نُحيي في شهر آذار المقبل الذكرى العاشرة للغزو الأميركي للعراق. ولهذه المناسبة، تصدر «لو موند ديبلوماتيك» في عددها الخاص بشهر آذار موجزاً عن تلك الحرب. غير أنّ جلسات محاكمة بدأت في 21 كانون الثاني في باريس أعادت إلى الذاكرة بعض الجوانب المنسية من ذلك الصراع. «بعد عشر سنوات على قضية شركة «ألف أكويتان» النفطية، وبعد سنتين على قضية بيع أسلحة لأنغولا، في ما عرف بقضية «أنغولا غيت»، ها هي مسألة النفط مقابل الغذاء حضرت بدورها أمام محكمة في باريس في 21 كانون الثاني، ومنها أيضاً تفوح رائحة الدبلوماسية الموازية والفساد ذاته.
ومثل القضايا السابقة، يتدخل القضاء بعد أن فاته قطار الزمن. فالمحاكمة التي تستمرّ أربعة أسابيع تأتي متأخرةً سنوات، فقد بدأت فصول الحكاية مع الحظر الدولي الذي فرض على العراق في عهد صدام حسين بعد غزوه للكويت عام 1990».
وتطالعنا الصحافية باسكال روبريت ديار، يوم 21 كانون الثاني في صحيفة «لو موند»، بمقال بعنوان «السياسة والصفقات حول أموال النفط العراقي»، فيما يتناول زميلها في «لو فيغارو» ستيفان دوران سوفلان القضية في مقال بعنوان: «حين اختلست أموال النفط العراقي»، في 21 كانون الثاني أيضاً.
يقول الكاتب: «كان العراق تحت الحصار، وبهدف تخفيف معاناة السكان الذين وقعوا ضحية عواقب الحرب التي شنّها التحالف الغربي على صدّام حسين بعد غزو الكويت، تصوّرت الأمم المتحدة آلية: النفط مقابل الغذاء، أو بالأحرى النفط مقابل السلع الإنسانية. وابتداءً من نهاية عام 1996، عاد النفط الخام العراقي ليظهر في الأسواق، تحت مراقبة الأمم المتحدة الصارمة نظرياً. وتعيّن أن تقسم عائدات المبيعات التي تتم بموجب سعر ثابت إلى جزأين: ثلثان للبرامج الإنسانية وثلث لدفع التعويضات
للكويت.
غير أنّ النظام في بغداد سارع إلى السعي للالتفاف على آليات البرنامج لتلبية مصالح القيادة من الرئيس إلى أتباعه المخلصين مثل طارق عزيز. وقد اختُلست مئات ملايين الدولارات من خلال زيادات على «التعرفات» تفرض على الشراة، الذين كانوا ينتهكون قرار مجلس الأمن الدولي رقم 986 عن معرفة مسبقة في الكثير من الأحيان.
وكان النظام العراقي يكافئ الشخصيات التي يعدّها صديقة، لاتخاذها مثلاً مواقف علنية مناهضة للحصار. فكان يخصص الملايين من براميل النفط الخام لأشخاص مختارين يعيدون بيعها من خلال شركات لا تأخذ الحصار في الاعتبار. وقد استمر هذا النظام حتى عام 2003».
وتورطت في القضية العديد من الشخصيات، شملت دبلوماسيين سابقين وبعض أنصار الديغولية ومسؤولين في شركة «توتال». بعضهم جنى المال لنفسه، والبعض الآخر أسهم عن معرفة مسبقة في الالتفاف على حصار كان يعدّه غير عادل.
وتختم الصحافية في «لو موند» بالقول: «إنّ المسألة هنا هي اكتشاف ما الذي كانت تعرفه السلطات الفرنسية عن هذه الآليات الموازية. فخلال التحقيق قال مدير قسم التجارة في «توتال»، بيرنارد بولج دو كومبري: كانت مرحلة يسودها النفاق. يمكنني القول إنّ كافة الحكومات كانت على علم بالزيادات على التعرفة حينها».
لكن هل هذا هو فعلاً السؤال؟ ألا يجب أن نسأل: لماذا المسؤولون السياسيون الذي فرضوا لأكثر من عقد حصاراً قاتلاً على العراق يبقون بلا عقاب؟
سبق أن ناقشت هذه المسألة قبل بضع سنوات في مقال نشر على موقع «لو موند ديبلوماتيك»، بعنوان «العراق: فضيحة قد تخفي أخرى» في 11 آب عام 2005، «لكن الفضيحة الأكثر بروزاً لم تستدع إنشاء لجنة تحقيق. ففرض عقوبات على العراق في آب 1990، واستمرارها إلى ما بعد تحرير الكويت عام 1991، كان له عواقب وخيمة سيدفع ثمنها العراق حتى أجل طويل. فإن كانت وسائل الإعلام تحدثت كثيراً عن الصعوبات التي واجهها العراق في توفير الغذاء والدواء، حتى بعد بدء العمل في برنامج «النفط مقابل الغذاء» عام 1996، إلا أنها قللت من شأن تبعاتها المدمرة للمجتمع العراقي بحدّ
ذاته.
فالبنى التحتية اهترأت شيئاً فشيئاً، رغم البراعة الفريدة للمهندسين العراقيين، والخدمات الأساسية للمواطنين والوزارات والمعامل الكهربائية، وحتى ماء الشرب أصبحت كلّها مهددةً، وانتشر الفساد من أسفل القاعدة حتى أعلى الهرم. وما لبثت أن زادت الجريمة كثيراً؛ فسكان بغداد الذين اعتادوا ترك أبواب ونوافذ بيوتهم وسياراتهم مفتوحة، باتوا يقفلون على أنفسهم. أمّا الغزو الأميركي، فما كان إلا الضربة القاضية التي أسقطت دولةً كان ينخرها الدود».
من ناحية أخرى، أجبر المجتمع الذي يوصف بـ«الدولي» العراق على التعويض لضحايا غزوه الكويت من خلال نظام دفع 30% من أرباح النفط. وأسهم هذا النظام في زيادة ثراء الشركات الغنية ودول ليست بفقيرة مثل الكويت (قراءة: «العراق يدفع!» لو موند دبلوماتيك، تشرين الأول 2000).
أدّت هذه السياسة إلى وفاة عشرات الملايين من العراقيين الأبرياء، الذين لمناهم لعدم قدرتهم على التخلّص من نظام ديكتاتوري يقمعهم.
وكأن كلّ ذلك لا يكفي، قرّر الرئيس الأميركي جورج بوش في شهر آذار عام 2003 غزو العراق. وكما قلت سابقاً، ستتناول «لو موند ديبلوماتيك» هذا الموضوع في عدد آذار، غير أنّ النتائج أكبر بكثير من بضعة ملايين ربما اختلسها الأشخاص الذين يحاكمون حالياً في باريس: فقد سقط عشرات آلاف القتلى ودمّرت البنى التحتية وفكّكت الدولة وزادت حدّة الانقسام المذهبي والإثني، هذا من دون ذكر حالة عدم الاستقرار في المنطقة.
ألم يحن الوقت بعد ليمثل السؤولون عن هذه الاستراتيجية أمام المحاكم؟
(ترجمة هنادي مزبودي)
*رئيس التحرير المساعد في «لو موند ديبلوماتيك»