قبل 15 آذار 2011 كانت الثورة السورية جنيناً في رحم سوريا، اعتنى به السوريون مترقبين مجيئه، وعانوا ما عانوه من آلام المخاض إلى أن ولدت «الطفلة». علموها النطق والمشي، غذوها من أعصابهم ووقتهم وعملهم الدؤوب إلى أن كبرت، لكنها أصيبت بعد عام من الولادة بمرض خطير اسمه: السلاح والفوضى، ثم تفشى المرض وسيطر على معظم أعضائها وأقعدها في الفراش دون حراك، فهل هي على وشك الموت الآن؟ أم أنّها ستشفى؟ هل ستكبر لتربي أجيالاً قادمة مانحة إياهم الحرية والعدالة والديمقراطية كما منحها آباؤهم كل ما يملكون؟ أم ستموت تاركة وراءها الدمار والخراب؟كان هناك جناحان يتناميان معاً في الثورة: الجناح المدني، والجناح الإسلامي، أما الجناح المدني فقد تشكل بطريقة عفوية، ومكوناته: الشباب المثقف من كافة شرائح المجتمع، وتركز نشاطه في قلب العاصمة دمشق، أما مفرداته فقد اشتملت على السلمية والديمقراطية وبناء الدولة السورية. وقد أسهم هذا الجناح في تغيير مفاهيم كثيرة لدى الشباب السوري: اكتشف كل منهم موهبته وإمكاناته، فصار من الطبيعي أن يتعلم شاب التصوير ويمارسه مع أنه لم يحمل كاميرا في حياته، وأن يقوم آخر بتعلم الخطوط العربية ليخط لوحات المظاهرات، وثالث تأليف الأغاني، ورابع الرسم... كما أصبح للاختلاط بين الجنسين معنىً جديد سام في ظل الثورة، فقد نسي السوريون «التابو» الديني ولو بشكل طفيف، وأصبح للحب معنى أوسع وأعمق. وصار من الطبيعي أن يتصل الطبيب بالفلاح ليقوده إلى مكان التظاهرة، هكذا بدأت تتفتح بوادر تغيير جذري في الوعي والثقافة والمفاهيم والتواصل داخل المجتمع السوري.
تلك المرحلة التي استمرت حتى العام الثاني من الثورة ــ مع انخفاض وارتفاع في حيويتها حسب الزمن والمنطقة ــ، تم تغييبها عن الفكر العالمي، فأغلب وسائل الإعلام لم تقدم عن سوريا سوى فكرة واحدة: نظام يقتل ومعارضة تريد إسقاطه بهدف سياسي، إضافة إلى الطريقة الطائفية في تناول الخبر وإظهار الثورة بطريقة إسلامية ــ الجزيرة على سبيل المثال ــ، والتي وضعت كل ثقلها لإظهار أن الطائفة العلوية هي وحدها من تقوم بالعنف، متجاهلة التظاهرات المدنية التي تشارك فيها كل الطوائف ــ لا سيما في حمص ــ، مما أسهم في الاحتقان الطائفي وطغيان الجناح الإسلامي الذي تسلل إلى السوريين عبر الأحزاب السياسية مستغلاً طبيعتهم المتدينة ليلغي بالتدريج المكون المدني والسلمي للثورة، إضافة إلى إسهام النظام في هذا الإلغاء عن طريق العنف، والموقف العالمي الذي اعتمد على التنديد وإعطاء المهل للنظام.
لم يأخذ الجناح المدني حقّه الزمني من الثورة السورية، ولو أنّ السلاح لم يكن سوى نتيجة طبيعية تجاه نظام متوحش ــ كما يدعي البعض ــ، لما وجدنا هذه الحروب التي تقع بين الثوار أنفسهم! فحين يصل الجناح المدني إلى أقصاه، ثم يُضطر الثوار إلى حمل السلاح (دون أجندات خارجية)، فإنه سيمنع انتشار القتل المجاني والانتقامات بين الثوار أنفسهم، ولتوضيح ذلك نقارن بين أحياء مثل برزة والقابون في ريف دمشق وقرى مثل كفرنبل، والتي استمر فيها الحراك السلمي لأكثر من عام ونصف العام ثم ظهر السلاح، بمدينة عريقة كحلب، والتي لم تعرف الحراك المدني السلمي، بل انحدرت فجأة نحو التسلح. الأخطاء والفوضى والاشتباكات بين الكتائب في حلب لا تُقارن بأخطاء الأحياء والقرى سابقة الذكر.
