الأحداث التي جرت بين عامي (1989-1991) كانت من التأثير في التاريخ العالمي بحيث يمكن اعتبارهما بداية مرحلة ونهاية مرحلة، نظراً إلى التغيير العميق الذي حدث بعدهما، فبين العامين كانت الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا (1989)، وانهيار جدار برلين (1989)، وتفكك الاتحاد السوفياتي (1991)، مما أسس لنهاية عالم ثنائية القطب لمصلحة عالم أحادية القطب، الذي يختزن في نواته هزيمة الديمقراطية الشعبية ذات البعد الاشتراكي أمام الديمقراطية الغربية ذات البعد الرأسمالي، أي أنظمة الحكم الشمولية أو الفاشستية الشعبية التي تحمل مركباً متناقضاً انفجر تحت وطأته «نزوع استقلالي متمركز حول الذات، واستبداد مطلق يدمر باليد الثانية كل منجزات النزوع الاستقلالي» لمصلحة الأنظمة الديمقراطية المتمحور معظمها حول اقتصاد السوق (بأنواعه: سوق اجتماعية، حرة...) التي ما فتئت تكتسح العالم وتتمدد منذ ذلك الوقت، مما يعني تراجع «الفكر الثوري» الذي ساد طيلة عقود من القرن العشرين لمصلحة تقدم «الفكر الديمقراطي»، دون أن يعني بالضرورة أن أياً من هذين الفكرين هو الذي كان سائداً
، بل خطابهما أو إيديولوجيتهما، حيث سادت الثورة إلى حد ما في المراكز الثورية مقابل نسخ مشوهة في الأطراف، حيث استخدمت الثورة مطية للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها بعد القيام بعدة إجراءات للتعيش عليها لسنوات قادمة كـ«منجزات» تتيح البقاء في الحكم، الذي ما كان ليكون لولا العنف والإرهاب اللذان استخدمتهما هذه السلطات ضد شعوبها، وهو ما أدى إلى استسهال إطلاق صفة الثورة على أي انقلاب عسكري، فغدا انقلاب الثامن من شباط (1963) «ثورة» أتاحت وصول البعث العراقي إلى الحكم لتتوج بدكتاتورية صدام حسين العبثية وانقلاب 8 آذار (1963) «ثورة» البعث السوري للفوز بالسلطة، لنفاجأ بمقتل البعثيين وسجنهم على أيدي بعضهم بعضاً (لا على أيدي خصومهم أو إسرائيل!) لننتهي إلى توريث فج أحرق الجمهورية بأسرها وقدمها لقمة سائغة للخارج، حين سوّر الداخل وأقصاه عن أي فعل مهما كان ضئيلاً. وكذلك تحول انقلاب معمر القذافي (1969) إلى أغرب الدكتاتوريات في التاريخ، وتحوّل انقلاب يوليو (1952) الذي يمكن أن نعتبره المصدر الأساس للانقلابات العربية بعد فشل انقلاب حسني الزعيم في سوريا (1949) إلى حكم استبدادي تحكمه مافيات المال تحت غطاء أبناء مبارك، وكذلك الحال في اليمن وتونس والسودان والجزائر وموريتانيا، وإن بدرجات مختلفة بين بلد وآخر.
«الثورات» تلك أوصلتنا بعد ستين عاماً إلى أنظمة مستبدة أحرقت كل تراكم سياسي واقتصادي لمصلحة تفريغ المجتمعات من قواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية/ المدنية لمصلحة مكونات ما دون وطنية (دينية/ طائفية/ مذهبية)، لتكون مجرد أداة الوصول للسلطة، مستخدمة «الاشتراكية» و«الممانعة» و«السيادة» و«المؤامرة» (بشقيها: المحلي والكوني!) كإيديولوجيات تعينها عند الطلب لإحكام الهيمنة على مجتمع فقد آليات مقاومته بفعل العنف المسلط عليه من فوق، وضعف التراكم النضالي/ السياسي/ المدني من تحت بما يسمح له بتشكيل مناعة تصمد أمام تغوّل السلطة وتمددها فيه.
المدقق في أنظمة الفاشستية الشعبية التي انهار بعضها (والباقي في طريقه للانهيار) أنها رفعت تطبيق الاشتراكية شعاراً لها، لتصل إلى برجوازية دولة أطاحت البراجوازية التقليدية لمصلحة برجوازية النهب والفساد وأصحاب «الخمسة بالمئة»، بعدما بدأت بسلسلة إصلاحات تحديثية أعطت الأنظمة شرعية الانطلاق، لتستنفد تلك الإصلاحات طاقتها خلال عقد واحد فقط، ولتصبح الاشتراكية مجرد إيديولوجيا تبريرية مستندة إلى أجهزة أمنية لن تجد سوى العنف وسيلة لضبط المجتمع بعد استنفاد وسائلها التقليدية (إيديولوجيا، إعلام، تقديم خدمات للطبقة الدنيا من المجتمع...).
الآن، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي باتت «الديمقراطية» هي الإيديولوجيا الرسمية لثورات العصر الحديث، وإذا كانت الديمقراطية هي حصيلة نضال طويل، فإن قراءة تجارب عدد من الدول تفرض علينا التفريق بين ديمقراطيات ما زالت تسير في طريق متعرج لترسيخ أسس حكم ديمقراطي حقيقي، وديمقراطيات ليست إلا قناعاً لحكم استبدادي في الجوهر رغم الشكليات الديمقراطية، لتغدو مجرد إيديولوجيا لتجميل التسلط، ولعل ما يحصل في عالم الربيع العربي اليوم هو هذا الصراع بين السعي إلى وضع أسس ديمقراطيات حقيقية تقوم على الفكر والنقد والاقتصاد والقانون والقضاء وترسيخ حكم المؤسسات وحقوق الإنسان، وبين خطاب ديمقراطي أجوف ينوي الهيمنة باسم الثورة والديمقراطية على السلطة بعيداً عن تحقيق مصالح الطبقات الشعبية الأكثر مصلحة بالثورة، حيث تتحالف السلطة الجديدة مع البرجوازيات الطفيلية (التي تجد لنفسها مكاناً دوماً) وقوة العسكر والاستخبارات التي تشكل الدولة العميقة في الداخل، وسلطة العولمة والعدو في الخارج، لتصبح الثورة مجرد استبدال نظام بنظام، بما يعنيه ذلك من إحداث بعض التحولات على مستوى الشكل دون الجوهر الذي يبقى هو هو، وليبقى السؤال: هل تختزن ثورات الربيع العربي معنى اسمها «ثورة»، وتستطيع الانتقال بالحالة العربية من الديمقراطية كإيديولوجيا إلى الديمقراطية كمعنى حقيقي عبر إحداث تحولات عميقة على صعيدي المجتمع والدولة والاقتصاد، أم تبقى «انتفاضات» محدودة بإزالة السلطات القائمة لمصلحة أنظمة بديلة، علماً أن الانتفاضات ليست شتيمة هنا، بل تبقى دون أي شك حالة متقدمة على الاستبداد الذي أغلق الدائرة ليعاد فتحها أمام نضالات البشر التي يجب على القوى السياسية والنخب تفعيلها وتحفيزها وعقلنتها لحصد ثمار إيجابية على المدى البعيد.
* كاتب وشاعر سوري