يتعيّن علينا، وقد بلغنا الفصل السادس عشر والأخير من كتاب «القيامة العراقية الآن... كي لا تكون بلاد الرافدين بلا رافدين»، أن نتفحص نقاط القوة الموجودة بحوزة العراق لتكون له عوناً ومساعداً على مجابهة الأخطار المحدقة به أنهاراً، وأرضاً، وشعباً وثروات، ونقاط الضعف التي ينبغي الانتباه إليها للحدّ من فعاليتها ومعالجتها للتخلص من إفرازاتها.إنَّ العالم الحديث، بهيئاته السياسية والقضائية والعلمية، لا يمكن أنْ يحكم لمصلحة العراق أو يتعاطف ويتضامن معه، مهما كانت ظروفه مأساوية، ومهما كان حجم التجاوزات العدوانية للدول المجاورة عليه، إذا كان هو نفسه لا يدافع عن تلك الموارد المائية، بل يضرّ بها ويفسدها، باعتماده بنيةً تحتية قديمة ومهترئة تتسبّب بالهدر والتلويث وغير ذلك، وبإهماله وقلة اكتراثه لثرواته الطبيعية ومصادرها.
ومن نقاط القوة التي يمكن أنْ تحسب ضمن رصيد العراق في هذه المواجهة، يمكن التذكير باستحالة قطع المياه تماماً ونهائياً عن الرافدين بقرار من الدولة التركية لأيّ سبب كان. فهي يمكن أنْ تقطع تلك المياه جزئياً، ويمكن أنْ تقطعها موقتاً ولفترة محدودة، قد لا تتجاوز الستة أشهر في حال كون بحيرات سدودها ممتلئة، وقد تمتد عاماً كاملاً في حال تشييد سدّ ضخم جديد، ببحيرة اصطناعية فارغة، لكن من المستحيل أن تقطع مياه الرافدين تماماً ونهائياً لأسباب عديدة منها: الإيراد العالي السنوي من مياه الرافدين وروافدهما، الذي تعجز السدود التركية وبحيراتها الاصطناعية عن احتوائه ولفترات طويلة. وعدم تحكّم تركيا في الإيراد المائي لروافد نهر دجلة الواقعة في داخل العراق أو القادمة من إيران. ومحدودية الطاقة الاستيعابية لخزانات السدود التركية والبحيرات الاصطناعية رغم ضخامتها. خطورة المنطقة التي تقع فيها السدود، وهي منطقة ناشطة زلزالياً أصلاً، وتهدّد بانهيار السدود أو بعضها، إضافة إلى كونها منطقة تشهد حرب عصابات وتمرداً قومياً «كردياً» مسلّحاً ضد الدولة التركية.
ومع ذلك، فإنَّ مشكلة تسبّب السدود التركية ومنظومات الريّ الزراعي المرتبطة بها بتلوث مياه النهرين، تبقى مشكلة صعبة ودائمة، ولا يمكن علاجها من قبل العراق وحده، بل يمكنه رصدها وتوثيقها من خلال تطبيق الاقتراح الذي طرحناه، والقاضي بنصب مراكز لفحص كميات ونوعية المياه الواردة إلى العراق من خارجه عبر جميع الأنهار والروافد، وعند نقاط محاذية للحدود الدولية، وبحضور دولي تخصّصي يشمل هيئات الأمم المتحدة المعتمدة، والمنظمات العالمية للدفاع عن البيئة وما شابه. إنَّ مجرّد تطبيق هذا الاقتراح سيجعل دول الجوار، وفي مقدمتها تركيا، تحسب ألف حساب لقضية تسريبها مياهاً ملوثة نحو العراق وسوريا، وستعمل يقيناً على الحدّ منها قبل أنْ تواجه شكاوى العراق الموثقة والموجهة نحو الهيئات الدولية، والمنظمات العالمية ذات الاختصاص.
ومن نقاط القوة التي يحوزها العراق، يمكن التذكير بمشروعي «بخمة» الكبير، ومنخفض وبحيرة الثرثار. إنّ قضية هذين المشروعين، هي قضية حياة أو موت بالنسبة إلى العراق وشعبه، ولا يمكن النظر إليهما نظرة تقليدية كتفصيل تنموي صغير، ومشروع ريّ بين عشرات المشاريع.
