كثيرة هي المشاريع التي تتسرّب من دوائر السلطات الأميركية المتعاقبة، ومن مراكز الأبحاث الصادرة عنها، ومن مسؤولين ومستشارين كثر، ومن البنتاغون والكونغرس. وفي تعاقب الإدارات تتباين التوجهات التفصيلية، وتلتقي التوجهات العامة، العدوانية الطابع والميالة تاريخياً إلى السيطرة والاستتباع. وضعت الخرائط العديدة لإعادة تقسيم العالم، ومنها على الأخص عالمنا العربي، والأكثر تخصيصاً مشرقه، وكثرت الخرائط التي لم تُبق على شيء من الكيانات والأقطار، التي رسمت عقب الحرب العالمية الأولى. قيل الكثير عن توجهات أميركية جديدة، مثل استراتيجية التراجع إلى الداخل الأميركي، أو التركيز على آسيا الوسطى في المرحلة التي سبقت حرب أفغانستان، ثمّ على الشرق الأدنى العربي عندما جرى الحديث عن استراتيجية الفوضى البناءة. واليوم، في عصر أوباما الجديد، يجري التداول بتركيز الإدارة الأميركية الجديدة على الشرقين الأوسط والأقصى، واستهداف الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لكلّ من الدول المناهضة لها مناهضة باردة كالصين، أو متوسطة الحماوة كإيران، أو معادية لها ككوريا
الشمالية.
وفي ظلّ هذه المعطيات، تطرح تساؤلات كثيرة عن استمرار قدرة الغرب على الهجوم في ظلّ الانتكاسات الاستراتيجية التي تعرض لها في حروبه المدمرة في أفغانستان والعراق، ومع تفاقم الأزمة المالية التي تعصف بالنظام الغربي الليبرالي. وتترامى أنباء عن استعدادات في كواليس العجوزين المتصاببين، انكلترا وفرنسا، لعمل عسكري ـــــ بالطبع بدعم «أطلسي» ـــــ يستهدف سوريا، وصولاً إلى إيران ومنها إلى الصين.
يوحي الكلام أنّ البلدين المذكورين يتصرفان كأنهما في بداية القرن العشرين، أيّ في ذروة قدرتهما الاستعمارية، ويتهيآن للتمدّد الاستعماري، والسيطرة على ما تيسّر من بلدان العالم. كأنهما نسيا أن الحربين العالميتين الاولى والثانية انهكتهما، بالإضافة إلى مقاومتهما في العديد من الميادين العالمية، ونسيا أنهما أوكلا إلى الولايات المتحدة المهمة التي بدآ بها، لكنها لم تنته. كما نسيا أنهما شاركا في الحروب التي خاضت الولايات المتحدة غمارها، لكن بخفر، وبمشاركة رمزية، وكانت قواتهما الموجودة رمزياً في ساحات الحروب الأميركية، في وضع المتحفظ عن الانخراط في المعارك بعمق، خشية خسارة الجنود التي لا تتحملها مجتمعاتهما.
كان يمكن البلدين المذكورين، والولايات المتحدة، التفكير في غزو العالم، ومحاولات السيطرة على ما تيسّر من بلدان وأراض بعد عام 1992، سنة السقوط المدوي للاتحاد السوفياتي، الذي بنى التوازن الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في ما عرف بالحرب الباردة، التي خرجت من وقف الحرب العالمية الثانية، لكن بين سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية غزو العراق، مرّ عقد ونصف عقد من الزمن تمكّنت فيه الولايات المتحدة وحلفها الغربي من استباحة العالم، حيث لم يكن هناك قوة بضخامة التحالف الغربي تمكّن من لجم نزعاته التوسعية على حساب شعوب
العالم.
وضعت الولايات المتحدة استراتيجية الفوضى البناءة، وعلى قاعدتها بدأت بحرب العراق الأولى، ثمّ الثانية، وبينهما أشعلت الولايات المتحدة الحرب على ما سمته الارهاب عقب تفجيرات 11 أيلول. لم يقف أحد في وجه نزعاتها للسيطرة، والتوسع تحت حجة ضرب الارهاب، لا بل وقفت مختلف الدول معها، بين مؤيد وخائف، ورفعت شعاراتها ضد الارهاب، وبدا أنّ العالم كتلة واحدة متراصة في وجه عدو واحد. وفي العراق، وأفغانستان، ووجه التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة بمقاومة دفعته إلى إعادة النظر في وضعيته الاستراتيجية، ووضعت حداً لطموحاته في السيطرة والتوسع، وراح التحالف يبحث عن آليات تحرّك مغايرة بعيداً عن التدخل العسكري المباشر تلافياً لمزيد من
الخسائر.
