إنّ المتأمل في حال المعارضة السياسية السورية اليوم، سيجد أنّها أصبحت «صفراً» في الصراع الدائر في سوريا، في مقابل «الصفر السياسي» الذي أصبحه النظام مذ أطلق أول رصاصة ضد شعبه. المعارضة لم تتمكّن من الارتقاء إلى قوة اللحظة السورية والتفوّق على النظام الذي تقارعه، حتى في أضعف حلقات النظام السوري: السياسة.لم يتعامل النظام مع شعبه يوماً إلا بمنطق العنف، وفق استراتيجية «سياسة للخارج، عنف مطلق للداخل». وبقدر ما ساعدت هذه الاستراتيجية النظام على شعبه طيلة عقود خلت، فإنها كانت نقطة ضعفه الأكيدة، لأنّها سبب تفجر الانتفاضة التي لا رأس سياسياً أو عسكرياً لها، بسبب حرقه كل الرقع السياسية والمدنية المستقلة في الداخل، وبالتالي يصعب التعامل معها، حتى بوسائله العنفية التي لطالما اشتهر بها، الأمر الذي أفقده أدواته.
كان على المعارضة أن تستغلّ نقطة ضعف النظام هذه، لتملأ هذا الفراغ فتكسب شارعاً سياسياً يعزّز حضورها المعنوي والأخلاقي الذي امتلكته طيلة عقود القمع في مواجهة النظام، وبالتالي أن تمثل بواكير إعادة السياسة إلى المجتمع بدلاً من اللجوء إلى العنف الذي سعى النظام بكامل قواه وعنفه إلى احتكاره واستيلاده في داخل الثورة، والخارج بكامل دهائه واستغلاله لجرّ الانتفاضة إلى قاعه، لنعود إلى العنف الذي وحده يحكم كل شيء، مع فارق جوهري: غياب أيّ مرجعية سياسية لها وزن ما في الشارع، وخسارة المعارضة ما كانت تملكه في البداية.
إنّ الطريقة التي انتهى إليها المجلس الوطني (وهو أمر كان متوقعاً منذ إنشائه. لاحظ مقالنا في «الأخبار» (العدد ١٧٠٠ السبت ٥ أيار ٢٠١٢): المجلس الوطني أداة للانتفاضة أم أداة لفرملتها) وطريقة إنشاء الائتلاف المعارض بالطريقة نفسها تشي بمقدار الهزل والارتهان للخارج، الذي تعانيه أطياف المعارضة، التي ارتضت لنفسها دور التابع، الأمر الذي يجعلنا نطرح سؤالاً افتراضياً: لو نعت وزارة الخارجية الأميركية اليوم أو بعد أيام أو أشهر الائتلاف بمثل ما نعت به المجلس الوطني قبله، فهل يتغيّر شيء في الداخل السوري؟ أو هل يتوقف مسار الانتفاضة؟
إن كان قد تغيّر شيء عند موت المجلس الوطني سياسياً، فسيتغير شيء عند موت الائتلاف، لأنهما لم يكونا إلا الأداة التي عبرت عليها الأجندة الخارجية إلى الداخل حتى الآن، فبدلاً من أن يعمل المجلس الوطني على استثمار الشعبية التي حصدها في بداية إنشائه، لربط نفسه بالانتفاضة وتجذيرها والعمل على طرح برنامج سياسي يلتقي فيه مع معارضة الداخل، ركب موجة الشارع والأجندة الخارجية في محاولة منه لتركيب نفسه «نظاماً من فوق» في مواجهة النظام السوري المركّب من فوق أيضاً بقوة العنف، بدلاً من العمل على إنتاج السياسة من تحت، بقوة الناس وبالاعتماد على الناس وقيادتهم بدلاً من ركوب موجتهم. وها هو الائتلاف يسير على طريق الفشل إيّاه!
أنشأ الخارج المجلسَ الوطني لهدف وحيد وهو عسكرة الانتفاضة وتجييرها لمصلحة قوى خارجية تريد أن تركّب أجندة غير وطنية فوق ظهر الانتفاضة، وقد حصل هذا في اتجاهين: اتجاه يرفع شعار إسقاط النظام الأثير لدى الشارع، واتجاه آخر يعمل على عسكرة الانتفاضة تحت ستار الدفاع عن النفس في استغلال واضح للشعبية التي حصل عليها وقت إنشائه. وهنا بدأت نقطة الوصل بين الخارج والداخل المنتفض، حيث بدأ صبيان الاستخبارات الغربية والعربية ينسجون علاقاتهم مع القوى المتعسكرة في الداخل، إذ بدلاً من أن يكون المجلس هو الجهة السياسية التي تكون صلة الوصل بين الخارج والداخل ليبقى للسلاح مرجعية سياسية، اكتشفنا أنّ المجلس غائب كلياً عمّا يجري إلّا في بعض حلقاته، التي تعمل على نحو مستقلّ عنه منذ البداية كالإخوان ومن لفّ لفيفهم. وحين تحقّقت هذه الخطوة لم يعد ثمّة أيّ دور للمجلس، وخاصة أنّ هدف «إسقاط النظام بكامل مرتكزاته» آخر ما يهم هذه الدول الساعية إلى تفكيك سوريا دولةً وشعباً، ومن ثم الاتجاه نحو تسوية سياسية بالتوافق مع الروس، وهذا ما كشفته كواليس إنشاء الائتلاف المعارض في الدوحة، حيث يشي الحوار الذي أجرته «القدس العربي» مع المعارض رياض الترك بأنّ واشنطن تعمل على أرضية التسوية السياسية مع الروس، وما معارك الداخل إلا بهدف تحسين موقع التفاوض، مع وجود خلل بنيوي فادح، يتمثل في سؤال: من تمثّل هذه المعارضة التي ليس لديها حتى شعبية المجلس الهزيل؟ وخاصة بعدما أصبحت التشكيلات العسكرية كلها مرتبطة بداعميها على نحو مباشر، بعيداً عن أيّ غطاء سياسي.
