منذ أن نزل التونسيون إلى الشوارع، ليمزّقوا جدار الصمت العربي، وتبعهم في ذلك المصريون، عبر الهتاف المدوّي «الشعب يريد إسقاط النظام»، الذي تحوّل إلى شعار مشترك لمختلف محطّات قطار الاحتجاجات الشعبيّة، والانتفاضات، والثورات، التي جرت وتجري في غير بلدان عربية، أو ما بات يُعرف بـ «الربيع العربي». انبرت أصوات عديدة للتبشير بموعد «الحلم الديمقراطي» المنشود، الذي طال انتظاره. ولم ير آخرون حرجاً من تشبيه ما يحصل بموجة التحوّل الديمقراطي، التي شهدتها دول أوروبا الشرقية، عقب سقوط جدار برلين، وانهيار الإمبراطورية السوفياتية، قبل نحو عقدين من الزمن.لكنّ قليلاً من التروي، والوقوف على مسارات تطوّر المشهد في «بلدان الربيع العربي»، عبر رصد المؤشّرات والنتائج الأولية لتحوّلاته، يجعل من الحديث عن «تحوّل ديمقراطي» مسألة تحتاج إلى تدقيق وإعادة نظر، وخصوصاً أنّ البحث في مستقبل تلك البلدان، وطبيعة نظم الحكم القادمة في كلّ منها، لم يعد ترفاً فكرياً، بعد التطورات المتلاحقة، والمعطيات التي بدأت فعلاً بتشكيل ملامح ذلك المستقبل. فقضية الثورة، أو التغيير الديمقراطيَّين، لا تستقيم بأن تخفض إلى محض صراع على السلطة، إذ لا بدّ من قطيعة فعلية ونهائية مع ماضي الاستبداد القريب، بما حمله من تسلّط وإقصاء وفساد، لأنّ رهان الثورات لا يقف عند استبدال سلطة بأخرى (النهضة محلّ التجمّع في تونس، والإخوان عوضاً عن الحزب الوطني في مصر،... وهلم جرا).
بالعودة إلى «كلمة سرّ» الثورات العربية، «الشعب يريد إسقاط النظام»، واضح من منطوق الشعار ومضمونه أنّ المنتفضين طرحوا على أنفسهم مهمّة محدّدة: إسقاط نظام عانوا ما عانوه من حكمه. أي إنّ ثورتهم في العمق هي «ثورة على». بعبارات الديالكتيك «نفي»، سيعقبه بعد إنجاز هذه المهمّة التحدّي الأساس، المتمثّل في تخطّي مرحلة «النفي» إلى «نفي النفي»، من «الثورة على» إلى «الثورة من أجل»، أو تحدّي البناء بعد الهدم. بمعنى: أي حكم نريد، وما شكل الدولة التي نبتغي، وهل الظروف الواقعية تتيح ذلك؟ من المؤكّد أن المقصود ليس تحميل الجموع الغاضبة مسؤوليّة التفكير البارد، فهذه مهمّة النخب، من قوى سياسيّة ومثقفين، على اختلاف مشاربهم الفكريّة والأيديولوجيّة. فماذا فعل هؤلاء؟
يتطلّب الانتقال من الاستبداد نحو نظام ديمقراطي، أن تعمل النخب في المجتمع المعني، على إيجاد الفاعلية التي تحوّل الحراك الشعبي العفوي إلى مشاركة سياسية، تنتج وعياً وطنياً، يؤسّس لتحوّل ديمقراطي حقيقي، بكل ما يقتضيه ذلك من التزام تام ونهائي بحقوق الإنسان والمواطن، وفقاً لدستور عصري ضامن لهذا الالتزام، مهما تكن الهوية السياسية، لمن سيتولّى مسؤوليّة الحكم، بغية قطع الطريق مستقبلاً على كل محاولة للعودة إلى الوراء، وإعادة إنتاج صيغ استبداديّة، بأيديولوجيات أخرى غير التي وسمت الدكتاتوريّات المتهاوية، فضلاً عن كون القيم السالف ذكرها، تعبّر عن بديهيّات الفكر الديمقراطي المعاصر، ويُفترض العمل على توطينها في الأوساط الشعبيّة لا تبنّيها فقط على مستوى النُّخب، بل لا بدّ من السعي إلى نشرها كثقافة وطنيّة قولاً وممارسة.