وفي هذه الأثناء، بدأت التحركات في العالم العربي، وبغضّ النظر عن أسباب وآليات تفجر الأوضاع في الساحات العربية المختلفة، ووجهات النظر المتباينة إزاءها، إلا أنها مثلت خلفية جديدة للصراع، وقدمت اشكالاً مغايرة عن السابق، وفاجأت العالم بنتائجها، وراحت دول العالم تفسر ما يجري كل من منطلقها. سقط بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر بآليات تونسية ومصرية محلية، ولم يكن من داع إلى التدخل الخارجي، فلم تنتبه كبرى الأمم إلى ما يجري، وما يتضمن من مخاض. وعندما وصل الصراع إلى ليبيا، واضطرت الدول الغربية إلى التدخل المباشر، أدرك العالم، ولو متأخراً، مخاطر ما تبيّته السياسات الغربية بقيادة الولايات المتحدة. فات الأوان في الوضع الليبي، ولم تستطع القوى العالمية التي بدأت تدرك مخاطر ما جرى في ليبيا، أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. أدركت الدول الكبرى، وخصوصاً روسيا والصين، أنّ سكوتها عن تدخل حلف «الناتو» مباشرة في ليبيا كان خطأ مميتاً في الشمال الأفريقي، لكنه كان إنذاراً مبكراً لما يكنّه الغرب للشرق.
في أعقاب حرب ليبيا، بدأ الكلام عن استهداف الشرق من قبل التحالف الغربي، وبدأ الحديث عن خطط لضرب سوريا، وصولاً إلى إيران، ومنها إلى الصين وروسيا، لكن دول تدخل خارجي، بل بتحركات شعبية، سيظهر التاريخ لاحقاً إن كانت مسبقة الإعداد، أم عفوية متأثرة بما في جرى في أمكنة أخرى من الدول العربية.
تنطلق الشرارة في درعا لتضع سوريا على السكة الليبية، لكن الدرس الليبي كان كبيراًَ، وكافياً لأن تدرك الدول الشرقية أن ما قيل من مخططات تسربت من مراكز الأبحاث ودوائر السلطات الأميركية بدأت تتسرب إليها عبر البوابة السورية، ولذلك لم يكن من خيار أمام روسيا والصين وإيران، والدول الدائرة في محيطها، إلا أن تقف في وجه الهجمة التي كانت آيلة إلى تفجّر الأوضاع توصلاً إلى تفكيك الدول المستهدفة بمشاريع ومخططات أميركية، فدعمت هذه الدول الحكم السوري، ووضعت الفيتوات على إمكانية أيّ تدخل خارجي، أو اتخاذ أيّ قرار أممي يمكن أن يمثل مقدمة للتدخل الخارجي.
يعود أوباما إلى السلطة، وتنكفئ الولايات المتحدة عن التدخل المباشر في الساحات العالمية، وتوكل الأمر إلى دول مرحلة الاستعمار المباشر، فرنسا وانكلترا، عسى أن تحققا شيئاً. ومن الطبيعي أن يدرك العالم أن المحاولات الفرنسية والانكليزية لا تخيف، ولا تقلق أحداً. فهما فقدتا «عزّهما» منذ النصف الأول من القرن العشرين، ولو لم توكلا الدور التوسعي إلى الغرب والولايات المتحدة الأميركية، لسيطر الاتحاد السوفياتي على العالم. أما هما، فلم يكن بإمكانهما فعل شيء بعد حروب الاستنزاف التي خاضتاها، إن في الحربين العالميتين، أو في الدول التي انتفضت للتحرر منهما. ويظهر من تعثّر حركتهما، وحرب «مالي» نموذج أول، أنهما عجوزان متصابيتان ليس إلا.
في هذه الأثناء، انطلقت مناورات «الولاية 91» الإيرانية العسكرية في الخليج وبحر عمان، أظهرت الأسلحة الإيرانية الجديدة والمتطورة، القدرة على إقفال مضيق باب المندب ـــــ يصل المحيط الهندي بالبحر الأحمر ـــــ ومضيق ملقا ـــــ يصل المحيط الهندي بالمحيط الهادئ. أي سيطرة بالنيران على خط جنوب غرب آسيا، وعلى معابر النفط ليس في مضيق «هرمز» فحسب، بل وصولاً إلى باب المندب المعبر البحري من الخليج إلى المتوسط، وملقا، المعبر الغربي إلى الهادئ.
وأعقبت المناورات الإيرانية مناورات بحرية روسية ضخمة في البحر المتوسط، وصفت بأنها الأولى من نوعها ضخامة وحجماً وقوة، تشي بسيطرة بالنيران على غرب آسيا، والحوض الشرقي للمتوسط.
رسمت المناورتان خطين استراتيجيين يستكمل واحدهما الآخر، ويمثلان فكي كماشة حول جنوب غرب آسيا، يحوّلان المنطقة إلى قلعة مستعصية على الاختراق، تضع حداً لمشاريع دوائر الغرب التوسعية والتقسيمية، وتسهم في إنشاء واقع عالمي جديد.
* كاتب لبناني