ومن نقاط القوة العراقية، أيضاً، قدراته المالية الضخمة المتأتية من صادرات النفط، التي يستهلك معظمها في استيراد الكماليات والمواد الاستهلاكية الميتة، التي يمكن أنْ يكون لها بديل محلي بسهولة. لذا ينبغي توجيه نسبة مهمة ومناسبة من هذه القدرات المالية لتنفيذ المشاريع المائية العراقية، التي سلف ذكرها أو التي نقترحها هنا:
ـــ تأسيس وزارة باسم «وزارة الرافدين»، تهتم بكل ما له علاقة بالرافدين وروافدهما والمسطحات المائية بينهما. وتتولى مديريات عامة فيها مختلف شؤون الريّ والمصادر المائية التي تقوم بها حالياً وزارة «الموارد المائية». لقد سبقتنا تركيا فأسست، وزارة باسم «وزارة دجلة والفرات»، و لنلحظ هنا، عرضاً، أنَّ تركيا لم تجرؤ على تسميتها وزارة «الرافدين» لأنَّ هناك بلداً بهذا الاسم هو العراق، وقد خصصت الدولة التركية لهذه الوزارة ميزانية سنوية تضاهي ميزانية وزارة الدفاع.
ـــ التفكير جدياً في إضافة عبارة «بلاد الرافدين» إلى الاسم الرسمي للدولة العراقية ليكون «جمهورية العراق ـــ بلاد الرافدين»، وهذا ليس أمراً مستحيلاً عملياً أو سابقة تاريخية، فالعراق نفسه عدّل اسمه رسمياً ودولياً مرات عديدة. فمن «المملكة العراقية» في العشرينيات، إلى «الاتحاد الهاشمي العربي» في الأربعينيات، ثم «الجمهورية العراقية» بعد ثورة 14 تموز عام 1958، وأخيراً «جمهورية العراق» النافذ حالياً. أما عالمياً، فهناك أكثر من مثال من هذا القبيل، فدولة هولندا تسمى في الوقت نفسه، «هولندا ـــ مملكة الأراضي المنخفضة». وبهذا الاستكمال الذي نقترحه لاسم العراق يتحقّق التطابق التاريخي العريق بين الاسم والمسمى، مع ما يوفّره ذلك للعراق من سند حضاري في معركته من أجل بقاء الرافدين في بلاد الرافدين، وحجّة تفاوضية وتحكيمية قوية يوفرها هذا السند ذو الطابع الثقافي.
ـــ تأسيس نظام حديث للريّ على أنقاض النظام البدائي القديم، الذي يتسبّب بكل صوَر الهدر المائي وتلويث التربة وتسبيخها، نظام حديث يقوم على الري بالتقطير والرشّ وغيرهما.
ــ القيام بعمليات مسح جيولوجي، وطوبوغرافي، وهايدروليكي لحوضي دجلة والفرات وجميع روافدهما، ولجميع البحيرات والمسطحات المائية والمياه الجوفية داخل الأراضي العراقية، وجمع النتائج في مؤسسة موسوعية بهذا الخصوص كنوع من «بنك المعلومات» الخاص بالثروة المائية العراقية.
ــــ القيام بعمليات تبطين لمجاري الأنهار والروافد في عموم العراق، وحيثما كان ذلك ضرورياً.
ومعالجة أوجه الهدر المائي حيثما وجد، والعناية بمصادر المياه الجوفية والحدّ من استهلاكها العشوائي. وتأسيس أكاديمية علمية عراقية تعنى بشؤون المياه، والهيدرولوجيا، والمسطحات المائية والبيئة، وعلاقة كلّ ذلك بالقانون الدولي.