ولعلّ تنطّع الائتلاف ليكون «الممثل الوحيد للشعب السوري» مكرراً خطأ المجلس نفسه بتكرار غبي، وللدفاع عن «جبهة النصرة»، المرتبطة بالقاعدة، بعدما كان زعماء المعارضة يقولون طيلة أشهر سابقة إنها من تدبير النظام، يدلّ على العجز والحائط المسدود الذي تقف فيه هذه المعارضة، التي تستجدي اعتراف الدول بدلاً من اعتراف الشعب والداخل. ولن يكون غريباً إن خرج وزير الخارجية الأميركي الجديد جون كيري ونعى الائتلاف ذات يوم! فمن لا داخل له، لا رصيد له، إلّا إن كان قد ارتضى دور «قرضاي الأفغان» أو «جلبي العراق».
وبدلاً من أن تعمل «هيئة التنسيق الوطنية» على برنامجها السياسي (الذي بدأ واعداً وانتهى فارغاً لعدم تغيّر خطاب الهيئة وبرامجها بالتوازي مع متغيرات الواقع الذي يتحول كل دقيقة) وعلى استثمار وجودها في الداخل لربط علاقات مع الشارع وقوى الانتفاضة، عملت منذ إنشاء المجلس الوطني على ملاحقة الأخير ونقد سياسته، لتبدو خطواتها كأنّها رد فعل ومحاولة للّحاق به أكثر مما هي سياسة مستقلة. فحين سقط المجلس وأُنشئ الائتلاف وجدت نفسها صفر اليدين، فلا هي راكمت شيئاً في الداخل، ولا هي حققت شيئاً مما تدعو إليه، إضافةً إلى اتّباعها سياسة المجلس في التعامل مع الخارج، مرتمية في الأحضان الروسية، فضلاً عن الكثير من التناقضات التي باتت تحكمها، وخاصة في ما يخص شعارها «لا للسلاح»، في الوقت الذي يقوم فيه أحد أعضائها (حزب الاتحاد الديموقراطي) بحمل السلاح، الذي عادت وشرعنته خطوة دخول الجيش الحر إلى مدينة رأس العين نزولاً عند الأجندة التركية، مما أسهم في دفع معظم الأكراد نحو حزب العمال الكردستاني، الذي بات المدافع عنهم في وجه الأجندة التركية! والأمر نفسه ينطبق تقريباً على قوى المعارضة الأخرى، التي لم تنضوِ تحت لواء أيّ من التيارات السابقة.
وبقي الأكراد موزعين بين المجلس الكردي المشدود إلى أربيل المتقاربة مع أنقرة، المتقاربة بدورها مع الائتلاف، وبين حزب الاتحاد الديموقراطي المشدود إلى هيئة التنسيق، المشدودة بدورها إلى موسكو، ليضيع الخطاب الكردي بين طروحات تنوس بين الفدرالية واللامركزية السياسية، متوحداً مع المعارضة العربية في ضعف علاقته بالشارع الكردي، الذي بات يقف خلف حزب العمال الكردستاني، في مواجهة الجيش الحر في المناطق الكردية.
بعد سنة وتسعة أشهر من عمر الانتفاضة نقف أمام فراغ سياسي هائل، كأننا ما زلنا في الدرجة الصفر على المستوى السياسي، فيما يصل الشارع الدرجة المئة من الثورة والغليان ضدّ كل شيء، لتكون المحصّلة: صفر النظام، الذي لم يعد يمثل إلا آلة عنف محض، وصفر المعارضة، المتعوّمة على ظهر الانتفاضة والقوى الخارجية، مما ولّد فراغاً سياسياً يملأه العنف.
ورغم أنّ من الظلم الشديد مقارنة المعارضة بالنظام على هذا النحو، لجهة نظام امتلك كلّ شيء على مدى عقود، ومعارضة لم تملك يوماً حق الاجتماع العام تحت ضوء الشمس، إلّا أنّ المستقبل في النهاية لا يُصنع إلا بمحصّلات القوى، بعيداً عن المشاعر ونبل القضايا التي حملتها المعارضة طويلاً.
* شاعر وكاتب سوري