خلافاً لذلك المقتضى، يكشف واقع الحال عن بَون شاسع بين شعارات التغيير البرّاقة، والكلام المعسول عن الديمقراطية، وهو ما تبجّحت به طويلاً الأحزاب والتيارات التي ركبت على الحراك الشعبي، وحصدت ثمار تضحياته، وبين السلوك العملي لها. لا يرمي المقال إلى إلقاء التهم، أو إطلاق الأحكام الأخلاقية، لجهة الصدقية والنزاهة، اللتين لا يبدو أن السياسة ميدانهما بحسب ما يعتقد البعض، بل هي محاولة لبيان انسجام هذه التيارات مع ذاتها، من حيث كيفيّة فهمها الانتقائي للديمقراطية، وبالتالي سعيها إلى اختزال الثورات، وقضيّة التغيير تبعاً لذلك الفهم.
لعلّ ممارسات الإسلاميين في مصر وتونس وغيرهما خير دليل على ذلك، فهم كغيرهم من تيّارات الإسلام السياسي، تُختزل الديمقراطية عندهم في صندوق الاقتراع، ولا يذهبنّ أحد إلى وصف هذا القول بالتسرّع أو الأيديولوجيا، لأنّه، ببساطة، مبنيّ على مواقفهم المعلنة من مسائل جوهرية تبدأ من المرأة، ولا تنتهي عند الموقف من غير المسلمين، في تعارض صارخ مع أبسط قواعد المساواة القانونية والسياسية، جوهر الديمقراطية وروحها. مع ذلك لا مجال لإنكار أنّ صناديق الاقتراع ـــ إحدى أدوات الديمقراطية ـــ هي التي حملتهم إلى السلطة، لكنّ هذا يحتّم عليهم، احتراماً للديمقراطية، عدم التنكّر لمنظومتها الكاملة، والاكتفاء بشيء من آلياتها الإجرائية.
تبقى الإشارة إلى أنّ البؤس الفكري، وما ينتج عنه من خطاب سياسي تلفيقي، مهّد للاكتساح الإسلاموي، الذي يصبغ المشهد الربيعي. بؤس ميّز مختلف أطياف المعارضات العربية، من يساريين وقوميين ومتلبرلين، ويتجلّى في التركيز على التخلص من نظم الاستبداد القائمة، ممثّلةً ـــ ومختزلة أيضاً ـــ في شخص الحاكم والمقرّبين منه، وتجاهل كلّ ما عدا ذلك من استحقاقات التغيير، كأنّها مجرّد تفاصيل مؤجّلة تُبحث في حينها. إنّها رؤية أحادية الجانب لا تخلو من طابع «انتقامي»، وتنمّ عن تبسيطية ميكانيكية، تكاد تفترض الشروع تلقائياً ببناء نظام ديمقراطي بمجرّد «إسقاط النظام». ولا يستحي أصحابها من سوق المسوّغات والمبرّرات للفظائع والانتهاكات في سبيل التخلّص من السلطة القائمة.
إنّ الملايين الذين ملأوا الشوارع والساحات، طلباً للتغيير وإسقاط أنظمة القهر والظلم، وقدّموا عشرات ألوف الضحايا، مندفعين بحسّهم العفوي، دون اكتراث لأهواء السياسة وأوهام الأيديولوجيا، باتوا اليوم بعيدين عن أحلامهم، بعدما جاء لصوص الثورات، وجيّروها وفق ما يشتهون. فهل تستعيد الشعوب ثوراتها، أم أنّ مستقبلها اليوم سيبقى مرهوناً بما ستؤول إليه تسويات تفرضها جبهات القتال هنا، ومناورات الساسة وألاعيبهم هناك، على إيقاع تضبطه مصالح القوى الكبرى وتوازناتها!
* كاتب سوري