في مرحلة لاحقة، ومع انطلاقة حركتنا الاستقلاليَّة، ألم يرفض الجنرال ميشال عون مشروع الدكتور سمير جعجع الفدرالي عام 1989؟ المشروع الذي هيأ له الحكيم بمحاضرة في دير القمر (منشورة في كتاب بول عنداري)، «مدينة الحصار»، آنذاك، ثم في الجامعة اليسوعيَّة، جامعة الأب سليم عبو، في حينه، ونظريته في «ازدواجيَّة اللغة» والانتماء، حين أطلق قائد «القوات» نظريَّته «من كفرشيما للمدفون»، ليتوِّج مشروعه في مهرجان سمّي، آنذاك، «يوم المقاومة»!؟
ومشروع الجنرال عون الوطني، في المرحلة الانتقاليَّة، أواخر الثمانينيات، ألم يقم على استرداد الدولة المركزيَّة وإخراج السوريين من لبنان!؟ وقد كلّفنا هذا الصمود البطولي في وجه «جيش الوصاية»، من جهة، ومشاريع التفتيت و«الفدرلة»، من جهة أخرى، التضحيات الجسام... فكانت واقعة 13 تشرين 1990، وكان شهداء الواجب الأبرار... ثمّ كان القهر والظلم والتشرّد والإبعاد، إلى أن كانت العودة عام 2005، عندما شرعنا معاً في تحقيق مشروع الدولة، بعد تحقّق السيادة والحرية والاستقلال، إثر خروج القوات السوريَّة من لبنان.
باختصار، «خلوات الجبهة اللبنانيَّة» في سيدة البير وتوصياتها بدَّلتها الظروف والأحكام، حتى إن المغفور له الأباتي شربل قسيس تراجع عن مشروع البدايات قبل أن يرحل، على ما روى لي شاهد كبير على تلك الاجتماعات. والأباتي بولس نعمان، بدوره، ما عاد يركّز، وهو محق، إلا على الحفاظ على «الأرض والتربية». وهذا، على ما باح لي مرّات عدّة: «ما يضمن بقاءنا، نحن الموارنة، بل المسيحيّين، في لبنان والمشرق، وما يضمن استمراريَّتنا (...) وهذا ما أريدك، يا ناصيف، أن تعمل عليه إلى جانب الجنرال».
وتربيتنا هذه التي يتحدث عنها الأباتي نعمان، ألا يشاطرنا إياها المسلمون أنفسهم؟ هل يعلم أحدكم كم هو عدد المدارس الكاثوليكيَّة - والإنجيليَّة - في المناطق الإسلاميَّة؟ وماذا عن الجامعات؟ فهل يدرك جهابذة إعداد المشاريع، وبالتالي رسم مستقبل لبنان، كم هي المشتركات بين أبنائه، على تنّوع مذاهبهم... وما يمكن أن تتركه تلك المشاريع من سلبيَّات؟
أنا متأكد أن العديد من أركان «القوات اللبنانيَّة» أنفسهم والأحزاب المسيحيَّة الأخرى، باتوا هم أيضاً على يقين، اليوم، بأن الخيارات المثلى للمسيحيّين في هذا المشرق، وخاصة في لبنان، لا بد أن تُرسم:
أولاً، بوحي من التجربة المعيشة، ولا سيما تلك التي يعرفها جيداً مسيحيو المناطق اللبنانيَّة، أو ما يعرف بالأطراف. وهؤلاء هم المعنيون قبل غيرهم من المسيحيّين بكافة مشاريع الحلول، ومنها القانون الانتخابي العادل الذي يؤمن صحة التمثيل.
ثانياً، بوحي مما تركه لنا رجالات كبار، بل رواد مؤسسون، أغنوا تراثنا الوطني بتجربتهم وثراء مداركم ومعارفهم ورؤاهم.
ثالثاً، بوحي من المجامع الكنسيَّة والرسائل البابويَّة العديدة، التي توَّجها أخيراً «الإرشاد الرسولي من أجل الشرق الأوسط ... شركة وشهادة». والشركة المنشودة، على ما جاء في النص، هي مع الآخر المختلف بقدر ما هي مع القريب.
