لم تدخل تجربة «لاهوت التحرير» المتحف كما دخلته تجارب تاريخية تقدمّية أخرى كالتجربة المشاعية القرمطية وغيرها، بل هي لا تزال تمارس فعاليتها الحياتية وتمثل جزءاً متأصلاً من الصيرورة الفعلية، التي يعبّر عنها الجنوح نحو اليسار الاشتراكي في بلدان أميركا اللاتينية، بعد بضعة عقود على انطلاقها في سوح النضال السلمي والمسلح. يمكن أنْ نذكر بالمآل الحياتي لأحد رموز هذه التجربة الفريدة وهو الأب ميغيل دسكوتو بروكمان، الذي فُصل من الكنيسة بسبب انحيازه لمصلحة الثورة اليسارية الساندينية في نيكاراغوا كأحد قادتها، ثم أصبح وزير خارجيتها بعد الانتصار، وحاز جائزة لينين سنة 1985 من الاتحاد السوفياتي قبل تدميره. الحَرَم الكنسي الذي صدر ضده آلَ إلى النسيان، وراح العديد من الجهات، من بينها كنائس ومؤسسات دينية يتسابق لتكريمه بالأوسمة والدرجات العلمية التشريفية. وقد بلغ تكريمه ذورته بترشيحه لرئاسة الدورة الـ63 للجمعية العامة للأمم المتحدة من قبل دول اليسار اللاتيني، وفاز بها سنة 2008. الأمثلة المشابهة كثيرة، لكننا، بهدف التعريف والاستدلال، سنكتفي بمثال آخر هو الراهب الكولومبي الشهيد كاميليو توريز، الذي حمل السلاح وقاتل إلى جانب الثوار الماركسيين حتى قتل في إحدى المواجهات مع جيش الطغمة العسكرية العميلة للولايات المتحدة، تاركاً خلفه عدداً من الراهبات والرهبان المقاتلين من أجل الاشتراكية ذات الوجه الإنساني. الشهيد توريز هو مؤلف كتاب «المسيحية والثورة»، وفيه عدّ الثائرَ الشيوعي الأممي تشي غيفارا جوهر وروح اللاهوت العالمي! لقد صاغ هذا تيار لاهوته الثوري من رؤيته وفهمه لشخصية يسوع المسيح كما تتبدى في تجربته الفلسطينية، في خضم مواجهته روما الامبراطورية وعملائها من أحبار وتجار يهود ذلك العصر. لعلّ من أهم مداميك هذا التيار الفكرية تلك الآيات الإنجيلية التي يستمد منها نسغه الثوري ومنها: مَنْ لم يكن لديه سيف فليبعْ رداءه ويشتره (لوقا 22/36). لم آتِ لألقي سلاماً بل سيفاً (متى 10/24). ويلٌ لكم أيها الأغنياء (لوقا 6/24). ما أعسر دخول ذوي الأموال ملكوت الله (لوقا 18/24). لا تكنزوا لكم الكنوز على الأرض... لأنه حيث يكون كنزك يكون قلبك (متى 6/19 و21). ومعلوم أنّ الآية الانجيلية الأخيرة كرّرتها الآية القرآنية «التوبة 34 :35» على نحو شبه حرفي، لكن بتنديد وتهديد بعقاب أشدّ وأقسى: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون»، لكن أغنياء الإسلام نجحوا في اعتبار هذه الآية منسوخة حكماً باقية تلاوةً إلا الصحابي أبو ذر الغفاري الذي ظلّ متمسكاً بسريان حكمها حتى آخر يوم في حياته. إذا أنعمنا النظر في المبادئ المركزية التي تقوم عليها ممارسة وتنظير هذا التيار الثوري، فسنجد أنّ أهمها تتلخص في الآتي:ـ يجب ألا يلجأ رجل الدين إلى العنف حباً بالعنف، بل عن ضرورة واقتناع تام بأنّ ذلك سيضع حداً للظلم، بعد استنفاد كافة المساعي السلمية.
ـ في عالمنا الحالي يسيطر القانون الرهيب لاقتصاد السوق الليبرالي المتوحش الذي يجعل من الغني أكثر غنىً والفقير أشد فقراً، وفي هذا الوضع الجديد من الصراع الطبقي على المستوى العالمي ينبغي الكلام عن مجتمعات غير عادلة جذرياً، يجب تغييرها جذرياً أيضاً عبر الثورة، لتكون مجتمعات عادلة.
