قيل إنّ لبنان مرّ بقطوع كبير في الأيام القليلة الماضية. قبل ذلك، وفي مناسبات متشابهة عديدة، قيل الأمر ذاته تكراراً: قيل ذلك بعد حوادث الاغتيالات أو محاولات الاغتيال ومحاولة التفجيرات. وقيل بعد أحداث «عرسال»، واعتصامات «الأسير» في صيدا أو سواها، وبعد قطع الطرقات في غير مكان من العاصمة، وبعد اشتباكات «برج أبو حيدر» وطريق الجديدة و«قصقص»... قيل أيضاً بعد مقتل الشيخين في عكار واستهداف موكب الوزير فيصل كرامي في طرابلس.يمكن الرد، إذاً، ببساطة، أن القطوع الذي مرّ، كان قد مرَّ قبل ذلك مرةً ثانية أو ثالثة... أيّ إنه مرشحٌ لأن يعود مرة جديدة، اليوم أو غداً أو أبعد من ذلك بقليل. ويمكن أن يُضاف، بنحو منطقي «أنه ليس في كل مرة تسلم الجرة». فما مرَّ قبل ثلاثة أيام، أو قبل ثلاث سنوات، أو ثلاثة أشهر أو ثلاثة أسابيع... قد لا يمر بعد مدة مشابهة في الأيام أو الأسابيع أو الأشهر القادمة!
يشير ذلك إلى أنّ عوامل الاحتقان، ومن ثم احتمال التفجير الشامل، تزداد باطّراد في الوضع اللبناني. يحصل ذلك بسبب تفاقم الانقسام في لبنان والمنطقة، وبسبب عجز اللبنانيين عن احتواء صراعاتهم التقليدية، وبسبب عدم قدرتهم على «النأي» بأنفسهم عن الصراعات الخارجية، والسورية منها خصوصاً.
قد يُقال، من قبل التذكير أو الاعتراض: ولكن ليس ثمة قرار بصرف الأنظار عن الحريق السوري المتعاظم أبداً بالتهام عمران سوريا والمتوهج دوماً بدماء أطفالها وشيوخها ونسائها وشبابها... هذا صحيح. الأولوية للدم السوري وللحريق السوري. لكن الرعونة اللبنانية المشفوعة بأشكال متفاقمة من الالتحاق والتبعية والفئوية وقلة المسؤولية الوطنية، هي ما يحقن الجسد اللبناني كل يوم، بل كل ساعة، بعوامل التوتر الذي قد يؤدي، في لحظة انفعال أو تآمر فائقين، إلى الانفجار الكبير. ويقترن هذا الوضع الشاذ، كما لا يحدث، ربما، إلا في لبنان (بسبب تشوهات و«خصوصيات» البيئة السياسية اللبنانية)، بأشكال من الظواهر المرضية التي تجعل من الخارج عن القانون وعليه شجاعاً، ومن المحرّض على الفتنة إماماً أو داعية ومجاهداً، ومن المستهتر بالقيم الإنسانية والوطنية زعيماً، ومن المفرّط بالمصلحة العامة «شاطراً»... يقترن، إذاً، هذا الوضع الشاذّ، بذلك النوع من الفلتان العام الذي لا تردعه ضوابط ذاتية أو عامة، فيتحوّل إلى نمط حياة وسلوك ومصدر ثروة ونفوذ وأسلوب حكم وممارسة سلطة... وعنوان «المعجزة» اللبنانية أو «الصيغة اللبنانية الفريدة»!
يجب العودة إلى الأصل في كل ذلك. والأصل هو النظام الذي أقامه المستعمرون والمستفيدون من أجل بناء نفوذهم وثرواتهم وممالكهم ودويلاتهم. إنّه نظام المحاصصة الذي استخدم الطائفية والمذهبية ويستخدم الدين نفسه، لترسيخ دور وتعزيزه أو لإقامة توازن أو للمحافظة عليه.
هذا النظام هو الذي ينطوي على الخطيئة الأصلية. والخطيئة الأصلية تلك تتمثل في تقديم الخاص على العام والفئوي على الوطني والولاء للخارج على حساب الولاء للوطن.