ألا يمثّل هذا الأمر عمق تفكيرنا في «التيّار الوطني الحرّ»؟
أمَّا عن دُعاة «الفدراليَّة» في لبنان «الأكبر من أن يُبْلع والأصغر من أن يقسَّم»، في قاموسنا. فأنا أدعوهم إلى التجوال في المناطق اللبنانيَّة ومعاينة الناس، والوقوف على رأيهم قبل الشروع في التنظير العقيم حول مستقبلهم، من شرفة ضيِّقة في بكفيا، أو من «بلكون» جميل في دوما، آفاقه جبالٌ تحجب عن ناظرينا أشعَّة الشمس، بضع ساعات قبل المغيب.
إن ما يعيشه اللبنانيّون فيما بينهم، بعيداً عن الانقسامات السياسيَّة الطبيعيَّة، يفصح عن وحدة مجتمعيَّة دلالاتها في الذوق الجمالي والشعر والأدب الشعبي والعادات والتقاليد الاجتماعيَّة... وما إليها.
فلنُقلع عن بناء مواقفنا من الآخرين استناداً إلى تصريح متطفِّل من هنا أو منافق من هناك... من أناس مكلَّفين مهمات دنيئة لا علاقة لها بواقع مجتمعنا وحقيقة شعبنا. ما أقوله هنا ليس طوباوياً، فأنا من أكثر العارفين والمطلعين... كيف لا، وقد عشت التجربة، تجربة الآخر، ولا أزال، في السرّاء والضراء، منذ نعومة أظافري.
وها هي تجربة «وثيقة التفاهم» بين «التيّار الوطني الحرّ» و«حزب الله»، في رمزيَّتها ومضامينها وأبعادها، ماثلة للعيان!؟
وبناءً عليه، فليعذرني الأصدقاء، الذين يخيَّل لبعضهم أنه زمان ميشال شيحا أو يوسف السودا، أو غيرهما من الرعيل المؤسس لهذا اللبنان؛ فليعذرني هؤلاء، إذا كنت أرى، أنا ابن المعاناة الباكية على امتداد الوطن، والشوفيُّ المحروم، كما الآلاف، من حقّه بالتساوي مع الآخرين في عدالة التمثيل، أن الإصرار على ما يسمى «مشروع قانون اللقاء الأرثوذكسي»، الذي يقوم على أساس أن ينتخب كلّ مذهب نوابه، أي على المشروع الذي قلت عنه في حينه [في 17 كانون الأول عام 2011]: إنه «يسقِط معنى لبنان الرسالة، أولاً، وفكرة المواطنة، ثانياً، كما ويكرّس تعدُّد الولاءات التي تزول معها «الشخصيَّة اللبنانيَّة»، التي عمل على تظهيرها موارنة كبار، بل مسيحيّون رواد، وعلى مدى قرون (...). إن هذا المشروع يحقّق ما لم تستطع الحروب المتتالية على لبنان تحقيقه: تعدّديَّة مجتمعيَّة على طريق تجزئة الكيان السياسي (...) ويطرح، بالتالي، شكلاً من أشكال الفدراليَّة المجتمعيَّة التي قد تبلغ في نهاية المطاف الفدراليَّة الجغرافيَّة (...) ومن يمنع، بعد ذلك، بروز الكيانات الطائفيَّة التي قد تُصطنع لها أحداث، لتكريسها كيانات عنصريَّة تبرِّر وجود الكيان الصهيوني»!؟ إن الإصرار على هذا المشروع، مهما تكن الموجبات، يغبِّش صورة «التيّار الوطني الحرّ» في بعده الوطني. هو الذي أدرك في السنوات السبع الأخيرة المستوى الذي لا يمكنه أن يتراجع عنه، لجهة بروزه كحالة تغيير وإصلاح حقيقية، بلغ بها المطاف حدَّ المناداة بإلغاء الطائفيَّة وإقامة دولة مدنيَّة. فلا يمكنني أن أتصور تيّارنا الوطني يستحيل، في لحظة ما، حالة نمطيَّة كباقي المكوِّنات السياسيَّة التي نشأت تباعاً، ومنذ ما قبل الاستقلال، على أساس طائفيّ أو مذهبيّ أو عائلي. فضلاً عن أنه متفوق على باقي القوى اللبنانيَّة، ولا سيما المسيحيَّة منها، لجهة انخراطه الجدّي والصادق، في الدفاع عن المقاومة الوطنيَّة وقضيَّة فلسطين والعروبة الحضاريَّة، وكذلك عن التجذُّر المشرقي.
