تؤكد المؤشرات أن مقابلة الملك الأردني عبد الله الثاني مع صحافي مجلة «اتلانتيك» الأميركية، طبخت على مهل وتوافق وتفاهم على التفاصيل، التي استغرق انجازها أشهراً عديدة واتصالات وتدقيقات كثيرة تداولها الطرفان، وأن النفي الذي صيغ على شكل تصريح باسم «مصدر مطلع في الديوان الهاشمي» ليس سوى إجراء بروتوكولي، لدفع حرج يستحق ثمنه. وما لا يقل أهمية عن ذلك، أنّ المقابلة كما يؤكد مجريها لم تتضمن شيئاً لم يرد الملك إفشاءه، كما تبيّن أنها خلاصة أحاديث طويلة أدلى بها الملك على مدار عدة أيام، وعلى مراحل، ما يستدعي افتراض القصدية الواعية، وبالتالي، يهدف إلى التفكير في ما أراده السياسي الأردني، الذي ظهر في الفترة الأخيرة أنه المنتصر الوحيد في فوضى «الربيع العربي» من بين أقرانه العرب، وفي الداخل بين القوى ذات التأثير والحيثية.
فما الذي يريده الملك، الذي لا يجد غضاضة في تشبيه نفسه بـ«فوريست غامب» الشخصية السينمائية المعروفة من الفيلم الشهير، التي ابتليت بالغباوة المطلقة، لكن الحظ كان حليفها القوي على الدوام؟
ينسب الصحافي الأميركي إلى زوجة الملك، التي التقاها في سياق هذا الحديث، قولها إن الهيجان السياسي خلال العامين الماضيين قد جلب مناخاً من الصراحة والنقد المفتوح. وأن ذلك سمح للملك بأن يتبادل هذه الصراحة مع منتقديه؛ فهل الأمر مجرد صراحة اعتقد عبد الله الثاني أن من حقه أن يبادلها العالم وبلاده؟ لا يبدو الأمر بهذه البساطة.
في الواقع فإن ما يجعل تصريحات وأقوال الملك مثيرة على نحو مضاعف هو أنها قيلت وصدرت عنه في مرحلة كان يجاهد فيها لخوض المرحلة الحاسمة من معركته الداخلية، في شقيها المحلي والخارجي، ثم لم يتخل عن الاهتمام بنشر المقابلة بعد ذلك.
لقد شهدت نهاية العام الماضي تحولاً لافتاً، فقد تمكن الملك من تحويل الاهتمام العام لدى نخبة عمان نحو الانتخابات النيابية، بكل ما أثارته من انقسامات وتباينات بين القوى السياسية، واستطاع إجراءها في ظروف الاستقطاب الشامل، مما قاد إلى نتيجة حاسمة تمثلت في تراجع السؤال عن مستقبل الملك والملكية لمصلحة أسئلة أخرى تتعلق بالحياة السياسية في ظل سلطته الشاملة الملطفة.
ومن حيث المبدأ، جاء النجاح في اجراء الانتخابات ليلبي شروطاً أوروبية تحظى بعناية أميركية، بينما عنى إجراؤها وضع سقف لملف المطالب الإصلاحية، فيما الجدل حولها فتح المجال أمام الملك لتجاوز مفهوم الحوار الوطني، ومفرزات لجان الحوار المشكلة سابقاً، واستبدال ذلك كله بأوراق نقاشية يكتبها وينشرها باسمه، في تتويج لسيطرة النظام على جدول أعمال النقاش العام، وإيذاناً للانتهاء من الحاجة إلى الحوار الوطني نفسه.
وفي التقويم الواقعي لهذا التحول، نجد أنفسنا أمام إنجاز غير متوقع من ملك توِّج فجأة في الربع الساعة الأخير، وعاش جلّ عهده تتقاذفه موازين القوى في دولة ورثها، وفيها المؤسسات الوازنة والطبقة السياسية الحاكمة أقوى وأكثر خبرة منه، ولديها في صراعاتها وتنافسها مصالح مباشرة أشد إلحاحاً من مصالحه، التي كان يتوهم (ويوهمونه) أنها فوق النقاش وتصاريف المنافسة والصراعات البينية.
ويبدو أن الملك نفسه، لم يكن غافلاً عن ذلك طوال الوقت، ولم يكن بعيداً عن الشعور بحقيقة أن الدولة التي ورثها تزدحم بمراكز القوى الناشطة، التي وجدت في حداثة عهده في الحكم فرصة لتولي زمام الأمور باستخدام اسمه وسلطاته؛ فلجأ في بدايات عهده إلى محاولة خلق طبقة سياسية جديدة تواكب تجربته، لكن هذه المحاولة التي قادته إلى تقريب مجموعات من رجال الأعمال الشباب وبعض خلان الصفا، انتهت نهاية كارثية، وكشفت منذ البداية عن قوة لـ«دائرة المخابرات العامة» على حساب سلطته. ما استوجب تغييرات متتابعة في قمتها، وصلت إلى تعيين ستة مدراء عامين لـ«المخابرات» في عشر سنوات. وهو العدد نفسه الذي استهلكه والده الراحل من المدراء العامين لـ«الدائرة» في ستة وأربعين عاماً من حكمه!
