انتمى قسم وازن من جيلنا، في أوائل سبعينيات القرن الماضي، الى تيارات وأحزاب التغيير (الإشتراكية والقوميّة...). كانت تلك الأحزاب تستخدم في وصف النظام السياسي أسوأ النعوت، وتسوق ضده أقسى الاتهامات (جزء منها كان «ايديولوجياً» ومنسوخاً). تطورت، في امتداد ذلك وبالإستناد الى أسباب وتناقضات متنوعة أُخرى، داخلية وخارجية، قديمة وجديدة، حركة معارضة واسعة التأثير والإنتشار. خاضت تلك الحركة نضالات فعّالة في الشارع والمؤسسات، وتشكّلت في نطاق مشروع وصيغة: سياسيين وتنظيميّن. بدت الأمور، وقتها (وبسبب المناخين الدولي والعربي القائمين والملائمين آنذاك)، وكما في الكتب أيضاً، وكأن التغيير بات قاب قوسين أو أدنى. إتخاذُ الصراع في لبنان وعليه (وإنطلاقا أيضاً من الموضوع الفلسطيني) شكل حرب أهلية تغذّيها قوى ومصالح إقليمية ودولية، كشف أن لدى النظام اللبناني إحتياطياً مهماً يستطيع استخدامه، بفعالية، في الوقت المناسب. أشهرت القوى المحلية التقليدية سلاح الطائفية واستخدمته على نطاق واسع بدعم وتشجيع كبيرين من قبل أطراف عربية وخارجية. أسهم ذلك، بشكل أساسي، في إضعاف وتفكك القوى الوطنية وفي تراجع دورها ونفوذها. لكن هذا السلاح الذي، أدمن شركاء «الصيغة» اللبنانية الإعتماد عليه في خدمة مصالحهم وفئوياتهم، قد ارتد على كل البلد. وهو الذي حال، حتى الآن، دون قيام دولة موحدة ومستقرة وطبيعية. 
الانقسام الداخلي الذي توسّل الموروث الطائفي، في تبايناته وفي الصراعات السياسية التي طبعته في عدد من مراحله، اقترن دائماً بالتطلع نحو الخارج للإستقواء به بغرض تثبيت التوازنات الداخلية أو تعديلها. وفي نطاق مبدأ «فرق تسد» الذي اعتمدته القوى الإستعمارية لإضعاف شعوب المنطقة وللهيمنة على بلدانها، ترسّخت معادلة الانقسام في الداخل والتبعية للخارج. وهو الأمر الذي ينطبق، بشكل أساسي، على الوضع اللبناني، والذي لم ينجُ منه، بهذه النسبة أو تلك، أي بلد في المنطقة. معروف أن هذا الخلل قد تكرّس وتعزّز بالإغتصاب العنصري الصهيوني لفلسطين. وهو تداعى إلى انقسام مذهبي خطير في المرحلة الراهنة. وليس بعيداً من ذلك المدُ الإرهابي المستشري اليوم والذي أنشأته أو غذته القوى الخارجية الطامعة والقوى المحلية المسيطرة وموروثات الجهل والعصبيات والتطرف الديني المغرض أو الأعمى.
دخلت معادلة الإنقسام والتبعية في صلب النظام السياسي اللبناني، وتكرست في صيغة محاصصة لا تزال تتعمق وتتوسَّع لتطاول كل الحقول والشؤون. الخلل الجسيم الذي أحدثته، أصاب، أول ما أصاب، مبدأ ومفهوم المواطنة، بحيث حلّ الإنتماء والولاء للطوائف والمذاهب والدويلات محل الإنتماء والولاء للشعب والوطن والدولة. التوترات والنزاعات السياسية المحلية او الوافدة (في تكامل وتفاعل)، تحولت، مراراً، الى حروب أهلية امتدّ اخطرُها خمسة عشر سنة. الأكثر خطورة في الأمر أيضاً، أن هذا الواقع الشاذ قد جعل بعض اللبنانيين يستسهل الخيانة، بمد اليد الى العدو أو طلب حمايته ودعمه، أحياناً، وجعل معظمهم يرتضي الوصاية الخارجية في غالب الأحيان.