في الواقع، إن قانون الانتخاب «ﻟِ - عَ - أساس - مذهبي»، إضافة إلى كونه يُسقط المعنى الذي للبنان، فهو لا يخدم إعادة تجذُّرنا في الجبل، كما لا يُدخل الاطمئنان إلى النفوس ليثبِّت المسيحيّين في كلّ أنحاء الوطن، إضافة إلى كونه لا يحقِّق طموحات أجيال ناشئة، أرهقها إقطاع متعدِّد الرؤوس، وطائفيَّة تتجذَّر كما تفشّي المرض العُضال في الجسم... أجيالٌ عوَّلت علينا الكثير في هذا المجال.
أما الأخطر في هذا القانون، وفي غيره من مواقف سياسيَّة، بدت ملتبسة في المرحلة الأخيرة، لجهة تعارضها، بل تناقضها، مع المبادئ والمنطلقات والتفاهمات التي قام ويقوم عليها التيّار، وتكوكب حولها آلاف اللبنانيّين، المقيمين والمغتربين – وقد كنت ولا أزال، إلى جانب العماد عون، ركناً أساسياً في بلورة وتفعيل تلك التفاهمات، وبالتالي، بناء العلاقات السياسيَّة مع قوى وأحزاب لبنانيّة وفلسطينيَّة؛ الأخطر في هذا القانون، أنه أقعدني عن مزاولة مهماتي السياسيَّة، لجهة التلاقي مع الآخرين من أبناء الوطن، أفراداً وقوى وجماعات. أنا المفكر الشارح لمعالم الفكر اللبناني التأسيسي في صفوف التيّار الوطني الحرّ، والصوت الصادح دفاعاً عن لبنان الكيان السياسي، والأكاديمي المدافع عن الإنسان وحقوق الإنسان، والوجدان الصادق في ملامسة كافة القضايا التي تعصف بعالمنا. أنا الذي قال عني الجنرال عون، في تقديمه لكتابي عظة الإثنين/ مقالة في السياسة: «فيلسوفٌ إصلاحي، مفكرٌ سياسيٌ استشرافيّ، حباه الله رؤية خارقة للحواجز والتقاليد والجبن الفكري، مؤمنٌ بربّه ووطنه والإنسان، وبقناعته بقدرة الكلمة على التحوّل فعلاً، والحقيقة سيفاً، والإصلاح والتغيير واقعاً»؛ أقعدني، أنا «الحريص» الذي ائتمنني قائد مسيرتنا، منذ عام 2004، على نسج علاقات التفاهم والحوار البنّاء والشراكة الفعلية مع الآخرين؛ وذلك خلافاً لما يُفترض بي أن أكونه في هذه المرحلة النضاليَّة من تاريخنا، لجهة تزخيم مسيرتنا الوطنيَّة ودفعها صعداً... لأخْلُد إلى إنسانيَّتي في كونيَّتها، ومسيحيَّتي في بهائِها ومجانيَّتها وغيريَّتها، وإلى لبنانيَّتي في صفائها الأول، دون أن أغفِل مشرقيَّتي في تألّقها وعروبتي الحضاريَّة في جَمْعِها... غير آبهٍ بأي مصلحةٍ آنيَّةٍ أو منفعةٍ ذاتيَّة، مهما كانت. أنا القائل قبل أربع سنوات، ومن شاطئ جبيل، في احتفال سياسي للتيّار، إن «التيّار الوطني الحرّ هو سفينة اسمها لبنان».
إن خوفي على السفينة ولبنان كبير وكبير جداً، بعدما علقنا، كجماعة سياسيَّة مجدِّدة ومتقدِّمة في طروحاتها وأدائها، في شِباك السلطة، قبل أن «نتطيَّف» ـــ أو ما شُبِّه لي أننا لامسناه ـــ بقصد أو بغير قصد، مدَّعين لأنفسنا أكثر مما فينا، وأحياناً دون وجه حق.
ما يهمني، من كل ذلك هو أن يبقى لبنان «وطن الرسالة» التي نتشبَّث بها. وكي نكون دائماً، على ما قلت يوماً شارحاً رمزيَّة ما جرى في بلدة براد السوريَّة، حيث ضريح مار مارون، أصل رسالتنا، نحن الموارنة، في هذا المشرق؛ كي نكون «اليد التي عادت من تغرّب دون احتساب، لتعانق تلك التي حافظت على الأيقونة والمكان». فهذه أمانة بأعناقنا، تختصر هماً وجودياً كبيراً، بل كيانياً، حمله آباء مؤسسون، وكدنا أن نحقِّقه مع الجنرال ميشال عون في استعادة الوصال مع مشرقيَّة تعيد إلينا بُعدنا الحقيقي في هذا العالم العربي والإسلامي، الذي نخشى أن يضيِّع بوصلته.
