سقطت القسطنطينية في العام 1453 ودخلها منتصراً السلطان العثماني محمد الفاتح. بعد أربعمئة عام تماماً، أي في العام 1853، بدا هذا السقوط بارزاً في ذاكرة روسيا التاريخية، حيث أطلق القيصر نيكولاي الأول صفة «الرجل المريض» على الإمبراطورية العثمانية التي بدأت عوامل التفكك والتآكل تبدو في أرجائها على نحو جليّ. وعلى مدى سبعين سنة متوالية، سادت هذه الصفة في الأدبيات السياسية الأوروبية، ولم يتمكن أي سلطان عثماني ــ حتى آخرهم عبد الحميد الثاني ــ من إعادة إكساب الإمبراطورية مظاهر الصحة والعافية، فظلّت رجلاً مريضاً وفي طور الشيخوخة، وكان أن أزمن المرض واستفحل إلى الوقت الذي دفع مصطفى كمال أتاتورك إلى إطلاق حكم إعدام مبرم بـ«الرجل المريض» متوافقاً مع المتغيرات الجيو ـ سياسية الكبيرة الناتجة من الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، وتم تنفيذ هذا الحكم رسمياً بإعلان نهاية «الخلافة الإسلامية» ومعها السلطنة العثمانية، وقيام الجمهورية التركية العلمانية في العام 1923.
لم يكن حكم الإعدام عام 1923 بحق السلطنة
العثمانية مبرماً

في المؤتمر الثالث لحزب العدالة والتنمية الذي عقد في العام 2009، تمت صياغة شعار لهذا المؤتمر فيه من الادعاء بمقدار ما فيه من الخبث والدهاء. كان الشعار: «نحو العام 2023»، أي نحو مئوية الجمهورية. شاء رجب طيب أردوغان مع داود أوغلو وضع شعار مجرد قابل لاكتساب المعاني الموائمة للمتغيرات والأحداث التركية التي تمس نسيج المجتمع التركي واتجاهاته من جهة، والأحداث الإقليمية التي تحاكي المجال الجيو ـ سياسي القديم للسلطنة العثمانية من جهة مقابلة.
يوحي الشعار في دلالاته الأولى بأن تركيا ستزحف نحو مئوية الجمهورية وفق برنامج عمل يحيل هذه المئوية إلى احتفالية أتاتوركية المعنى والروح، فيما بدا من سياق أداء الحكّام الأتراك في السنوات الماضية أنهم يدفعون تركيا للزحف باتجاه قتل الجمهورية رسمياً وبمناسبة مئويتها. مرة جديدة، بدت السياسة التركية مشبعة بروح عثمانية فيها رائحة دهاليز ومؤامرات القصور السلطانية، وصفات الخداع والغدر والنفاق. دفعة واحدة، بدت تركيا قابعة تحت طربوش السلطان، فيما قبعة أتاتورك تم تخصيصها لحفلات التنكر السياسي.
للمصادفة أو ربما لصرامة حركة التاريخ، حدث أن المكان – الدولة التي كانت من مئة عام أو أقل، المنصّة التي انحسرت منها الإمبراطورية العثمانية نهائياً تجاه جمهورية أتاتورك، والتي هي سوريا، أن عصفت الأحداث بها على النحو المعروف، فانزلقت تركيا عبرها بشكل أبعدها عن «الجمهورية» وقرّبها من «العثمانية القديمة» بكل عفونتها وصدئها وقتامتها، فيما «العثمانية الجديدة» التي بشّر بها داود أوغلو لم تعد تصلح حتى كبرقع فكري في المؤتمرات السياسية. وللمصادفة نفسها أو لصرامة حركة التاريخ نفسها، حدث أن روسيا المعنية تاريخياً بالوقوف في وجه العثمانية المتجهة صوب المجال الروسي من أوروبا، والمشبعة ذاكرتها بمفردات صراع تاريخي طويل معها، والتي أحد قياصرتها وصفها يوماً بـ«الرجل المريض»، روسيا الحديثة الآن تقف على نحو واضح في مواجهة تركيا على المنصّة السورية وفي أداء يعيد استحضار العمق التاريخي لهذه المواجهة على نحو مدهش.
في استكمال لمناخ هذه المواجهة، اختار فلاديمير بوتين في الثالث من كانون الأول 2015، قاعة القديس مار جرجس (قاعة المجد) والتي كانت مكاناً أثيراً لدى القياصرة، كي يوجه الرسالة السنوية إلى الجمعية الفدرالية الروسية، حيث تناول في قسم منها الأحداث في سوريا والتي منها حادثة إسقاط تركيا للطائرة الحربية الروسية. استخدم بوتين في مقاربته لهذه الحادثة لغة غير معتادة في الخطاب السياسي الروسي الراهن، ولا حتى بنسخته الماركسية ــ اللينينية، ولا بنسخته الليبرالية ــ الطفولية في حقبة يلتسين. قال بوتين إنه لا يعرف لماذا أقدمت تركيا على إسقاط القاذفة: «الله ربما وحده فقط يعلم لماذا فعلوا ذلك. وعلى ما يبدو، فإن الله قرر معاقبة الزمرة الحاكمة في تركيا، حارماً إياها من التفكير العقلاني والمنطق».
يؤكد بوتين، على هذا النحو، أنه لا يمكن للقادة الجدد للعثمانية «الاستفراد بالله» وإرادته، بل إنّ الله لحكمة ما أفقدهم ميزة التفكير والمنطق، وببساطة متناهية يريد بوتين أن يقول: إن الله أحالهم إلى مجانين!
وفق القيصر نيكولاي الأول (1853)، الإمبراطورية العثمانية ليست سوى «الرجل المريض»، ووفق فلاديمير بوتين: رجب طيب أردوغان ليس سوى «الرجل المجنون»، ووفق جدلية بسيطة: الرجل المجنون يعيد إنتاج الرجل المريض.
لم يكن حكم الإعدام الذي نفذه أتاتورك في العام 1923 بحق السلطنة العثمانية مبرماً، كما ساد الظن لأكثر من تسعة عقود ماضية، حيث بدا أن «عث السلطنة» كان كامناً متخفياً يعيش تحت جلد الجمهورية العلمانية ويتغلغل في شرايينها، إلى أن بدأت براقعه تظهر بلباس حزب الرفاه ابتداءً من العام 1983 والذي غيّر جلبابه في العام 1998 ليصبح حزب الفضيلة، والذي ابتداءً من العام 2001 سيرتدي سراويل حزب العدالة والتنمية وراء السلطان رجب طيب أردوغان.
على أن الإقامة في قصر أسطوري، كما يفعل أردوغان، قد تنتج سلطاناً ولكنها لا تنتج سلطنة أبداً، كما أنّ ارتداء ربطة عنق واعتمار قبعة لا يدلان على استمرار الجمهورية الأتاتوركية. ما هو واضح وجليّ تماماً أن الرجل المريض يسير باتباعه باتجاه القضاء على الجمهورية، ربما قبل حلول مئويتها، لكن دون التمكن من تحويل «عث السلطنة» إلى عثمانية متجددة... أبداً.
* كاتب سوري