يوم عمّاني مثير للاهتمام. مواقع إلكترونية تتسارع لترجمة مقابلة أجراها الصحافي الأميركي جيفري غولدبيرغ مع عبد الله الثاني في مجلة «ذي أتلانتك»، والمشاعر تضطرب تجاه انتقاداته اللاذعة لأركان حكمه وحلفائه وجيرانه في المحيط. ورغم تباطؤ الديوان الملكي ريثما أصدر بياناً ركيك الصياغة يزعم أن المقابلة احتوت على العديد من المغالطات، فإن الأردنيين ناموا متأكدين من صحة ما نشر ودقته، وخاصة بعد حديث غولدبيرغ إلى إذاعة محلية مهدداً بتحميل المقابلة الصوتية على الانترنت في حال استمرار التشكيك في صحّة ما نقله على لسان الملك.
وقعت الواقعة، وباح الملك بأصدق مشاعره حيال زعماء المنطقة: مرسي بلا عمق، وأردوغان يركب الديمقراطية بوصفها حافلة توصله إلى المحطة التالية، وبشار الأسد قروي، والإيرانيون يكرهونه... وأنّ الأردن مصاب بلعنة الجغرافيا والقاعدة تنوي قتله، لكن مهلاً يا صاحب الجلالة: ماذا عن حلفائك المقربين: «إسرائيل» والولايات المتحدة والسعودية؟ سؤال لا يحتمل إجابات مؤجلة، فالملك أقر بعلاقته القوية مع نتنياهو، وانتقد على خجل الدبلوماسية الأميركية التي وصفها بالساذجة حين تتشكك في وجهة نظره حول الإسلاميين والإصلاح في الأردن.
أما السعودية، فقد طالها نقد لن يصل حدود المحاسبة أو قطع الدعم المالي عن «المملكة الفقيرة»، إذ رأى جلالته أنها تُحكم من قِبل أمراء متقاعدين، وبذلك ظل مقام الملك السعودي سالماً من الأذى، لكن التسريبات لا تتوقف عن تنسيق دائم يجمع الأمير بندر بن سلطان والأمن الأردني بخصوص الملفين العراقي والسوري، وبذلك يتبيّن الفارق بين الأمير النشيط والأمير المتقاعد في نظر العاهل الأردني.
لا تحمل المقابلة الاستثنائية رسائل إلى الخارج، وسيُغض النظر عن المداعبات «القاسية» التي لحقت بهؤلاء القادة، فالكل يعلم أن الحرب الأمنية التي تخاض في المنطقة لن تتأثر بما قاله الملك، فضلاً عن مكانة عمّان بوصفها المكان المثالي التي يتلاقي ويختلف فيه الأصدقاء والخصوم حول الأزمة السورية.
في الداخل، يتطلع الملك أن تمرّ زلات قلبه بسلام، وربما خرجت تظاهرات هنا وهناك تندد باتهامات الملك لبعض القوى السياسية (الإخوان المسلمين) أو المكونات الاجتماعية، وكانت أولاها تظاهرة خرجت الثلاثاء ـــ يوم نشْر المقابلة ـــ باتجاه القصر الملكي تحت شعار: احنا مش ديناصورات... احنا شعب البطولات، غير أن اللافت في الأمر أن الزعيم العشائري النائب عبد الهادي المجالي، الذي انتقده الملك في مقابلته بشراسة ونعته بالديناصور، أصدر بياناً ـــ في الليلة ذاتها ـــ لا يستبعد فيه تعرض الأردن لحملة تستهدفه، بالنظر إلى محاولات إخراج التصريحات الملكية عن سياقها.
باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي استهجنت مضمون المقابلة المنشور، وعدّتها «إشغالاً للرأي العام ومحاولة للالتفاف على المطالب الوطنية المحقة في الإصلاح»، فإنه من المتوقع أن يتعاضد أركان الحكم وراء الملك، الذي يتحمل وحده مسؤولية إفلاس البلاد وعجزها المتراكم طوال 14 عاماً من حكمه، وهو ما تدل عليه طريقة تعامل الديوان الملكي مع المقابلة ذاتها، وكذلك خروج المسيرات المؤيدة له (شبيحة النظام) مقابل التظاهرة الرمزية التي خرجت احتجاجاً على انتقاداته، ومحاولة الأجهزة الأمنية توجيه الإعلام نحو التشكيك في نوايا الصحافي الأميركي غولديبرغ لقربه من الدوائر الصهيونية، متغافلين عن لقاءاته المتكررة مع رأس النظام، وآخرها منذ شهور قليلة، بعد ثلاث مقابلات طويلة مسجلة وموثقة، وكان متفقاً على نشرها خلال الشهر الحالي.
كل ما حدث هو استمرار للنفخ في قربة مثقوبة، حيث يحاول الملك تقديم نفسه بطلاً للإصلاح في مواجهة قوى الشد العكسي من عائلته وأجهزته الأمنية والعشائر والإخوان المسلمين، فيما الحقيقة الساطعة أن هؤلاء جميعهم جزء عضوي من نظامه وشركائه في السلطة والثروة، وأن الانقلاب عليهم هو بمثابة انتحار للحكْم.
وما يدحض احتمالية انقلاب الملك على نخبه العاجزة هو إصرار الملك خلال المقابلة، التي نشرت في 9600 كلمة، على امتداح إنجازاته رغم بطء وتيرة الإصلاح الذي يقوده، وظل متمسكاً برأيه حول التطور الديمقراطي الذي حققته الانتخابات الأخيرة، في إنكار تام للمسرحية الهزيلة التي ابتدأها بفرض قانون الانتخاب الذي يريد ولن ينهيها بتسويق المشاورات البرلمانية لاختيار حكومة موظفين يسيرهم النظام كيفما شاء.
ملاحظة أخيرة قد تفوت على صاحب المقابلة، وهي أن مراجعاته النقدية المثيرة لن تحسب لمصلحته طالما أن تركيبة النظام غير قابلة للتغيير، لكنها حتماً كسرت جداراً من الصمت حول علاقة الملك بفشل مسيرة الإصلاح، وأدخل من خلالها البلد منذ اليوم في مواجهة مفتوحة يقودها حماة العرش من ديناصورات العشائر والأمن والمقاتلين بالسيوف والأحذية ـــ بحسب الوصف الملكي للأردنيين الذين لا يحتملون الاختلاف في الرأي ـــ ضد كل من يحاول مناقشة دور الملكية ومستقبلها.
«مستقبل» يتوقع له الملك أن يدوم خمسين عاماً، مطمئناً إلى صحته وتوريث العرش لابنه، وربما سعيداً لأنه حقق أمنيته بأن يصبح ممثلاً سينمائياً في فيلم أردني طويل، إذ يعترف في مقابلته بأنه أدى في بداية حكمه شخصية فوريست غامب (فيلم لتوم هانكس) التي تكون محظوظة جداً رغم سذاجتها. 
* كاتب أردني