اكتشفت وسائل الإعلام البريطانية في شهر كانون الثاني الماضي، وسط أزمة رهائن عين أميناس، بلداً لم تُعره إلى ذلك الحين أيّ اهتمام. كُتب هذا المقال في البداية كردّ فعل على تحليلات استشراقية جديدة تعتمد معلومات خاطئة، ثم أصبح هذا المقال تفكيراً أكثر اتساعاً في الكيفية التي نفهم بها التاريخ، السياسة والمجتمع في الجزائر المعاصرة.
أخطاء وإقامة علاقات خطيرة

«لا أحد يعرف ما يجري، كي نكون صريحين فنحن نتكلم عن بلد لم يكن ليحدد مكانه أحد على الخارطة منذ أيام قليلة»، هكذا يؤكد نيك روبنسن، أحد أشهر صحافيي «البي بي سي»، مباشرة من الداونينغ ستريت، وهو يعطي خلاصة مَرِحة لتعليقه على ردّ الفعل البريطاني على أزمة رهائن عين أميناس في الصحراء الجزائرية.
بقدر ما كان هذا التأكيد مُنبِّهاً بصدقه، وبعد يومين من الآراء المفترض بها أن تكون «خبيرة» بوسائل الاعلام البريطانية، فإن هذا التأكيد قد كان - صدقاً - صادماً جداً. بدأت المعلومات تُفيد أنّ مئات من الرهائن، بينهم العديد من الأجانب، قد جرى احتجازهم في عين أميناس من طرف مجموعة اسلامية تقول إنّها تسمى «الملثمين»: كان أولّ ردّ فعل لوسائل الاعلام البريطانية استدعاء خبرائها في مسائل الأمن، وكم كانوا كثيرين من تكلموا عن «القاعدة»، ومن خلطوا بين الوزير الأول الجزائري ووزير الداخلية.
كانت الدهشة، في اليوم التالي، هي أولّ ردّ فعل بريطاني حول قرار الجيش الجزائري ببدء عملية تدخل عسكرية ضد الخاطفين، حيث أبدى رئيس الوزراء ديفيد كاميرون انزعاجه من عدم تبليغه مسبقاً من طرف نظرائه الجزائريين، وكان مغتاظاً لعدم قبولهم اقتراحه تقديم دعم فني واستخباري. حسب نيك روبنسن كان أحد أعضاء الحكومة البريطانية قد أطلق زفرة انزعاج عند اعلان الخبر قائلاً: «لكن بما يلعب هؤلاء؟». تداركت وسائل الاعلام خطأها، وحاولت أن تفسر قرار الجزائريين المفاجئ باستعمال القوة العسكرية.
لقد جرى البحث إذاً على نحو أكبر عن تحاليل الخبراء، وبالطبع كان من الممكن بالنسبة إلى أيّ مختص في الشأن الجزائري أن يشرح أنه لم يكن في تعاطي الجيش والحكومة الجزائرية ما يدعو إلى الدهشة. لقد ذُكّر المستمعون والقراء في وسائل الاعلام البريطانية بأنّ الجزائر كانت معارضة لمجرد فكرة التدخل الأجنبي على أراضيها، ولكل تدخل في شؤونها الداخلية، وبأنها تمتلك قوات تدخل من بين الأكثر تدريباً وتجهيزاً في أفريقيا (أقل من نظيراتها البريطانية والأميركية أو الفرنسية). وبأنّ هذا الاقتران بين القوة العسكرية والموقف الجزائري الرافض للتفاوض مع الارهابيين كان نتيجة العنف الأهلي في التسعينيات.
من المؤكد أنّ كل هذا صحيح من جهة، لكن ارتباطات خاطئة بدأت تولد خلف هذه التأكيدات البديهية. لنأخذ مثلاً عنواني المقالين التاليين اللذين نشرا في يومية اليسار المعتدل « ذي غارديان»:
يان بلاك: «التاريخ الدموي للجزائر يصوغ رد الفعل العنيف على الهجوم على حقل الغاز في الصحراء». ونبيلة رمضاني: «الجزائر تُسيل مزيداً من الدم»، مع عنوان فرعي «النهاية العنيفة لهذه المواجهة تسجل بداية فصل جديد في التاريخ القاسي للبلد».
إن نبيلة رمضاني – أو أياً كان من كتب هذا العنوان الفرعي، ليس دائماً كاتب المقال - يعتقد نفسه لمّاحاً عندما يشير ضمناً إلى أشهر كتاب باللغة الانكليزية حول الجزائر، حرب السلام القاسية A Savage War of peace لألستار هورن (1977). يعود يان بلاك إلى الكتاب نفسه في مقاله، مشيراً إلى أنّ «التاريخ الجزائري المعاصر غارق في الدم». وهذا صحيح، إذا بسّطنا تاريخ الجزائر كما فعل يان بلاك ونبيلة رمضاني، أي إذا قَصَرناه على حرب التحرير (1954-1962) والعنف الأهلي خلال سنوات التسعينيات، وعلى أزمة رهائن عين أميناس، وبذلك محو تعاقبات طويلة للتاريخ الجزائري المعاصر بإسقاطها بغية اختزاله في حلقات عنف، فإنّ هذا لن يفيدنا في شيء، كما أنّ مثل هذه التحاليل، في شكلها الأكثر فجاجة، لن تعيد إلّا انتاج قوالب استشراقية عن الجزائريين موجودة أصلاً، وخاصة عند جيرانهم في شمال أفريقيا: عصابة من الرؤوس الذكورية اللامبالية لا قيمة كبيرة للحياة الانسانية لديهم، أما الشرف فبلى، يمرون على ملاعب كرة القدم وعلى عمليات الاختطاف مرّ السلام. إنّي متأكدة من أنّ يان بلاك، نبيلة رمضاني وآخرون هم أكثر ذكاء من السقوط في هذا الفخ، لكنهم إذ تفادوا الماهوية فقد أعادوا بعدها انتاج حتمية لا علاقة لها بالتاريخ، واصفين الجزائريين بأنهم محبوسون في سلسلة من حلقات العنف تؤدي فيها كل حلقة إلى الحلقة التالية. إنّ هذا الاختزال هو ما يصارعه مؤرخون مثل جيمس ماك دوغال، منذ أكثر من عشر سنوات، وفي هذا السياق كان قد نشر - جيمس ماك دوغال - منذ ثماني سنوات مقالاً بعنوان «حروب قاسية؟ رموز العنف في الجزائر 1830-1990». لنلاحظ جيداً علامة الاستفهام. إن المشكلة ليست خاصة فقط بالصحافيين الذين يجب أن يحترموا مُهلاً قصيرة جداً، إنّها أيضاً مشكلة أسطوغرافية، فقليل جداً هو ما نُشر عن تاريخ الجزائر المستقلة. إن الزمن يتوقف عام 1962 ليعاود حركته على نحو جزئي عام 1988، وفي هذا الصمت تملأ التخمينات والاختزالات الفراغ.


