لم يسبق أن كان لبنان فاعلاً ومؤثراً من خلال قوته الذاتية في محيطه الإقليمي خصوصاً. فقد كان كياناً مركّباً، متكوّناً من كتل اجتماعية طائفية ومذهبية كجوهر من تركيبته، وكشرط للوظيفة التي أنشئ من أجلها، أي أن يكون وسيطاً بين الغرب والشرق العربي، لكنه لم يكن بريئاً من الفعل والتأثير في الكثير من تطورات المنطقة، وخصوصاً أنه استُخدم منصّة لاستهداف الدول العربية، فوظّفت قواه وتجمعاته في مشاريع الخارج، وتجمعت على ساحته الأجهزة الاستخبارية العالمية، وعرفت بيروت في ما عُرفت به، وبسبب ذلك بهونغ كونغ الشرق. انضوى لبنان في حلف بغداد، وحيكت على أرضه الانقلابات العسكرية في دول الجوار، وخططت الاغتيالات والاضطرابات للعالم العربي. برزت حركة جمال عبد الناصر ودعوته العروبية، فامتدت الدعوة على الساحة اللبنانية كالنار في الهشيم. انطلقت الثورة الفلسطينية، فكان لبنان أولى الساحات المتجاوبة لترددات الثورة. انتصرت الثورة الإيرانية، فكان صداها القوي في لبنان، لكن الطروحات اللبنانية لم تكن لتكوّن تياراً عربياً في مختلف طروحاته، لا كلبنان الواحد المستقل، ولا لبنان الديموقراطي، لا 10452 بشير الجميل، ولا البرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية اللبنانية، ولا ثورة الأرز، التي لم تغادر ساحة الشهداء ولفترة قصيرة من الزمن، ولا حتى مقاومة حزب الله، التي لقيت التشجيع والتأييد في الساحات العربية، لكنها لم تكوّن تياراً مقاوماً له ارتداداته المماثلة على الساحات العربية المختلفة. مضت حركة تونس ضد الرئاسة المحلية، والحراك المصري ضد حسني مبارك، ولم يبرز أي تيار مقاوم كتيار المقاومة اللبنانية، في مرحلتيها الوطنية والإسلامية.
اليوم، تستمر الأحداث في سوريا. حاول بعض اللبنانيين أداء دور مؤثر في الأحداث، لكنه لم يكن فاعلاً لدرجة يتمكّن فيها من قلب موازين القوى، وكل ما استخدم فيه هو محاولات تهريب لأسلحة وأعداد من العناصر أثّرت قليلاً، لكن دون أن تقلب موازين القوى. غير أنه على المقلب الآخر، كان الأمر مغايراً. فقد انعكست الأزمة السورية على لبنان مزيداً من التعقيدات في شؤونه العامة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، وكان التأثير موضوعياً دون سعي حثيث لأحد في سوريا لإحداث أي مؤثرات تفعل فعلها في الوقائع والتعقيدات القائمة.
في ظل الظروف السورية المضطربة، والتلقّف اللبناني للتأثير السوري الموضوعي عليه، هناك أمران يجريان بطريقة متوازية: حلّ الأزمة السورية بالطريقة الدبلوماسية والانتخابات النيابية اللبنانية. هنا تخبّط وتعثّر، وهناك تخبّط وتعثّر متوازٍ، ولم يعد أحد ينفي التأثير، ولا القول إن التعقيدات السورية لا علاقة لها بالمحاولات الجارية لوضع مشروع انتخابي نيابي. لا بل إن التوجه الأغلب يميل نحو تأجيل الانتخابات بذرائع مختلفة، وقد أطلق الشعار الذي بات لكل ناطق الإمكان أن يتفوّه به: تأجيل الانتخابات لأسباب تقنية.
لا شك أنّ الأسباب ليست تقنية بل سياسية بامتياز. على السلطات اللبنانية أن تدعو الناخبين للاقتراع معلنة المشروع الانتخابي الذي يفترض أن تجري على أساسه قبل ثلاثة أشهر، أي أواسط آذار المقبل، شهراً واحداً من تاريخه كحد أقصى. شهور مرّت ولم تتمكن الأطراف اللبنانية المعنية من تحديد قانون معيّن لإجراء الانتخابات، والسبب أن كل طرف يحاول شد الحبل لمصلحته، والتوصل إلى مشروع انتخابي يتلاءم مع هدفه المركزي، أي السيطرة على السلطة التشريعية، وبالتالي على السلطة السياسية بإيصال أكبر عدد ممكن من مرشحيه إلى البرلمان. ذلك أن الأكثرية البرلمانية الحالية _ قوى الرابع عشر من آذار _ التي هي خارج الحكم، لا تريد التسليم للسلطة القائمة بمشروع انتخابي يحوّلها إلى أقلية، وهي لا تزال تستطيع المعاندة والرفض والتصدي لأنها لم تفقد قوتها بالدعم الخارجي متمثلاً في استمرارية موقف المعارضة السورية، الذي لا يزال في الحد الأدنى يقاوم، وإنْ كان لم يستطع تغيير السلطة حتى تاريخه. بمعنى آخر، إن توازن القوى على الساحة السورية يميل لمصلحة النظام، على ما تجمع عليه مختلف الأطراف، لكنه لا يعطي النظام الثقل الحاسم في المعركة، ولذلك يمكن ملاحظة التفاعل بين قوى المعارضة السورية وقوى المعارضة اللبنانية. فوضع المعارضة السورية يقوّي موقف المعارضة اللبنانية حيث لم يصل النظام السوري إلى مرحلة التأثير الحاسمة على الساحة اللبنانية على غرار ما ساد قبل أحداث سوريا بدءاً من آذار 2011. وهي _ المعارضة اللبنانية _ لا تزال تستطيع ممانعة أي تعديل في الواقع فيما لو وجدت فيه مساراً مغايراً لمصلحتها، وبالتالي تستطيع ممانعة أي مشروع انتخابي يستهدفها كأكثرية، ويريد تحويلها إلى أقلية.
