خطر هذا العنوان ببالي حينما شاهدت فيلما دعائياً، بثته إحدى تنسيقيات المعارضة السورية المسلحة. مرّ المشهد أمامي مخلّفاً سلسلة من المنغـّصات البصرية والشعورية والأسئلة المحيّرة. أبرزها السؤال الذي سبق لي أن تحاورت فيه مع معارض سوري، قبل أكثر من سبع سنوات خلت. تعلق السؤال بموضوع «فقدان آليّات مراقبة الذات». وبتعبير أدق احتكار شرعية الأفعال المطلقة. وبتعبير أكثر دقة وقوع الضمير في نوبة الاسترخاء والعطالة الشعورية.
كانت وجهة نظري، في سؤالي، تستند إلى الحجج التالية: إن الذات تفقد منطقها العقلي حينما تفقد حصانتها الرقابية الداخلية. إن فقدان هذه الحصانة، ربما ينشأ عفوياً، من دون أن يعي أصحابه، حينما يكون الضمير مطمئناً طمأنينة مطلقة إلى أنّ أفعاله لا يعتريها الخطأ أو النقص أو تخضع للمحاسبة، بسبب قدسية موهومة، منحهم إيّاها واهبون أسخياء. أي حينما يكون الفعل والفاعل معصومين من الخطأ، مبرأين تماماً من مشاعر العقاب والثواب والمساءلة. إنّ لسان حال المثقف السوري المعارض يفترض أنّ الأفعال الثورية شرعية ومباحة، بما أن أفعال الآخر، العدو أو الخصم، غير شرعية وغير مباحة. كان رأيي أنّ هذا الضرب من العقل الإباحي، سيوصل سوريا إلى الاستباحة المطلقة، وربما أوصلها إلى ما هو أبعد مما وصل إليه العراق عقب الاحتلال: تدمير مكونات وبنية المجتمع والوطن تدميراً زلزالياً. ولا أحد يجهل أن تدمير نسيج وبنية المجتمع العراقي، وتالياً السوري، خطوات في طريق طويلة ومكلفة للجميع، بمن فيهم راعي عملية التدمير، الذي يرى أنها مهمّة تستحق المجازفة والتضحية. إن عملية إعادة بناء وتوزيع الهويات السياسية للعالم الجديد هدف لا حياد فيه وعنه. وهو هدف أساسي من أهداف الذين شرعوا في إعادة رسم جغرافية المنطقة، باعتبارها مصدر الإمداد الأكبر لمحركات الحضارة الحديثة. وبما أن زخم هجومهم التاريخي لم يتوقف تماماً بعد، فإنهم ماضون فيه باستماتة، رغم إدراكهم أنهم يواجهون معضلات كبيرة. أبرزها الخلط بين المكون التاريخي وأشكال توزيعه في ظروف اختلال توازنه، والخلط بين البيئة الوجودية التاريخية للكيانات الاجتماعية والحدود الشكلية الموروثة، المصنوعة طبقاً للخرائط الجغرافية والقومية والطائفية، التي صمّمها سياسيو حقبة حربية سابقة، لكن المكونات ذاتها، كواقع وجودي ثقافي، مهما جرى التلاعب في حساباتها العددية وتناقل أجزائها، تظل جسماً تفاعلياً صنعته تواريخ أمم ولدت وترعرعت وكبرت على أرض حضارية واجتماعية واحدة. فقد يحلو للبعض اللعب بالأرقام والأحجام بيسر، لكنهم لا يستطيعون ابتكار ملامح وتضاريس منتقاة للهويات المؤسسة تاريخياً، كما يشاؤون، من دون أن يقوموا بتدمير محتواها النوعي، ومحو خصائص تفرداتها، أي تمزيق نسيجها الروحي.
