يواجه الشعب الفلسطيني في بداية عامه الجديد وضعاً سياسياً قاتماً في ظل قيادته الضعيفة وتجزُّئه الجغرافي والإداري وفقدانه الركيزة السياسية، هذا بالاضافة الى النزعة الفردية التي أخذت تطغى على مجتمعه المدني. فمشروع بناء الدولة الذي حمل في طياته وعوداً كثيرة في عقدي الثمانينيات والتسعينيات لم يعد يرقى الى اعتباره هدفاً سياسياً بديلاً يحظى بتأييد شعبي، بل بات يفقد مؤيديه باطراد بالرغم من اعتراف 137 بلداً بالدولة الفلسطينية. الا أنه من الواضح أن الوهن السياسي الحالي الذي يعانيه الشعب الفلسطيني يرجع في معظمه إلى غياب التفكير الاستراتيجي، وذلك بالرغم من بعض الجهود المنظَّمة التي تبذلها بعض المراكز الفكرية والبحثية الفلسطينية في هذا الصدد. فقد أصبح من الأهمية بمكان ما أن يضع الفلسطينيون استراتيجيةً، سواء بمشاركة الفصائل السياسية داخل منظمة التحرير وخارجها أم دون مشاركتها. ففي ظل غياب الاستراتيجية الواضحة سوف تُستنزف الطاقات والتكتيكات التي تبذلها تلك الاطراف، وبالتالي لن تحقق النتائج المتوقعة والمرجوة منها.إن التفكير الاستراتيجي السليم يعتمد على إجراء تقييم دقيق للبيئة السياسية الحالية وما تحتويه من فرص وتحديات داخلية وخارجية. ومن الأهمية بمكان بالنسبة الى الفلسطينيين أن يُجروا تقييماً دقيقاً لاستراتيجيات إسرائيل كونها الطرف الأقوى الذي يقرر نطاق الصراع ومجرياته إلى حد بعيد. اذ إن من الأسباب الرئيسية لاعتبار «أوسلو» كارثةً سياسية أن القادة الفلسطينيين، وبسبب افتقارهم إلى الكفاءة أو يأسهم لإيجاد حل، صدَّقوا رغبة إسرائيل المعلنة في إقامة دولة فلسطينية وعملوا على تحقيق ذاك الهدف السياسي. سوء التقدير هذا، وما تبعه من تنازلات انعكس بشكل كارثي على قدرة الفلسطينيين التفاوضية ووحدتهم وقدرتهم على صياغة استراتيجية وطنية متماسكة.
الفلسطينيون
يعيشون في حل
«اللادولة» الذي تأمل إسرائيل أن تحتويهم فيه

فالفلسطينيون يعيشون الآن في حل «اللادولة» الذي تأمل إسرائيل أن تحتويهم فيه إلى حين أن تتمكن من تحقيق رؤيتها المتمثلة في منح اليهود حقوقاً أكثر ومختلفة عن حقوق غير اليهود، وبالطبع مع الحفاظ على أغلبية يهودية في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها المباشرة. فاستراتيجية إسرائيل في تحقيق رؤيتها ثابتة إلى حدٍ كبير منذ احتلالها الأراضي الفلسطينية في عام 1967، وتتمثل في احتواء الفلسطينيين من خلال رفض ترتيبات الوضع النهائي، سواء كانت سيادةً فلسطينية في إطار دولتين أو حقوقاً متساويةً في دولةٍ واحدة ثنائية القومية. وبالنظر إلى أن استراتيجيةَ إسرائيل مبنيةٌ على الوفاء بحقوق الإسرائيليين والمستوطنين اليهود والانتقاص من حقوق المواطنين الفلسطينيين، فإن استراتيجيةً فلسطينيةً قائمةً على الحقوق ستكون فعالة في فضح الخطط الإسرائيلية ومجابهتها. وينبغي أن يتحول الهدف السياسي الفلسطيني في هذه الاستراتيجية من إقامة الدولة، إلى النضال من أجل حقوق الإنسان السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وبالاضافة الى مواجهة المشروع القومي الإسرائيلي في جوهره، تقدم الاستراتيجية الفلسطينية القائمة على الحقوق مزايا عديدة مختلفة وتوفر مجموعة من المبادئ التوجيهية للنضال. كما انها تضيِّق الخلافات بين الفلسطينيين في الأرض المحتلة وداخل «إسرائيل» وتتماشى والخطاب الدولي بشأن الحقوق ومناهضة العنصرية الذي يصعب تجاهله. الامر الذي يساعد في إقامة تحالفات وطيدة دعماً للنضال.