صمتُ كل الأيام

صمت آخر كان صادماً في هذه الأيام الأخيرة الماضية. إنّ أحدى المشاكل التي كان على وسائل الاعلام العالمية مواجهتها هي اللامبالاة التامة للدولة الجزائرية بالاتصال. خلال الثماني والأربعين ساعة الأولى من الأزمة لم تكن هناك أي صورة لبثّها، وعلى نحو ملموس لم يكن هناك أيّ بيان رسمي لنقله، كما أن الشبكات الاجتماعية التي تملأ اليوم جزءاً من هذا الفراغ وجدت نفسها عاجزة، فلم يتم تحميل أي مقطع فيديو على شبكة الانترنت ولا حتى رسائل فيسبوك، ولمّا كان الموقع الغازي معزولاً فإنّه لم يكن هناك جيران له للاتصال بهم، والحصول على شهاداتهم. بعد أيام، بدأ التلفزيون الجزائري في بثّ صور لمختطفين محررين: عمّال جزائريون، وبريطانيون وأتراك يجيبون عن السؤال الموّجه «هل أنتم راضون عن تدخل الجيش الجزائري؟». كان الصمت صاعقاً في زمن التدفق المستمر للمعلومات والتحديثات الآنية المباشرة كل دقيقة عبر تويتر واليوتيوب. إنّ هذا لا يبرر شيئاً من رطانة التغطية الاعلامية البريطانية، بل بالعكس، فقد أظهرها فارغة: ففي ظلّ غياب أحداث لتغطيتها، كان يجب شرح السياق، لكن تحليل السياق يتطلب مستوى آخر تماماً من الفهم.
بينما كانت ترِد معلومات غير مؤكدة مسبوقة بأرقام غير مراجعة، صدمتني مقارنة، قد تكون ناقصة. لقد وجدتْ وسائل الاعلام العالمية نفسها فجأة في موقف المواطن الجزائري المتوسط، الذي يعيش في بلد ليس لا شمولياً ولا ديموقراطياً على نحو كامل، رفقة دولة جزائرية لا تصدر تصريحات يومياً. تفسيراً، تأويلاً وتبريراً... بينما يكتسي بالنسبة إلى الحكومة، في بلدان أخرى، احتلال الفضاء العمومي على هذا النحو واثبات أنها تفعل «شيئاً ما» ذا أهمية حيوية، فإننا نستطيع أن نقول إنه في الجزائر لا «تتجشّم» الدولة عناء الإثبات، وأن الشعب لا يحتار في الاقتناع به. وأنّه إذا أرادت الدولة على نحو استثنائي الإثبات فانّ معظم الناس لن يصدقوها. إنّ الشائعات، في هذا السياق، تكتسي أهمية ذات دلالة في الثقافة الشعبية، لقد كان أكثرها شعبية خلال السنوات العشر الأخيرة الشائعة التي كان مفادها أنّه قد أعيد طلاء مقبرة العالية (مقبرة كبيرة في شرق العاصمة الجزائرية دفن فيها وما زالت تُدفن كل الشخصيات المهمة في الجزائر من، المترجم) استعداداً للموت الوشيك للرئيس. إنّ الفرق الكبير بين شائعات ومضاربات المواطن الجزائري ووسائل الاعلام العالمية هو أنّ الأولى متجذرة في الواقع السياسي، السوسيو - اقتصادي والثقافي للجزائر. الشائعات قد تكون خاطئة، لكنها تقول لنا شيئاً ما. بينما يُعْلمنا المتخصص في أفغانستان، المتطوّع للحديث عن الجزائر، حول أولويات السياسات الخارجية الغربية منذ عشر سنوات.