والاستعانة بالرسم والتصوير الرقمي بواسطة الأقمار الاصطناعية لرسم وتصوير خرائط علمية دقيقة للأضرار التي ألحقها الجفاف وإنقاص مياه الرافدين بالعراق، ونشر تلك الخرائط والصور في لوحات بانورامية مرفقة بصور وخرائط من ذات النوع لشبكة السدود والإنجازات العراقية وأخرى للروافد المنتشرة في العراق، مع تبيان تلك التي جفت وخرجت من نشاط الريّ. ووضع خطط طوارئ لتصريف مياه الفيضانات الناجمة عن احتمال انهيار السدود التركية وغير التركية بتوسيع قنوات صرف، ومناقلة المياه نحو بحيرة الثرثار بالدرجة الأولى، للاستفادة من ذلك في تحلية مياه البحيرة. ومن نقاط القوة التي يحوزها العراق، والتي يجري تحويلها إلى نقطة ضعف، عبور أنابيب تصدير النفط العراقية الأراضي التركية، التي تحصل منها تركيا على نسبة مهمة من حاجتها إلى النفط، إضافة إلى ما تجنيه من أرباح ضخمة كرسوم عبور وتصدير. والواقع، نحن نعتقد أنَّ على العراق التفكير جدياً في خطة من مرحلتين: الأولى، هي التقليل تدريجياً من تصدير النفط العراقي عبر خط الشمال «كركوك ـــ جيهان»، وتفعيل وتوسيع التصدير جنوباً عبر موانئ البصرة، وإعطاء اهتمام أكبر لمشروع ميناء الفاو الكبير، وإنجاز تنفيذه في أسرع مدة ممكنة. وإعادة تأهيل خط أنابيب «البصرة ـــ ينبع»، المارّ عبر أراضي المملكة العربية السعودية. أما المرحلة الثانية، فتكون بتأهيل وتفعيل خط أنابيب «كركوك ـــ بانياس»، المارّ عبر الأراضي السورية، بمجرد استقرار الأمور في سوريا، كما يمكن التفكير في استخدام ميناء العقبة الأردني للتصدير بعد التأكد تماماً من عدم وجود أيّة علاقة مباشرة أو غير مباشرة لدولة إسرائيل بالمشروع. ويمكننا، أيضاً، أن نكرّر الاقتراح الذي طرحه الباحث فؤاد الأمير بخصوص ضرورة تطوير الصناعة، وبالأخص الصناعة البتروكيمياوية والبلاستيكية، وصناعات الأسمدة، والصناعات التي تخدم الزراعة والريّ والصناعات الأخرى. كذلك علينا إنشاء البنى التحتية، إذ إنّ ما هو موجود حالياً منها دون المستوى وبمراحل كبيرة. أما قول الباحث إنّ «حل مشكلة المياه لا يأتي من الخارج، بل يأتي من سياسة مائية كفوءة لإدارة المياه في داخل العراق»، إذ حتى لو افترضنا جدلاً، أنّ تركيا وإيران تركتا المياه سائبة للدخول إلى العراق، فهل يعني هذا حلاً «لمشكلة» المياه العراقية؟ وهل يعقل أن نترك المياه العذبة تذهب إلى البحر، ونحن نأخذ حاجتنا والباقي يضيع هدراً، ونعتقد أنّ هذا حلّ للمسألة؟ عندما بدأ النزاع مع تركيا يطفو إلى السطح في الثمانينيات والتسعينيات، أدركت تركيا أنّ مشاريعها قد تجابه بمعارضة، وقد يعرض العراق موقفه على المحافل الدولية، لذا أخذت أكثر من 150 ألف صورة وفيلم عن الهدر المائي في العراق. فهو قول ينطوي على بُعْد نظر وانتباهات حقيقية لا نعتقد أنها تصطدم مع حقوق العراق في مياهه، وليس المقصود منها رهن حرية استخدامنا لمياهنا بالقرار الخارجي، بمقدار ما هي دعوة إلى ترصين أدائنا في إدارة واستخدام ثروتنا المائية، إضافة إلى تحسين وضعنا التفاوضي والتحكيمي دولياً وثنائياً. ونذكّر هنا بما قلناه في موضع آخر من هذا الكتاب، من أنّ نهري دجلة والفرات ليسا النهرين الوحيدين اللّذين يصبان في البحر، بل أغلب أنهار العالم، إنْ لم تكن كلها، تفعل ذلك، ولعلّ أشهرها نهر النيل. ثمَّ إنَّ المياه التي تصبّ في الخليج في وقتنا الحاضر باتت قليلة جداً، ولا تكاد تذكر. الأمر الذي أدى إلى تقدم اللسان الملحي القادم من الخليج والصاعد نحو الشمال، مدمراً كلّ شيء في طريقه.
واضح أنّ الطموح المشروع والملح لوضع استراتيجية شاملة كهذه التي نناقش بعض خطوطها العامة، كفيلة ليس فقط بالدفاع عن أنهار العراق وثرواته المائية وصدّ واستيعاب أية مخاطر طارئة قادمة من خارج الحدود فحسب، بل هي كفيلة أيضاً بتحقيق نهضة حقيقية في مجالات الحياة الاقتصادية على نحو عام، والزراعية والبيئية على جهة الخصوص. إنَّ مسؤولية ثقيلة تترتب على أبناء الجيل الحالي من العراقيين لوضع وتطبيق استراتيجية شاملة كهذه، ليكونوا جديرين بهذه البلاد العظيمة، وبشرف الانتساب إليها والتمتع بخيراتها، وإلا فسيقول التاريخ بحقهم كلمته القاسية، ويساوي بينهم وبين أبناء الجيل الذي سبقهم، والذين أوصلوا العراق إلى الوضع الكارثي الذي هو عليه الآن... إنها رسالة، لا تقلّ قداسة وأهمية عن أيّة رسالة أخرى وضعتها الأقدار على عواتق العراقيين، لينتصروا على الموت الزاحف نحوهم ونحو بلادهم!
*كاتب عراقي