وهذا النظام هو الذي تتعطّل آليات عمله الآن ويعجز عن تسيير وتيسير شؤون الوطن والمواطن في أبسط وجوهها وفي أكثر أولوياتها إلحاحاً: عنينا توفير الأمن والاستقرار والحدّ الأدنى الضروري من عدم الانجرار إلى الفتنة والقتل والدمار الذي عانى منه لبنان واللبنانيون طوال خمسة عشر عاماً ابتداءً من ربيع عام 1975.
الفحيح الطائفي والمذهبي المتصاعد، والغلوّ والتطرّف بذريعة الدفاع عن الدين، هما صيغة «طبيعية» للإمعان في التمسّك بالأساس الطائفي للنظام السياسي اللبناني. «والمشروع الأرثوذكسي»، بهذا المعنى، هو استمرار في إدارة الظهر للإصلاح، في وقت بات فيه الإصلاح حاجة إنقاذية للبلاد وللبنانيين، وحتى للقوى السياسية المتصارعة نفسها!
إذ ما تشهده البلاد من تفاقم للانقسام وللتطرف، إنما هو الابن الشرعي للتنكر للإصلاحات التي كانت قد أقرّت في الطائف عام 1989. لقد جرى تجاهل هذه الإصلاحات وكأنها ليست نصوصاً دستورية ملزمة، أو كأنّ لبنان لا يحتاج للملمة أزمته إلى إرساء معادلة جديدة، إيجابية، توفر التقدم والتطور والفعالية والاستقرار للمؤسسات اللبنانية وللحياة السياسية اللبنانية عموماً.
الملامة والمسؤولية التاريخية تقعان على عاتق الجميع دون استثناء. إنما يجب التوقف عند دور الفئة التي اشتقت لنفسها مساراً مميزاً في المساهمة في مواجهة العدو الصهيوني وفي تسجيل انتصارات مدهشة ضد عدوانه وضد مشاريعه. فالأحرى بهذه الفئة أن لا تنتظر أن يمرّ «القطوع» مرة جديدة! فالقوى التي تستهدفها، إنما تتحيّن الفرص والظروف لإغراقها في صراع مذهبي لم يعد يحتاج إلى تفسيراً وتحليل أو اجتهاد. وفي مقدمة المسؤوليات، في هذا الصدد، مراجعة الأساليب والشعارات والأدوات. أوليس أن الفتنة تتغذى أيضاً، من أخطاء الخصم المستهدف، وخصوصاً إذا كان يواصل هذه الأخطاء باعتبارها أداة تعبئة ومصدر قوة، فيما هي تتحول، كل دقيقة، إلى عنصر تعبئة مضادة تسهل على العدو مهمته القذرة في إعطاء الصراع الطابع الذي يريد وفي توجيهه الوجهة التي يشاء؟ بكلام آخر، يجب حماية الخط المقاوم، بنهج وطني يجتهد أيضاً، وبالمقدار نفسه أو أكثر، في تقديم رؤية وطنية شاملة لدور المقاومة ضد العدو الصهيوني. هذا أمر لا يؤدي الاستمرار في التقليل من شأنه أو العجز عن اعتماده إلا إلى مزيد من الأخطار والأضرار التي قد تصبح قاتلة.
وفي المقام الثاني، بات دور أو غياب دور، ما كان يسمى القوى الوطنية والتقدميّة والديموقراطية، مصدراً لكل أنواع الاستغراب والتساؤل وحتى... الإدانة! أين تكل القوى من واجبها في بناء المشروع الوطني البديل، فيما تتراجع المشاريع الفئوية الخاصة والتابعة والمهددة لوحدة الوطن ولاستقراره؟!
والقوى الأخرى أيضاً، التي يجب أن تدرك أنها، هي أيضاً، كمن يلحس المبرد. فالمركب عندما يغرق، لن ينجو منه أحد.
إنها لحظة مصيرية في التاريخ اللبناني. والمشكلة ليست في المواطن المسلوبة حقوقه أو إرادته، إنها في الذين لا يتورعون عن إحراق وطن من أجل مكاسب شخصية أو فئوية، ودائماً على حساب الوطن وبقائه ووحدته وسيادته ومعافاته.
* كاتب وسياسي لبناني