إن الاستراتيجية الناجحة لا يجب أن تقتصر على تقييم دوافع إسرائيل تقييماً دقيقاً وتحديد مواطن الضعف في ترسانتها، بل يجب أيضاً أن تحشد توافق الآراء في المجتمع الفلسطيني. وهذا تحدٍّ صعبٌ لأسباب عديدة منها تشرذم الشعب الفلسطيني، والتعلق بفكرة الدولة القومية الفلسطينية رغم عدم تحقق حل الدولتين. لذا من الأهمية بمكان أن يتم التوفيق بين الاستراتيجية السليمة سياسياً وبين الشعور الوطني الفلسطيني إلى أقصى حد ممكن. فيتعين مثلاً على الأصوات المدافعة عن النهج القائم على الحقوق أن تؤكد أن التخلي عن التركيز على إقامة الدولة لا يعني التخلي عن الارتباط بالأرض، وأن تتحرى تلك الاصوات السبل التي يمكن من خلالها تجاوز الخلط الضيق بين الأمة والدولة.
من الملفت ان الطريقة الأسرع والأسلم والأنجع لتعزيز الاستراتيجية الوطنية قد تكون من خلال قيادة ممثلة وفعالة. لذلك فإن التفكير الاستراتيجي قد لا يكون سهل التحقيق في ظل غياب أفق يُبشر بنشوء قيادة فاعلة في الأرض الفلسطينية المحتلة أو للشعب الفلسطيني عموماً. ولكن باستطاعة الفلسطينيين الاستفادة من بعض الأدوات التي طورتها المؤسسات والشبكات القائمة في المجتمع المدني الفلسطيني والعالمي لتعزيز التفكير والعمل الاستراتيجي، فتوجيه الخطوات في الاتجاه الصحيح من شأنه ان يُسرِّع أو يساهم في تأسيس قيادة جديدة.
وتبرز حركةُ مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها كأداةَ مدنية قادرة على تأطير النضال الفلسطيني في لغة حقوقية وتحدي القمع الإسرائيلي القائم على أساس الفصل العنصري. فحركة المقاطعة معروفة بالتكاليف التي تكبّدها الاحتلال بصفة منتظمة، ولكن أهميتها الكبرى تكمن في فلسفتها ورؤيتها. فهي تطرح خطاباً يمكن للكثير من الفلسطينيين أن ينتسبوا إليه، ويمكن للعالم أن يتعاطف معه. وهو خطاب لا يعلق في متاهات النقاش حول الحلول والمراحل النهائية. هذا الخطاب يتصدى أيضاً لصميم الرؤية الإسرائيلية للمنطقة، حيث انه لم يُبالغ نتنياهو عندما وصف حركة المقاطعة بأنها «تهديدٌ استراتيجي» للمشروع القومي الإسرائيلي، نظراً لصبغته العنصرية والاستعمارية الاستيطانية. وبالرغم من أن حملة المقاطعة تواجه قيوداً داخل الأرض الفلسطينية المحتلة بسبب اعتماد الأرض المحتلة هيكلياً على الاقتصاد الإسرائيلي، فإن من العلامات المشجعة انتشار لغة الحقوق. فتبني خطاب المقاطعة وإطلاق حملات المقاطعة في الجامعات والمجالس المحلية ومجالس الأعمال وغيرها من المؤسسات هو خطوةٌ ملموسة على طريق مساعدة الفلسطينيين في مقاومة الفصل العنصري والاقتراب من إحراز حقوق الإنسان.
بوسع الفلسطينيين أيضاً أن يستفيدوا من الأطر القانونية القائمة التي تُعنى مباشرةً بحقوق الإنسان وسيادة القانون. تشمل الأدوات القانونية المتاحة بالفعل للشعب الفلسطيني الرأي الاستشاري الصادر من محكمة العدل الدولية في عام 2004 بشأن الجدار الفاصل والذي يعزز توافق الآراء الدولي بشأن عدم شرعية المستوطنات بموجب القانون الدولي. ويمكن استخدام هذه الأدوات للإشارة للدول الثالثة بأن مشاركتها مع إسرائيل تهدد سلطتها القانونية، ولمطالبة تلك الدول باحترام القانون الدولي بتعليق تجارتها أو معاهداتها مع إسرائيل طالما ظلت إسرائيل تحافظ على نظام الفصل العنصري. وبوسع عضوية فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية أن توفر أدوات للتصدي للانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان والعمل على حشد دعم دولي.
