شهدت فترة الخمسينيات والستينيات ازدهار المشروع القومي العربي، وذلك مع بدء الدعوة إلى الشروع بالنهضة العربية في وجه الاستبداد المشرقي والاستعمار الغربي. إلا أن هذا المشروع أصيب بأكثر من هزيمة، بدأت بنكسة حزيران عام 1967 التي انتهت باحتلال العدو الإسرائيلي أراضي من ثلاث دول، وإقرار مشروعية الوجود السياسي الصهيوني في فلسطين من خلال وضع مبدأ الصلح المنفرد مع هذا الكيان.ومع توالي الهزائم بعدها... وخروج مصر من عالمها العربي بعد توقيع «كامب ديفيد»، واتفاقية الاستسلام بين الكيان الإسرائيلي مع الأردن، وصولاً إلى سقوط بغداد بيد الاحتلال الأميركي. ثم تبعت ذلك هجمة العولمة الحديثة بمؤسساتها الاقتصادية والثقافية، والاجتماعية، ورفع شعار العالم قرية صغيرة إلى جانب وجود أنظمة عربية استبدادية، وبطانة كومبرادورية تتحكم في مقدرات الشعوب العربية وتربط مصالحها مع المصالح الاستعمارية في المنطقة. أمام هذا تراجعت عناصر الثقة بالنفس لدى الجماهير العربية، وازدادت التبعية بعدما أثخنت هذه الأنظمة شعوبها وقواها الوطنية بالجراح بفعل القهر والقمع.
وسيطر الشعور لدى المواطن العربي بالعجز وعدم امكانية النهوض والتطور والتغيير، وتحديداً لدى الرافعة الأهم لأيّ مشروع نهضوي في العالم العربي: الشباب.
هذه الأجيال الشابة التي فقدت الثقة بقدرة القيادات، والأيديولوجيات المنتشرة من مشرق العالم العربي إلى مغربه على تحقيق مشروع نهضوي لها، كانت طيلة هذه العقود في حالة تطور دائمة، لكنها كامنة داخل حركة المجتمع العربي.
وكان يجب أن تصل إلى مرحلة تخرج فيها من كمونها إلى صيرورتها الطبيعة، وأن تبحث لها عن دور سياسي يخولها قيادة مجتمعاتها، وخاصة أمام أنظمة سياسية تعاملت مع دولها على أنها مزارع للعائلات الحاكمة.
كان لا بد لهذا الشباب الذي ضاق ذرعاً بتهميشه أن يتساءل عن دوره وهويته ... من نحن؟ وإلى أين تأخذنا هذه الأنظمة الفاسدة، فكان الربيع العربي بكل تجلياته السلبية والإيجابية، ومع كل نظريات المؤامرة التي تقال، سواء ما كان منها صحيحاً أو ما هو موروث داخل العقل العربي. كان الربيع العربي تعبيراً واضحاً عن رفض الشباب العربي استمرار هذه الأنظمة السياسية الفاسدة والمفسدة، واصراره على إعادة تعريف هويته.
وإذا كانت الهوية تحدّد الشعور العميق الوجودي الأساسي للإنسان، والشعور العميق الخاص بانتمائه الذي يمنحه الهدف والأمل في حياته، فإن «الأنا» كما يقول اريكسون (هي الهوية والسيادة، وذلك بإدراك هوية الأنا الحقيقية بوجود تماثل ذاتي واستمرارية في طرق الأنا التكاملية، وفي نمط الفردية الشخصية، وأن هذا النمط يتوافق مع التماثل والاستمرارية للمعنى الشخصي كما يدركه الآخرون الذين يمثلون أهمية في الوسط الاجتماعي لهذا الفرد).
بهذا المنطق لا يمكننا أن نتحدث هنا عن هوية واضحة وسوية يمتلكها الشباب، لا قبل الربيع العربي ولا حتّى بعده.
فالهوية عملية مستمرة، ليس في ذات الفرد فقط، بل أيضاً في ثقافته التي ينتمي إليها.