لم يكن الجدل الذي أثرته يحمل طابعاً سياسياً. آنذاك لم تكن الثورات العربية وربيعها حاضرين في المنظور الممكن والقريب، ولم يكونا يداعبان خيال أحد. كان النقاش فنياً خالصاً، يخصّ مسلسلاً تلفزيونياً عربياً، حاز شهرة واسعة، وآثر بعضهم أن يعارضه فنياً. توصلت في ردّي إلى فكرة تقول إنّ العقل يتخلى عن ثوابته حينما يغرق في خدر الشرعية المطلقة، الصحيحة أو الموهومة أو المختلقة. وهذا الاستغراق أو الغرق مرض شائع، يميّز ويسيّر التفكير الشمولي كله، بكل أشكاله وتنويعاته. وهو ملمح أساسي مكوّن لبنية التفكير التكفيري خاصة. لذلك وجدت أن المعارض الحر، الديمقراطي، يتساوى في هذا الموضع، ويتماهى تماهياً مطلقاً، مع أعتى وأشنع وأغبى السلفيين التكفيريين، عند الاعتقاد بوجود حصانات مطلقة، عاصمة من الزلل. لأنهما ـــ المتحرر والتكفيري ـــ يستندان هنا إلى فرضيات الحق الزائفة ذاتها، التي تفصل الوعي عن واقعه، من طريق منح العقل والمنطق والضمير إجازة إجبارية طويلة الأمد.
لم يكن النقد ايديولوجياً أيضاً. كان يتعلق بمسلسل «نزار قباني». وكان سؤالي، الذي حمل عنوان «غرائز مسلحة»، يقول: هل يحق لنا، مهما أوتينا من عبقرية، أن نقوّم عملاً فنياً لم نره، ولم نقم بدراسته؟ أجاب الناقد المعارض مفتخراً بأنه لم يرَ المسلسل أنفة وترفعاً، لأنه يدرك تماماً، بيقين مطلق، أن القائمين على هذا المسلسل لا يستطيعون أن ينتجوا عملاً يستحق الاحترام. لم تكن أسئلتي أو اعتراضاتي منصبة على مضمون النقد، ولا على الجرأة في تلفيق نقد من دون اطلاع ومعرفة، بل كان منصبّاً على المشاعر والأحاسيس وما يرافقها من قيم أخلاقية وعقلية: كيف يجرؤ مثقف على إشهار مثل هذه الأفكار المخيفة من دون إحساس بالمسؤولية الأخلاقية؟ كيف لا يفطن إلى شدة انغماسه في فوضى الأفكار والأوهام؟ ما الرسالة التي نرسلها إلى القارئ، ونحن نكتب نقداً عن عمل لم نرَه، حجتنا الوحيدة أننا غير متصالحين مع المكان الذي أنتج فيه المسلسل؟ ما الصورة التي ترسمها مخيلتنا لأنفسنا ولقرّائنا؟
كانت خلاصة ردي تقول حرفياً: إنّ النقد على الهوية يشبه القتل على الهوية، وإنّ نقداً طيّاراً، مثل هذا، يشبه شبهاً مطلقاً حاجزاً طيّاراً لعصابة تكفيرية أو فرقة إعدام فاشية. كلاهما تكفيريّ في المنظور والأسباب والمبررات والنتائج. لذلك رجوت المعارض السوري أن يتنبه إلى حاله، لأنّ ثورته لم تبدأ بعد. وعليه أن يحسب حساب المستقبل: ماذا سيفعل لو أن ثورته اشتعلت وجرفت بطوفانها الناس؟ وماذا سيفعل لو أنه انتصر؟
تلك هي خلاصة المعركة الجدالية التي خضتها، على حاجز فكريّ طيّار من حواجز الثورة المضمرة، قبل أكثر من سبع سنوات.
ليس من الحصافة إغفال الأثر التربوي والعاطفي والتعبوي لهذا التوجه العقلي القاتل. فقد أثبتت الأحداث في سوريا أن هذا النهج كان عاملاً، من بين مجموعة من العوامل المتحدة، داخلية وخارجية، أسهم في التسريع والتعجيل بانعطاف الحراك المطلبي السوري، ثم تحوله المفاجئ إلى تقاطب مسلح، أحادي الخطاب. لقد بدا واضحاً أن القوى السلفية، بحاضناتها المدربة جيداً والمتوافزة، كانت الأكثر مقدرة على الإفادة من شرعية الفعل المطلق، نظراً إلى تطابقه التام مع فكرها السلفي المتحجر، ونظراً إلى كونه الأداة الأمثل لجرّ الصراع إلى مداه العنفي الأقصى بأسرع وقت وأقصر الطرق. ولهذا السبب أيضاً وجدت قوى المعارضة السلمية نفسها عاجزة ومسروقة تماماً من قبل أنصار الحلّ العسكري والتدخل الأجنبي، ووجد بعض أطراف المعارضة الليبرالية العصرية نفسه محشوراً في غرف القناصين التكفيريين، يسجّل انتصاراتهم ويبثها من ثقب آخر حفره الإعلام التعبوي في جدار القنوات الفضائية الأجنبية، والمؤتمرات، والتشكيلات التحالفية غير المثمرة. لقد حصر هذا التسارعُ الميدانيّ والشعوريّ المثقفَ المعارضَ، في غرفة نوم الثورة بصحبة قناص، بانتظار الحلّ، الذي لن يكون، قطعاً، من نصيب التيارات الديمقراطية السورية وقواها الاجتماعية.