ـ على الكنيسة أن تكون في خدمة المناضلين المقاومين في سبيل إنشاء مجتمع أفضل، لتشارك الأصوات المرتفعة، المدافعة عن الإنسان المسحوق، بغضّ النظر عن دينه لأنّه مخلوق مكرم من قبل الله خالقه. ويجد هذا المبدأ تعبيره في الآية القرآنية القائلة: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا / الإسراء:70). ـ يجب الإقرار بأنّ الأسس التي يقوم عليها نشاط الثوار هي الرغبة في إقامة عالم أكثر عدالة عبر كافة أشكال النضال المتاحة من سياسية واقتصادية، إضافة إلى العسكرية متى اقتضت الحاجة الموضوعية لها.
نكتفي بهذا الضوء الذي سلطناه للتعريف بهذه التجربة، وننتقل الى صلب موضوع عنواننا. ولنذكِّر بدءاً بأننا كنا قد أشرنا في مساهمتنا ضمن ملف «الآداب» البيروتية، حول الانتفاضات العربية/ عدد صيف 2012، إلى أنّ «الأمل في بزوغ حركات إسلامية ديموقراطية لا تخلو من المضامين والصبوات الطبقية الثورية، بما يذكرنا بتجربة «لاهوت التحرير» في أميركا اللاتينية، التي ناضل فيها، إلى جانب الثوار اليساريين، رجال دين كاثوليك، كان في مقدمتهم رئيس أساقفة البرازيل هيلدر كاماراو، والراهب الكولومبي الشهيد كامليو توريز الذي حمل السلاح وقاتل إلى جانب الثوار الماركسيين حتى قتل في مواجهة قوات الدكتاتورية، ورئيس أساقفة السلفادور أوسكار روميرو الذي اغتاله عملاء الاستخبارات المركزية الأميركية، أما هذا الأمل فيبقى معقوداً في رحم الغيب!». فالواضح أننا كنا نجهل الوقائع التي تؤكد أنّ هذا الأمل قد بزغ فعلاً، أو على الأقل، ولد كمؤشرات واعدة، في ميادين الإعلام والتواصل الاجتماعي، وخصوصاً في الساحة المصرية. في دراسة مهمة وموثقة (الطليعة 21 العدد 2 ربيع 2012)، يرصد الكاتب هاني فوزي فقه ولاهوت شباب الثورة المصرية عبر العديد من الشهادات في مواقع التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر والمدونات الشخصية، إضافة إلى ما يرسمه الشباب الثائر من رسوم الغرافيتي على الجدران والأغاني التي ينشدونها، فيستنتج «أنّ هناك نمطاً جديداً للتديّن يبزع الآن... تديّن أكثر ملاءمة لزمنه وإيقاعه، تديّن يرى أنّ الدين، أيّ دين، يساعد البشر على أن يكونوا أكثر حباً للآخر وللحياة، رغم الاستعداد السامي للتضحية بالحياة ذاتها من أجل الوطن/ الحلم... إنّه تديّن مؤمن إلى أقصى حدّ بالـ«حرية»، التي تبدو قيمة مرجعية لا تفاوض عليها، ونقطة انطلاق أساسية لما هو ديني وحياتي واجتماعي وسياسي أيضاً». ومع أنّ الكاتب يسجّل مفارقة تفيد بأنّ أصحاب وحملة ومبدعي هذا التديّن الجديد ليسوا متدينين جميعاً، ولكنه، ربما قصد أنهم ليسوا متدينين طقوسيين، آخذين بالطريقة التقليدية التي تفهم الدين ضمن دائرة العبادات الفردية الواجبة والمنفصلة عن هموم المجتمع، والهادفة إلى بناء علاقة عمودية تنتهي بدخول جنة الميتافيزيك بوصفها الخلاص النهائي للفرد. يسرد الكاتب العديد من المؤشرات على هذا الميل الجارف إلى نمط التديّن الجديد والمقارب لظاهرة لاهوت التحرير، معبّراً عنها بفعاليات وكتابات سطّرها الشباب المصري الثائر على صفحات التواصل الاجتماعي، ومن ذلك: عندما يستشهد أحد ثوار ميدان التحرير بالإمام الغزالي: الإكراهُ على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل، كما أنّ الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن، فالحرية هي أساس الفضيلة. شاب آخر يكتب: قدِّسوا الحرية حتى لا يحكمكم طغاة الأرض. شابة تعنون صفحتها بعبارة: لأ مش مطلوب زعيم!