ما قبل «الربيع العربي»

إذا كان الاحتفاظ بالشعور بالهوية هو التكامل وتوفيق المتناقضات والتماثل والاستمرار، انتقالاً إلى القدرة العالية على التماسك الاجتماعي، فإن الهوية لدى الشباب في ظل هذا الواقع كالمرآة المتكسرة التي لا تستطيع أن تعكس صورة متكامله عن واقعها، بسبب الشعور بالنقص الداخلي وغياب الأنا السوية، وازدياد ساحة اللاشعور وصولاً إلى شعور الشباب بأنه لا معنى لهذه الحياة داخل هذا المجتمع، وبالتالي التخلي عن التمسك بالقيم التي تؤمن بها مجتمعاتهم، ليصل في كثير من أوساط الشباب إلى ما يسمى «تمييع الهوية».
لقد أصبحت الهوية عقدة بوجه صاحبها لا تعبيراً عن انتماء واستمرارية، فعندما ينغلق المجتمع على ذاته، وتسهم الدولة بأنظمتها السياسية والاقتصادية في ذلك، فإن هذا المجتمع يصبح مفتقراً إلى رؤية ووعي تاريخي، ويصاب بالضمور في ثقافته ويبقى تابعاً ومستباحاً.
إلا أن هناك فئة من الشباب استطاعت أن ترسم لنفسها هوية إيجابية في إطار الرضى عن النفس، إلا أنّ تعاملها مع الواقع كان جبرياً، وبالتالي دخلت هذه الفئة في إطار متاهات هذا الواقع وتناقضاته.
ومنهم من اختار الهوية السلبية بالانعزال، أو العنف كوسيلة دفاع لحماية الذات من السقوط والهزيمة، فأخذوا يبحثون عن عناصر هويتهم بعيداً عن الإيجابية الممكنة، ليتجهوا إلى ردّ فعل بالعودة إلى التراث بشكله السلبي، فكان ذلك نكوصاً نحو الماضي للاحتماء به لعجزهم أمام إحداث تغييرات أمام صلابة هذه المنظومات الاجتماعية المحتمية بأنظمة سياسية ديكتاتورية ترسم خطوط مجتمعاتها بما يتوافق مع مصالحها الضيقة، التي تبقيها خارج حركة التاريخ.
لقد حاول الشباب العربي طيلة العقود السابقة أن يبحث له عن انتماء، لكن هل حقق له هذا الانتماء ثنائية الوعي والوجود الفاعل. لقد انتهى الشباب إلى: إما البقاء في داخل هذه الأطر وبالتالي الانتماء اليها والدفاع عنها، أو أن يصاب الشباب بخلل في التوازن الذاتي، وبالتالي أن تنعكس هذه الهوية المشوهة على الفئة أو التنظيم، أو الطبقة التي ينتمون إليها، لتصبح الأزمة في إطار الجزء والكل والعلاقة الجدلية بينهما وتكاملهما. وهذا يتقاطع كثيراً مع مصالح الأنظمة السياسية والاجتماعية الفاسدة في العالم العربي، إذ إن الخلل في الهوية لدى الشباب يبقي الفرد والمجتمع في إطار المستهلك والتابع والجمهور (القطيع)، ذلك لأن هذه الأنظمة بالأساس قائمة على تحقيق مصالحها الشخصية، وبالتالي فإن ارتباطها الأساسي يكون مع النظم الرأسمالية والإمبريالية العالمية، التي تحارب أي نهوض لهذة الأمة.
ومع ازدياد الهجمة الاستعمارية على المنطقة، وخاصة بعد نهوض ما يسمّى «النيوليبرالية» وإصابة الخطاب الرسمي العربي على المستوى الثقافي والأيديولوجي والسياسي بالعطب والفكر الغيبي، نحا الشباب نحو إيجاد ثقافة مغايرة ونمط مغاير وهوية مغايرة، وخاصة بعد فشل الأيديولوجيات من قومية، أو ماركسية، أو دينية، في تحقيق الديمومة والاستقرار للوعي الوجودي لهذه الفئة.