في الأرض الفلسطينية المحتلة، تساعد فصول المواجهة مع المحتل في كسر احتكار السلطة الفلسطينية للسياسة، وقد تساعد في تسريع وشرعنة البحث عن استراتيجيات بديلة. وتعيد موجات الغضب المتكررة تعريفَ علاقة الفلسطينيين بدولة إسرائيل باعتبارها علاقةً «صراعية» وليست علاقة «تفاهمية»، وغالباً ما تدعو علناً لإلغاء اتفاقات أوسلو. ورغم أن قدرة هذه الموجات على تحقيق الأهداف السياسية محدودة جداً بسبب ضعف قدراتها التنظيمية ورد الفعل العنيف من جانب السلطة الفلسطينية وإسرائيل، الا انها تطرح خطاباً راديكالياً وتعمل على توحيد رسالة الفلسطينيين، ولو رمزياً فقط.
الأهم من ذلك هو أن الفلسطينيين المواطنين في «إسرائيل»، الذين همَّشتهم منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية أثناء السعي وراء إقامة الدولة، هم أيضاً في صميم النهج القائم على الحقوق. وهذا الامر بالطبع يدّعم صراحةً نضالَهم من أجل العدالة والمساواة في الحقوق. وعلاوةً على ذلك، فإن اتصالهم الوثيق ومعرفتهم بالدولة الإسرائيلية والصراعات المتراكمة داخلها يمثل مصدراً رئيسياً للفهم الاستراتيجي في علاقتهم مع الطرف الاسرائيلي. الامر الذي ينبغي ان يستفيد منه الفلسطينيون في الأرض المحتلة وفي مخيمات اللجوء والشتات.
في الوقت نفسه، يفرض غياب الاستراتيجية مخاطرَ من حيث عدم معرفة أي الأدوات والتكتيكات ينبغي تجنبها. فعلى الرغم من أن الاعتراف بفلسطين كدولة فتحَ الباب لانضمامها إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإن حشد الدعم لإحراز العضوية كدولةٍ مراقبة في الأمم المتحدة أو اعتراف الدول الثالثة لفظياً بفلسطين كدولة ينطوي على مخاطر جسيمة. فهو يُخفي حقيقةَ استراتيجية إسرائيل التي تهدف إلى الحيلولة دون قيام هذه الدولة. وهو يصادق على نموذج أوسلو البائد، ويُضعِف الحجة القائلة بأن إسرائيل هي المسؤولة عن حقوق السكان الذين تحتلهم وتضطهدهم. ومن التكتيكات الأخرى المنطوية على مخاطر التعبئةُ لانتخاب المجلس الوطني الفلسطيني والذي هو بمثابة هيئة ذات فاعلية محدودة، أو إجراء انتخابات ديمقراطية ترسِّخُ حكم أحزابٍ غير ديمقراطية في ظل غياب استراتيجية وطنية. وبالمثل، فإن نهج بناء المؤسسات الذي اعتُمد في السنوات الأخيرة، والذي يتم بموجبه ضخُّ المساعدات الدولية في مشروع بناء الدولة المزعوم، أثبت بأنه هشٌ وغير واقعي. وعوضاً عنه، فإن استراتيجية الاحتواء الإسرائيلية الحالية لا تحول دون قيام دولةٍ فلسطينية وحسب، بل تحول أيضاً دون قيام اقتصاد فلسطيني قابل للحياة. حيث ينبغي بذلُ مجهود أكبر ازاء حل «اللادولة» وسُبله في إبقاء الاقتصاد الفلسطيني تابعاً، وغيرَ منتجٍ، ومتخلفاً هيكلياً.
خلاصة القول، لا تكمن المسألة فيما إذا كانت الأدوات والتكتيكات جيدة أو سيئة من حيث المبدأ، بل فيما إذا كانت تتصدى للواقع السياسي القائم مباشرةً أم تُبهمه، وما إذا كانت تنهض باستراتيجيةٍ محددة تهدف إلى تصويب هذا الواقع أم تعوقه. فالواقع القائم يتطلب صياغة استراتيجية توحد الشعب الفلسطيني خلف نضالٍ يتحدى رؤية إسرائيل لنظام الفصل العنصري.

(يستند هذا المقال إلى ورقة سياساتية لشبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة»*
* عضو سياساتية في شبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة»، وطالبة دكتوراه في الاقتصاد في جامعة «ماساشوستس»