وما اللحظات التاريخيَّة التي شهدناها، في التاسع والعاشر من شباط الجاري، في كنائس دمشق الجريحة، مهد الكنيسة الأولى التي منها انطلق بولس، رسول الأمم، إلى العالم عبر لبنان، إلا من هذا القبيل. فقد التقى بطاركة انطاكيا وسائر المشرق مع رعاياهم في مناسبتين كريمتين ـــ عيد مار مارون وتنصيب البطريرك يوحنا اليازجي ـــ لرفع راية المحبة والتسامح ونبذ العنف، في وقفة مسكونيَّة مدوية، مستعيدين بذلك زمن الآباء الكبار، من سمعان العامودي وطريقته، ومارون الناسك ويده الشافية، إلى يوحنا فم الذهب ولاهوته وحكمته.
أقول ذلك عن قناعة لا يعتريها شك، رغبة مني في تصحيح المسار، ولم يفت الأوان بعد.
إن ثقتي بالجنرال ميشال عون نفسه كبيرة، وكبيرة جداً. فهو ليس الصورة النمطيَّة التي ظنّ البعض أنه سقط بها. أوَ ليس هو القائل، لحظة عودته إلى لبنان في 7 أيار 2005: «... إن كنت طائفياً فانبذوني»!؟
وفي هذا السياق، يؤلمني السجال العبثي المستمر بين الأفرقاء اللبنانيّين، ولا سيما المسيحيّين منهم، وبخاصة بين «القوات اللبنانيَّة» و«التيار»، دون أي أمل في الوصول إلى سلام حقيقي يبدِّد ما عشناه من مآس وويلات خلال العقود الأربعة الأخيرة، ليرى البعض من عامة المسيحيّين في لبنان، وفوق همِّهم الوجودي وقلقهم على المصير، «أننا كنا بمصيبة... فصرنا باثنتين»!؟
يؤلمني هذا السجال العبثي، الذي أخطر ما فيه، أنه بلغ حد ضرب ركائز مجتعنا وقيمه، فضلاً عن تفكيكه لعائلاتنا وتشويهه براءة أبنائنا، وذلك بتحويلهم إلى كائنات غلبت عندها الغريزة على العقل، ولا سيما أننا أمام مفترقات خطرة. ليس أقلها المؤامرة الكبيرة والمركَّبة التي تعصف ببلاد الشام، وتمعن بها تقتيلاً وتشريداً وتدميراً وتفتيتاً.
فمهلاً أيها القادة المسيحيّون في خياراتكم والرهانات. فلا مصلحة لنا، نحن المسيحيّين، في هذا الطلاق، ولو كان شكلياً، ومهما كانت المبرّرات.
لا تخطئوا من جديد في حقّنا، نحن مسيحيّي المعاناة، إذ لم يعد بمقدورنا أن نحتمل التجارب القاسية. وقد جرشتنا الحروب والفتن، والهجرة وبيع الأرض، ليتملَّكنا اليأس. فضلاً عن تشتّت أجيالنا الجديدة في كلِّ مكان... ولا مكان. دعونا نكمل معاً مسيرة إعادة ربط خيوط الصداقة، بل الشراكة، بين اللبنانيّين، كلِّ اللبنانيّين. ومع العرب والمسلمين. لعلنا نبقى... وسنبقى الأنموذج الساطع للعيش معاً في «زمن الردّة» وتبدّد المعايير. زمن، تبدو علاماته كأنها علامات أزمنة.
إن مستقبل لبنان في هذه الرقعة من العالم، مرهون بانفتاحنا ولقائنا مع الآخر في سبيل بلوغ النحن. وهذه بنية المجتمع الجديد، الذي لطالما حلمنا به، كما من قبلنا رعيل كبير من الآباء المؤسسين والرواد النهضويّين.
* أستاذ الفكر العربي الحديث والمعاصر والأخلاقيَّات في الجامعة اللبنانيَّة،
ومن وجوه التيّار الوطني الحرّ.