وعلى صعيد الأطراف الأخرى، فالنظام السوري لا يزال يهاجم بقوة، مستخدماً ذراعه العسكرية الضاربة والمتماسكة (الجيش)، لكنه لم يصل إلى وضع حاسم في المعركة بحيث يستطيع التحدث عن الانتصار ويفرض مواقف تعنيه للمرحلة المقبلة، ومنها النظام الانتخابي النيابي اللبناني. كذلك فإن قوى السلطة اللبنانية الموالية للنظام السوري تستطيع الضغط بمشروع انتخابي، لكن توازن القوى السوري لا يعطيها القدرة على اتخاذ موقف حاسم في الانتخابات، يتيح لها فرض مشروع انتخابي يحولها إلى أكثرية نيابية تتمكن من خلالها من السيطرة التامة على السلطة، وخصوصاً أنها لم تمتلك الأكثرية النيابية.
معادلة ترابط الوضع اللبناني بالوضع السوري توصّلاً إلى مشروع انتخابي، تستدعي خططاً ومساعي لا تبدو قريبة المنال. فالمطلوب لحسم النزاع اللبناني على مشروع انتخابي هو إمّا انتصار المعارضة السورية، وبالتالي تمكين حلفائها اللبنانيين _ قوى 14 آذار _ من فرض مشروعهم الذي يحافظون به على سيطرتهم على البرلمان، أو انتصار النظام السوري، وبالتالي تمكين حلفائه من قوى الثامن من آذار من فرض مشروع انتخابي يعطيهم الأكثرية البرلمانية.
وقد لا يستقر الوضع السوري، على ما هو مرجّح، على انتصار طرف على آخر على نحو كاسح، مما يعقّد الأمور السورية، ويفرض ضرورات لحل يشارك فيه معارضون سوريون بحسب ما ترغب فيه العديد من الدول المعنية بالصراع. لذلك بدأت التسريبات من هنا أو هناك عن تأجيل الانتخابات النيابية اللبنانية حتى أواخر الصيف المقبل، ربما في حينه تكون الاتصالات القائمة إقليمياً ودولياً قد بدأت تؤتي ثمارها في تدوير الزوايا في الصراع السوري، وخصوصاً بعد توصّل مختلف الأطراف الدولية والإقليمية إلى قناعة بأن الحلّ السوري هو حل سياسي دبلوماسي، وهذا ما صرح به وزير الخارجية الأميركي الجديد جون كيري، والرئيس المصري محمد مرسي، متراجعاً بذلك عن دعوته السابقة إلى إسقاط الأسد، كما يعبّر موقف رئيس التجمع السوري المعارض في الخارج معاذ الخطيب بقبوله التفاوض مع النظام عن دخول الوضع السوري مرحلة التفاوض من أجل الوصول إلى تسوية.
لم يعد خافياً أن الأزمة السورية وُضعت على سكة الحل السياسي الذي لا يزال يحتاج إلى الكثير من المساعي والاتصالات توصلاً إلى تسوية، لكن هذه المساعي لا تزال تحتاج إلى الكثير بغية إنضاج الحل، ومن المؤكد أنّ هذه المساعي لن تستطيع بلوغ مرحلة إنضاج التسوية من الآن حتى منتصف آذار المقبل، الموعد النهائي لتحديد موقف من السلطة اللبنانية للدعوة إلى الانتخابات، وبناءً عليه يصبح مشروع تأجيل الانتخابات هو الاحتمال الأرجح.
أما تحديد نهاية الصيف موعداً للانتخابات، فهو مقرون أيضاً بالتوصل إلى إنضاج تسوية سورية سياسية، وهذا أمر وارد في الفترة المقبلة، لأن ستة أشهر قد تكون كافية لإنضاج التسوية، بعدما باتت أكثرية الأطراف مقتنعة بها.
وربما استمرت الأزمة، وشهدت تصعيداً جديداً غير معلن، مما يبقي التخبّط سيد الموقف على الساحة السورية، إذا لم يتمكن السُعاة من التوصل إلى تسوية، وبالتالي سيظل التخبّط هو العلامة البارزة للمشروع الانتخابي اللبناني الجديد، إنْ للصيغة التي ستُعتمَد للمشروع، أم لموعد إجراء دورة الاقتراع.
* كاتب لبناني