوري أيضاً («السفير»، 21 آذار، 2001). كان ذلك في زمن كان فارس سعيد (المعروف بتحليلاته الـ«بورزانيّة» في العلاقات الدوليّة حيث يربط بين اشتباكات جبل محسن وباب التبّانة والملف النووي الإيراني) يرفض فيها الضغوط الدوليّة على سوريا أو الانقلاب عليها («السفير»، 16 نيسان، 2003). أما وليد جنبلاط، فلم يكتفِ بتصريحات معروفة في مديح نظام آل الأسد، بل كان يدبّج مقالات في مديح الثورة الإيرانيّة وقائدها الخميني: «إن الشعوب في لحظة تاريخها تتوحّد في شخص واحد، تشرشل مثلاً، وديغول، عبد الناصر، حافظ الأسد، والخميني وغيرهم» (طبعاً، إن إضافة جنبلاط لكلمة «وغيرهم» كانت مقصودة من أجل إضافة أسماء أخرى بحسب ما تقتضي تقلّباته المستقبليّة الحتميّة وضرورات التمويل المبدئي). («السفير»، 7 حزيران، 2001). جنبلاط حتى ما بعد 2003 كان يعتبر أن أولويّة الأولويّات تكمن في الدفاع عن النظام السوري «والثورة الإسلاميّة في إيران ومقاومة الغزو البريطاني _ الأميركي _ الإسرائيلي في العراق» («السفير»، 7 نيسان 2003). طبعاً، نذكر أن جنبلاط بعد سنتيْن فقط من هذا التصريح زعم في مقابلة مع ديفيد أغناسيوس من الـ«واشنطن بوست» أن جورج بوش ألهمه في حبّ الديموقراطية من خلال غزو العراق. كانت أيّاماً لا تُستعاد، لكنها في حالة وليد جنبلاط، وغيره من المتقلّبين من راسمي دور البطولة لأنفسهم، ستُستعاد أكثر من مرّة. جنبلاط لم يكن يتورّع عن القول (في سنوات «الغشاوة» أو «التخلّي» عن التخلّي أو عن الغشاوة) إن اغتيال كمال جنبلاط هو بحد ذاته مناسبة للتأكيد «دائماً (على) استمرار التحالف الموضوعي والقومي مع سوريا» («النهار»، 8 نيسان، 2004).
حتى توفيق الهندي، الذي نفى خلال اعتقاله قبل سنوات أن يكون عميلاً للعدوّ الإسرائيلي، وإن كان قد أقرّ باتصالات مع إسرائيليّين على ما قرأنا يومها في الصحف، فقد صرّح بأنّ كل الشعارات والهتافات «المُعادية لسوريا لا تعبّر عن موقف «القوّات» («السفير»، 22 أيلول، 2000). أما المفتي قبّاني، فكان يرى أن بشّار الأسد هو «الذي يعبّر اليوم ودائماً عن ضمير الأمّة» («السفير»، 16 نيسان، 2003). كان ذلك في زمن كان فيه المفتي يتأبّط ذراع رستم غزالة وباسم السبع في مسيرة مبايعة لبشّار الأسد. أمّا روبير غانم الذي دخل السياسة من باب الاستخبارات السوريّة في البقاع، فكان يعلن من دون خجل: «إنه انطلاقاً من موقعي الواضح والصريح كحليف للنظام السوري» («المستقبل»، 2 أيلول 2004).
ولكن قد تكون العودة إلى الأرشيف مسليّة لقراءة بعض ما كان يكتبه فارس خشّان في «السفير» و«المستقبل»، يوم كان يدعم إميل لحّود ويصفه بالذي «يتمتّع بخيار عربي حاسم يفترض تحصينه والمساهمة في تعميمه على سائر القوى المسيحيّة في البلاد» («السفير»، 29 آذار، 2003). لكن هذه العودة إلى الأرشيف لن تعلق في الأذهان؛ لأن جماهير الزعامات الطائفيّة لا يتذكّرون، أو لا يريدون أن يتذكّروا، إلا آخر تصريح للزعيم الطائفي. وكم من جماهير الطائفيّة هم أنفسهم (وأنفسهنّ) تقلّبوا (وتقلّبن) في الولاء وفي الشعارات وفي التملّق مثل زعمائهم؟ إن تصويب تاريخ لبنان لم يبدأ بعد، وعندما يبدأ _ كما حدث في فرنسا في سيرة المقاومة الفرنسيّة _ سيتمّ فرز الأبطال الحقيقيّين عن الأبطال المزوّرين.
(ملاحظة: أودّ أن أعبّر عن عميق شكري لمُتطوّع لا يريد الإفصاح عن اسمه لتنقيبه في أرشيف الصحف)
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)