المواطنون، السياسة والماضي

لقد أصابني احساس غريب، لكنّه مألوف، وأنا أقرأ وأشاهد أغلب المدعوين للتعليق على أزمة الرهائن في وسائل الاعلام البريطانية، قد يكون هذا الاحساس مألوفاً أيضاً لدى كلّ من يملكون علاقة بالجزائر. ولقد وجدت نفسي أتحول إلى مدافعة مستميتة عن الجيش والدولة الجزائرية: كيف تجرؤوا على الايحاء بأنّ الجيش لم يكن قادراً على تسيير هذه الأزمة؟ ألا يعرفون أنّ الجزائر قد ربحت «حربها ضد الإرهاب» حتى قبل «11 سبتمبر»؟ وبأيّ صفة كان للدول الغربية حق النظر في ما تفعله الجزائر في ترابها الخاص؟ قبل أن يكون لكم وقت للقول «حق التدخل»، فإنّ أي فرق سيرمى من النافذة. ومعه كلّ الأسئلة التي عادة ما نطرحها حول ما يعنيه «ربح» الـ«حرب ضد الإرهاب» من حيث عدد الموتى، وعدم احترام حقوق الانسان والعفو الذي يُفرّق، وتبني الدولة لأفكار «إسلامية».
حسب جريدة الوطن، فان الجزائريين – المنتقدين بصفة عامة للحكومة وللجيش ــ قد عبّروا عبر الانترنت عن دعمهم الواسع للتسيير الجزائري للأزمة. المشكل إذاً هو أنّ من لم يفعلوا قد يؤخذون على أنهم داعمون للشكاوى الغربية ضد غياب الكفاءة لدى الجزائريين. ربما كان شيئاً حتمياً في ظلّ اللحظة الطارئة وتحت التهديد الخارجي أن تكون الوحدة المقدّسة مفروضة. إنّ هذا الاحساس بأن تكون مرغماً على الاختيار بين «مع» أو «ضد» قد أصبح تفصيلاً متواتراً، مرتبطاً بقراءة ما للتاريخ الجزائري المعاصر، مكوّناً من سلسلة من الخيارات المنقسمة إلى بيضاء أو سوداء. لا يتعلق الأمر أبداً بدرجات من التحليل التاريخي، لكن بالأحرى بسلسلة من التوقعات السياسية: مع أو ضد استيلاء مجموعة على السلطة سنة 1962، مع أو ضد انقلاب هواري بومدين سنة 1965، مع أو ضد ايقاف المسار الانتخابي سنة 1992. استئصالي أم اصلاحي. هل كانت الدولة المستقلة بحجم آمال من حاربنَ ومن حاربوا ومن ماتوا من أجل الوطن؟ لقد احتل الخطاب السياسي البحثَ التاريخي.
إنّ تاريخ الجزائر المستقلة ليس تاريخ عنف. إنه تاريخ صمت. وإن الصعوبة التي تواجه المؤرخين كما تواجه الصحافيين هي الاستماع إلى هذه الصموت، التي يمكن أن تعيد مساءلة ما نعتقد أننا نعرفه.
* باحثة بريطانية
(ترجمة الكاتب الجزائري ميلود يبرير)