الحصار الذي أُحكم طوقُه حول القوى الوطنية اللاطائفية، كان يتعزّز، باستمرار من خلال إمساك فرقاء المحاصصة بمقدرات السلطة والبلاد وتسخيرها في خدمة النظام السياسي التحاصصي القائم. وزاد في الطين بلّة أن القوى الخارجية الإستعمارية قد وجدت في «الصيغة» اللبنانية انموذجاً صالحاً، جزئياً أو كلياً، لإعتماده وتطبيقه في بلدان أُخرى. هكذا فعل الأميركيون في العراق بعد احتلاله: من أجل تسهيل الإحتلال قبل حصوله، ومن ثمّ توطيده وتحقيق أهدافه بعد حصوله. لقد بدا أنه يمكن استخدام الطائفية (وكل أنواع العصبيات والانقسامات)، من قبل الإحتلال ولتحقيق عدد من أهدافه، على أكمل وجه!
لعبت هذه العوامل جميعاً لمصلحة الطائفية والطائفيين. اما القوى غير الطائفية بالفكر والبرنامج والأولويات، فقد وجدت فرصتها الأساسية حين احتلّ العدو الصهيوني أجزاء واسعة من لبنان وصولاً الى عاصمته عام ١٩٨٢. كان معظم الطاقم السياسي الحاكم مُستدعياً لهذا العدوان أو متواطئاً معه. لكن الفضيحة كانت أكبر من أن يجري التستر عليها. شكلت المقاومة الوطنية اللبنانية بارقة أمل كبيرة في إعادة صياغة الوضع اللبناني على أُسسٍ سليمة قاعدتها التوحُد ضد العدو المحتل والطامع. تحققت إنجازات ميدانية وسياسية كبيرة وغير مسبوقة ضد العدو (تكللت لاحقاً بالتحرير ما تبقى عام 2000 بدور حاسم لـ«المقاومة الإسلامية»)، لكن سرعان ما تكالبت قوى عديدة على حصار «المقاومة الوطنية» وإنهائها، مستفيدة أيضاً من تطورات دولية انعطافية (افدحها إنهيار الإتحاد السوفياتي) ومن أخطاء قوى تلك المقاومة وتخليها عن واجبها الوطني الأكثر إلحاحاً. 
كرّس التطبيق المشوه لإتفاق «الطائف»، والذي استند إلى التوازنات الإقليمية لا إلى نصوص ذلك الإتفاق، صيغة المحاصصة الطائفية بعد أن بدّل في موازين القوى داخلها. جرى ذلك برعاية مباشرة من سلطة الوصاية السورية وباندفاع مستميت من قبل المستفيدين المحليين: القدماء والجدد. خرج نظام المحاصصة (وليس البلد!) سليماً معافى من «خطر» الإصلاح بعد أن تمّ تعطيل مثابر ومتعمّد للبنود الإصلاحية في الإتفاق وفي الدستور. التطورات المتلاحقة، على صعيد لبنان والمنطقة، بكل ما رافقها من تأجيج للعصبيات ومن تطرف وتشدّد وتكفير وتمذهب... أسهمت، بدورها في ترسيخ الإصطفافات والصيغ الطائفية والمذهبية وأضعفت قوى التغيير والديموقراطية.
لهذه الأسباب وسواها يمعن أطراف المحاصصة في ممارسة نهبهم وفسادهم وصراعهم على الحصص والمراكز دون الخشية من أي مساءلة أو محاسبة. إنهم يتجاهلون بوقاحة لا سابق لها مصالح الوطن والمواطنين. لم تردعهم المخاطر البيئية والصحية عن إبقاء مشكلة النفايات من دون حل ولا استمعوا إلى صرخات المحتجين من شابات وشباب لبنان بل بادروهم بالقمع والترهيب، حتى بعد أن ذاقت بهم الساحات والشوارع. كل المؤسسات معطلة: لا بأس، طالما أن القرار لم يصدر من المرجعيات الخارجية بعد، وطالما أن صفقة «المناصفة» في النهب لم تستقر على صيغة «شراكة عادلة» بعد!
لماذا «يتفرعن» هؤلاء بهذا القدر من الإستخفاف بالناس، رغم ارتكاباتهم وخلافاتهم؟
لا شك أن أحد أبرز الأسباب إنما يكمن في ضعف وتشتت المعارضة، وفي الأزمات التي يتخبط بها أطراف منها بحيث لم تعد ممارستهم الخاصة والعامة تختلف عن ممارسات أطراف المحاصصة في الكثير من المجالات!
* كاتب وسياسي لبناني