التغييرات في قمة دائرة المخابرات العامة، لم تقتصر على رأس الهرم، بل كانت تستهدف في كل مرة عدداً غير قليل من مستوياتها العليا، ورغم ذلك وجد الملك نفسه في الأعوام التي سبقت الأحداث العربية، مكشوفاً تماماً، وفاقداً السيطرة أمام صراع مراكز القوى، الذي قاده من طرفين متناقضين رئيس ديوانه (باسم عوض الله) ومدير مخابراته (محمد الذهبي). ما اضطره في النهاية إلى إقالتهما بالتتابع.
ويمكن المتابعين أن يلاحظوا أن المدراء العامين للمخابرات في الأردن، كانوا يخرجون من الخدمة في عهد الملك السابق ليتبوأوا مناصب مهمة في السلطة التنفيذية (وزراء ورؤساء وزارات)، بينما خرج أكثرهم في عهد الابن مذموماً، أو إلى قاعات المحاكم بقضايا فساد، كما يمكن ملاحظة أنه اضطر للمرة الأولى في تاريخ «الدائرة» إلى تعيين أحد متقاعديها على رأسها (المدير الحالي فيصل الشوبكي)، في سابقة لم يحظ بمثلها سوى مدير الدائرة الأسطوري (ومؤسسها الفعلي) محمد رسول الكيلاني. من الواضح أنه لم يكن السهل على الملك، أن يقنع مراكز القوى بنفسه، فضلاً عن ملء الفراغ الذي تركه والده؛ وبقي يُنظَر إليه كـ«وريث لا بد منه لملك راحل»، فيما جاءت الأحداث العربية، التي كانت مقدماتها حاضرة في الأردن، لتنسف سكينته وآماله، وتحول الموقف من حوله من الصراع عليه إلى الصراع المفتوح معه، في ظل تواطؤ من الطبقة السياسية نفسها، التي مثلت مستودعه البشري.
وهنا، برز السؤال جدياً عن مستقبل الملك والملكية، فعاد للظهور في صدارة الأحداث ولي العهد «التاريخي» الأمير حسن، ونجل الملكة السابقة نور ولي العهد السابق الأمير حمزة (بوصية الملك الراحل) كمرشحين محتملين، كما شاعت قصص وحكايات عن عبد الله الثاني، الذي ضاق ذرعاً بتصاريف الحكم ولم تعد أعصابه تحتمل العيش في مهب الريح مع تهاوي الرؤساء العرب أمام ناظريه، وعن زوجته التي تصر على تهيئة ولدها للملك بديلاً لأبيه متى ما شاء الرحيل.
لكن هذه الصورة، في جزئها الأول الذي يشي بوجود طامحين بالعرش جاهزين، وجزئها الثاني الذي يعكس صورة درامية عن ملك يحاول أن يغالب حالة من الهلع (بغض النظر عن صدقها)، تبدو بعيدة اليوم بعد السيطرة على الحدث الداخلي من خلال جر النخبة السياسية إلى معركة الانتخابات الجانبية، وبما أفرزه ذلك من معادلات جديدة، أعادت إلى الملك صدارته.
ومن جهة أخرى، لفت سير العملية الانتخابية إلى ظهور قدرة مستجدة لدى الملك على ضبط الأجهزة الأمنية في سياقه الخاص، أو أن هذه الأجهزة باتت تسير بقناعتها الخاصة في سياق الملك؛ فيما تبددت الأوهام حول البيروقراطية الأردنية «الوطنية»، التي راهن بعض اليسار الأردني على إحساسها بالمسؤولية، وانكشفت عن طبقة متحللة سياسياً واخلاقياً ووطنياً. وهذا يبعد عن الملك مواجهة أوهام في الشارع حول وجود قوى وازنة ومنافسة له في الدولة.
وفي المحصلة، يبدو أن الملك الأردني نجا من أسوأ مخاوفه المتوقعة، وهو يشعر بأنه استعاد موقعه كمايسترو لأوركسترا الأحداث في الأردن؛ فهو، بداية، نجا من أمواج «الربيع العربي» وبلغ الشاطئ، وتغلّب على النخب والقوى السياسية، وتجاوز خطر «الإخوان المسلمون»، وانتصر على «العائلة»، كما أنه ولأول مرة تمكن من وضع «الدائرة» في سياقه الخاص. وفي الواقع، فإن المقابلة التي أصابت الأردنيين بالذهول، حملت قدراً ليس بالقليل من هواجس الملك خلال الفترة التي أجريت فيها، بينما اهتمامه بنشرها حتى بعدما تحقق له ما تحقق، يعكس شعور ملك منتصر على يقين بأنه بات يمسك بزمام لحظته السانحة ليتخذ وضعية هجومية تتيح له تصفية كل حساباته، دفعة واحدة، ومع الجميع؛ وتبدو تصريحات عبد الله الثاني في هذا السياق صالحة لأن تكون الــ«بيان رقم واحد» لانقلاب سياسي يعيد خلط الأوراق على نحو شامل.
وعلى الأقل، فإن الرجل يعلن من خلال هذه المقابلة، أنه لم يعد «فورست غامب»، وأن الحظ يبقى، مع ذلك، حليفه القوي!
* كاتب أردني