الشباب والربيع العربي... وما بعده

الحلم والواقع، الأول يحتاج إلى الكثير من العمل كي يمضي نحو وجوده الحسي، والثاني يحتاج إلى الكثير من الوعي حتّى نمتلك أدوات تغييره، وفي الحالتين نحتاج إلى حرية الفعل، والإرادة، وهذا يحتاج إلى ضرورة الانعتاق من الاستبداد السياسي الذي يصلت سيفه على رقابنا.
منذ عقود والشباب العربي تائه بين ساسة الدين، وساسة السلطة، ورغيف الخبز. والأحزاب السياسية التقليدية المعارضة، التي من المفترض أن تكون الرافعة الحقيقية لأي تغيير، بينما هي في الواقع مصابة بالخصي، وما هي إلا «دكاكين» تراكم الغبار على رفوفها، وما عاد فيها بضاعة قابلة للشراء.
لكن المجتمعات لا تتوقف عن التطور حتى لو كانت بعيدة عن روافعها السياسية، هي حركة التاريخ التي لا تتوقف.
وهذا ما حدث عندما خرج الشباب العربي إلى الساحات كاسراً حاجز الخوف الذي بناه «الخليفة» طيلة عقود من القهر والذل والفقر.
الشباب هم القوة الديموغرافية الضارية التي لم ينتبه ملوك المنطقة إلى أنها أصبحت تمثل ثلثي السكان، وإلى أن الخلل في الهوية كان له الجانب الإيجابي، أيضاً، في تمرد الشباب على واقعهم، لأن هذا التشوه في الهوية كان أفقياً وعمودياً بحيث كانت آثاره على الذات، والمجتمع معاً. هذا التشوه خلق مساحة خفية من الانعتاق من السلطات التاريخية (الدين – السياسة – الجنس) واتسعت مع هذا التشوه قدرة أخرى على التمرد، تبلورت على نحو فعلي عند فئة الشباب، الذين ضاقوا ذرعاً بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشونه.
لم يكن إقدام «بوعزيزي» الشاب الفقير على احراق نفسه، وهروب بن علي ثم ثورة مصر واسقاط حسني مبارك، واندلاع الثورة في سوريا، وهبوب رياح التغيير في ليبيا واليمن والسودان والبحرين والأردن، أحداثاً عابرة بعيدة عن شرطها التاريخي، كما ينظر إليها مثقفو سلطات القمع والفساد على أنها مؤامرة كونية تستهدف العالم العربي، بل هي روح جديدة تبشر بنقل المنطقه بأكملها من حال إلى آخر.
لقد فرض الشباب العربي نفسه قوة اجتماعية فاعلة لا يمكن تخطيها عندما كان في طليعة الثورات العربية.
وما نشهده اليوم بعد نجاح بعض الثورات في ممارسة ما يُخرج الشباب من مؤسسات السلطة التي جاءت بعد الثورة، ما هو إلا من فعل فلول الأنظمة السياسية السابقة، وبالتالي الشباب اليوم مطلوب منهم أن لا يسمحو بسرقة ثوراتهم.
فالواقع أكثر تعقيداً، ونجاح المشروع الذي يحمله الشباب يحتاج إلى تراكمات كمية لتؤدي إلى تراكمات كيفية، وهذا يحتاج إلى وقت، وخاصة من حيث تحقيق وجودهم الواعي للواقع الجديد الذي صنعوه بدمائهم.
على الجميع الادراك والتنبه، في هذه الفترة التاريخية الحرجة، إلى أنّ الشباب هم المدخل الأساسي لمعرفة واقع، ووجهة المستقبل السياسي للمنطقة العربية، وما تشهده المنطقة من فوضى واضطرابات في بعض البلدان ما هو إلا نتيجة طبيعية لسعي الشباب نحو تحقيق هويتهم.
رغم كل التشويه والفشل المستمر اللذين تعرّض لهما الشباب العربي في العقود الأخيرة من وجودهم تحت سلطات قمعية متعددة، إلا أنّ هذا «الدينامو» المُعطل رغماً عنه، كان مدركاً حقيقة الواقع الذي يعيشه. كانت المشكلة كيف يستطيع أن ينقل ذاته من الفعل الممكن إلى الفعل الموجود، وكان هذا يحتاج إلى أكثر من وعي للواقع المعيش.
* كاتب فلسطيني