كل ذلك الحراك الخيالي مرّ ببالي دفعة واحدة، وأنا أرى شريطاً تبثه قنوات عربية عديدة، وتعيد تكراره على أنه المآثرة الحربية القومية والإنسانية الفريدة: شاب ملتح، يجلس على كرسي مريح، في غرفة بدت أشبه بغرفة نوم، مجهزة بسرير وثير ومطبخ ــــ ربما هو ملحق، أو «ستوديو» مؤثث ــــ يضع ماسورة بندقيته الطويلة في ثقب لا يتسع إلا لمرور رأس وقصبة الماسورة، ويطلق النار بجذل.
لقد رأيت قبل هذا المشهد قناصين مماثلين يطلقون النار من ثقب قطره عشرة سنتيمترات، وترحّمت على عابري السبيل جميعاً.
على من يطلق هذا الأعمى الرصاص؟
على من تطلق الثورة السورية ويطلق المثقف السوري المعارض الرصاص؟ حينما نستعيد تفاصيل الصورة جيداً، ونعيد تفحّص محتواها، نعثر على حقائق جديدة، توضح بطريقة حسية جوهر الاتحاد المريب بين المثقف المعارض صاحب الحل الأجنبي والتكفيريين السلفيين. لم يكن ذلك التلاقح اتحاداً في النهج العقلي حسب، بل كان تجانساً في الوسائل والطرائق أيضاً. كانت غرفة القناص، أو الشقة الصغيرة، مؤثثة على أحدث طراز: ثلاجة وغسالة وفرن كهربائي وغيرها من اللوازم العصرية، ومجهزة بأحدث أجهزة القنص والقتل والاتصال. لم يكن المقاتل المنتشي زهواً أمام عدسة التصوير مريضاً أو مجنوناً، وهو يطلق النار، بشهية عارمة، من ثقب في جدار الواقع. كان مشدوداً إلى الصوت الذي يأتيه من جهاز الارسال المربوط بأذنيه. لم يكن القناص مقاتلاً، كان إنساناً آليّاً، في هيئة محارب، لكنه إنسان آلي من لحم ودم. كان هذا القناص الأعمى عيّنة نموذجية من مخلوقات الثورة المبرمجة.
أستحلفكم بالله أيها الثوار، هل رأيتم ثورة، من قبل، تطلق النار على الحياة من ثقب ضيق، لا يتسع إلا لرأس ماسورة قناص؟
وإذا كنتم قد رأيتم مثلي هذا القناص وماسورته الشرعية، فهل لكم أن تخبروني من اخترع لهذا القناص هوايته الوحشية المرعبة هذه؟ ومن وجّهه وجهزه وصوره؟ ومن بثّ صوره وتناقلها، ومن علق على شريط البث، ومن تحاور في معجزته الثورية، وحقوقه المطلقة في القنص الحلال؟ هل لكم أن تخبروا شعبكم أي دور سيشغل هذا «الروبوت» الجهنمي بعد انتصار الثورة؟
هذا سؤال لا يشغل بال الثورة والثوار، لأنهم معصومون، أخذوا شرعية الأفعال من شرائع مجهولة الضمير، لكنه سؤال ربما يشغل بال المواطن أكثر حتى من انشغاله بالسؤال المتعلق بإسقاط النظام. السؤال الذي صنع المعارضون المسلحون لأنفسهم به ومن خلاله، حصانة افتراضية، تخديرية، مطلقة، يبيّتون بها قواعد وثوابت المنطق، لكي تحميهم من عواقب يقظة العقل. القناص الأعمى انقلاب فني قهري في وعي الحراك الاجتماعي، يسخّم رومانسية الثورات، ويبطل شرعية قوانينها المكتشفة، وغير المكتشفة أيضاً. لكنه قانون شرطي، على أية حال. قانون إرغامي، منصوص عليه في جدول توقيتات الثورة المبرمجة.
* كاتب عراقي