أو عندما ينقل شيخ أزهري عن الأفغاني: ملعون في كلّ الأديان من يسجن شعباً.. من يخنق فكراً.. من يرفع سوطاً.. من يسكت رأياً.. من يبني سجناً، من يرفع رايات الطغيان.. ملعون في كلّ الأديان من يهدر حقّ الإنسان حتى لو صلى أو زكى وعاش العمر مع القرآن. أو عندما انشقّت مجموعة من شباب حركة الإخوان المسلمين على حركتهم خلال الانتفاضة المصرية، رفضاً لمبدأ الطاعة العمياء الذي تلزمهم به الحركة ويؤسسون أكثر من صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي. أو عند دخول شاب مسيحي الكنيسة ليلة عيد الميلاد وبحضور ممثلي العسكر، ويرسل بواسطة هاتفه النقال الرسالة التالية إلى حسابه على التويتر: «حاهتف: يسقط يسقط حكم العسكر، حتى لو هتفت وحدي! ويعلّق الكاتب هاني فوزي «ربما كانت هذه المرة الوحيدة التي يسمع فيها قادة المجلس العسكري هذا الهتاف بآذانهم مباشرة، وهي أيضاً وبالقطع، الحادثة الأولى من نوعها أثناء قداس العيد الذي اعتاد مَن يحضرونه التصفيق لكلّ من يمثل الدولة». كما عندما شكّل مجموعة من طلبة وعلماء الأزهر مجموعة «أزهريون بلا حدود» ومجموعة «ائتلاف شباب الأزهر»، ونقدهم رفض المؤسسة الأزهرية لدعوة العصيان المدني بتاريخ 11 شباط/ فبراير. ويكتب أحدهم تأصيلاً فقهياً ونظرياً للاعتصامات، والعصيانات المدنية، والتظاهرات الشعبية في الشريعة الإسلامية. كما عندما شكّل شباب مسيحيون على الفيسبوك مجموعة على أساس فكرة رفض دعوة ممثلي العسكر لقداس عيد الميلاد، واستعملوا في صورة «البروفايل» الخاص بها جزءاً من الآية الإنجيلية الذائعة الصيت، التي تقول «بيتُهُ بيتُ الصلاة يُدعى..»، و لا تكتب تكملة الآية لأنَّ المؤسسة الكنسية تعرفها دون ريب، وتقول: «وأنتم جعلتموه مغارة لصوص». يسجّل الكاتب أنّ فقه ولاهوت التحرير الذي انتجه شباب ميدان التحرير يتعلق بنوع جديد من العلاقة بين المتدينين وغير المتدينين، قائم على التعايش بوصفه تفاعلاً واندماجاً بين كافة ألوان الطيف المجتمعي والإيماني، لا تجاوراً بين كيانين منغلقين على الذات، يضمّ الأول المتدينين والآخر غير المتدينين. يجد الباحث مبررات هذه العلاقة الجديدة في فشل المؤسسات الدينية التقليدية «في تقديم أطر قيمية تنادي بالعدالة وتقف في وجه الظلم، بل إنّ من تحدثوا باسمها ربما شاركوا في تكريس الظلم، فأبناء الزمن الجديد مصرون على وجود اجتهادات دينية جديدة للخروج من المأزق الحالي، قادرة على تلبية ذلك الجزء الروحاني داخل البشر دون تحويله إلى «تابو»، اجتهادات تبشّر بإنسانية الإنسان، وتناضل من أجلها ومن أجل وطن حر».
ونسجّل من جانبنا، أنّ التشابه والتناظر القائم بين التعبير اللاتيني لتجربة لاهوت التحرير لا تختلف إلّا في الشكل عن تجليها الفاغم بنكهة الربيع العربي، فهي جاءت ممهورة بمقتضيات الظرف اللاتيني الذي أوجب على الثائرين امتشاق السلاح واعتماده أسلوباً أولاً في النضال التحرري والطبقي، أما في مصر، وغيرها، فقد جاء موسوماً بالطابع السلمي الشجاع للانتفاضات المليونية «المستعدة لاقتحام السماء بقبضات عارية» بعبارة ماركس الشهيرة. نختم بضرورة التأكيد على عدم خلط تجربة لاهوت التحرير ببعض تجارب رجال الدين التقليديين – في العراق مثلاً- الذين انحازوا إلى نوع من «العلمانية الفاقعة»، التي وجدت تعبيرها العملي في تحوّل بعضهم إلى مستشارين للحاكم الأميركي بول بريمر خلال فترة الاحتلال المباشر للعراق، فصار بعض أدعياء اليسار والشيوعية من حملة الفكر الإلحادي المراهق مروجين وحاملي مباخر لهؤلاء المشعوذين، ناسين أو جاهلين أنّ العلمانية ابتكار وإنجاز للبرجوازية في طورها التقدمي، ولا علاقة لها بالصراع الطبقي وتحقيق المساواة الاجتماعية ولا بالانحياز الطبقي الثوري، لا بل إنّ تجربة «لاهوت التحرير» اللاتينية، في إحدى سيماتها الجوهرية، هي دعوة إلى المواجهة بالسلاح للاحتلال والهيمنة الإمبريالية الأميركية المتحالفة مع الطُغم العسكرية المحلية الحاكمة هناك.
*كاتب عراقي