لقد ظهر السلاح مبكراً، ففي حمص على سبيل المثال، كان السلاح يدخل منذ الشهر التاسع عام 2011 عن طريق طرابلس لبنان بدعم من تيارات اسلامية. ويتمّ توزيعه بشكل غير منظم بهدف حماية التظاهرات، مما أدى إلى لجوء البعض للانتقامات الفردية من عناصر الأمن فازداد توحش النظام، في ظل غياب شبه كامل للمثقفين السوريين الذين تركوا الشارع يقودهم بدلاً من أن يقودوه، أما الشارع فقد وقع بأيدي الإسلاميين بأجنداتهم الخليجية والأميركية.
الآن انحدرت سوريا بشكل كامل نحو التسلح، وباتت الفوضى والعنف والعنف المضاد هي المفردات المسيطرة على كل شيء. لم يعد إسقاط النظام هو الهاجس الوحيد لدى السوريين، ولم تعد الحرية سوى غاية بعيدة بين النشطاء الذين أشعلوا الثورة، أما الغاية الأقرب فهي وحدة سوريا ووقف القتل أولاً وبأية وسيلة، أما المعارضة ــ متمثلة بالائتلاف الوطني ــ الذي شُكّل خارج سوريا فقد حاولت إسقاط النظام بالسلاح واعدة الشارع بالحظر الجوي والتدخل العسكري، ناسية أن قادة الثورات عبر التاريخ ــ ابراهيم هنانو وصالح العلي وغيفارا وماو تسي تونغ ــ لم ينادوا إلى التسلح بل حملوا السلاح أولاً ليقدموا نموذجاً فعلياً لا كلامياً لشعوبهم. وهذا ينطبق على أكثر المثقفين السوريين الذين لم يقدموا نموذجاً فعلياً أيضاً، وقد رأى الجميع الآثار المدمرة لهذا الخيار، فالنظام لن يسقط بالسلاح، بل سيزداد غطرسة وبطشاً وينال الحجة لتدمير البلد، أما الحوار السياسي فلم يعد يأتي بنتيجة بعد أن تضخمت الجماعات الإسلامية متمثلة بجبهة النصرة وسيطرت على مدن بأكملها، إذ كيف سيكون هذا الحوار والأطراف المتحاورة لا تبسط سيطرتها على الأرض؟ ما يحدث الآن حرب بين مدنيين مسلحين من جهة، وبين ميليشات النظام والميليشيات الإسلامية من جهة أخرى، أي أن هناك أطرافاً عدة مسلحة وشبه منفصلة عن الأطراف السياسية، لكن سوريا لم تدخل في حرب أهلية بعد، لأن النسبة العظمى من السوريين لا تريد وقوع هذه الحرب من جهة، ولانعدام التقارب بين نسب الطوائف والقوميات من جهة أخرى، لكن هل ما يحدث في سوريا ثورة؟
الشرارة التي أطلقها السوريون منذ عامين لم تنطفئ، لكنها تخفت وتستمر في التجربة الجمعية، وإن بدت التجربة شديدة المرارة بعد أكثر من مئة ألف قتيل وعشرات آلاف المفقودين والمعاقين وملايين النازحين في الداخل والخارج، إلا أنها تصفي أدران الاستبداد الموغلة في المجتمع منذ أربعين عاماً، وثورات الشعوب على مر التاريخ تثبت ذلك.
علينا أن ننتظر الأطراف المتصارعة الحالية حتى تستنزف قدرتها على الاستمرار، وعندها ستُجبر على الحوار بهدف تقاسم السلطة، ومهما كانت نتائج هذا الصراع مدمرة فإنها ستزول مع الزمن إن كان الشعب السوري واحداً فعلاً، وعندما يتمّ تقاسم السلطة بعد كثير من الضحايا والأثمان، فسنكون بحاجة إلى ثورة مضادة على الاستبداد الجديد!
* كاتب وشاعر سوري