هل هناك أيّ إمكانية للوصول إلى سلام عادل يضمن تطبيق حق العودة لكلّ من أراد من اللاجئين الفلسطينيين تبعاً لقرار الأمم المتحدة 194؟ وهل من الممكن، عملياً، تطبيق المساواة الكاملة بين كل سكان دولة إسرائيل، وبالتالي القضاء على القوانين والممارسات العنصرية الممأسسة في هذه الدولة؟ وبأقل درجة، كيف يمكننا إجبار إسرائيل على الانسحاب الكامل من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967؟يكمن الخطر في محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال تجزئتها، أو الفصل بينها، واعتبار أنّها قضايا نضالية تخصّ الفئة السكانية التي تضرّرت مباشرة من الاضطهاد الصهيوني. وبناءً على هذا المنطق فإن هموم فلسطينيي 48، وبالتالي برامجهم النضالية، تختلف عن تلك التي يناضل من أجلها إخوتهم/ن في المناطق التي احتُلت عام 1967. أضف إلى ذلك أنّ الشريحة الأكبر من الفلسطينيين/ات تعيش في الشتات نتيجة عملية التطهير العرقي التي مورست ضدهم/ن عام 48، وبناءً عليه فإن أهدافهم/ن النضالية، تبعاً لهذا المنطق (البراغماتي) التجزيئي، تختلف من ناحية الشكل والمضمون عن أهداف إخوتهم/ن وأخواتهم/ن سكان مناطق 48 و67. من الواضح أنّ هذا المنطق يعطي أولويات لفئة سكانية فلسطينية على حساب الأخرى. وهنا مكمن الخطر، حيث إنّه يُعاد تعريف الشعب الفلسطيني العربي تبعاً للمنطقة الجغرافية التي يسكنها. وقد أصبح التعريف السائد منذ عام 1993 أنّ الشعب الفلسطيني يتكوّن من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، وأنّ النضال الفلسطيني يهدف، في المحصلة النهائية، للحصول على استقلال هاتين البقعتين الصغيرتين بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي لما بعد، أو داخل حدود67. والأكثر خطورة أنّ لقب شعب يُستخدَم الآن لتعريف سكان غزة، التي يعدّها البعض (مناطق محررة!). وإيغالاً في التقسيم، غير المحصور في فصل الضفة الغربية عن غزة، فإن التصنيفات الإسرائيلية العنصرية تميِّز بين ما تسميهم، عنصرياً، (عرب اسرائيل)، وسكان القدس من حاملي الهويات الإسرائيلية، وسكان الضفة الغربية (دون المستوطنين)، وسكان قطاع غزة، واللاجئين الذين يجب توطينهم في أماكن سكناهم! ولخلق حقائق على الأرض، فإن إسرائيل قامت بالفصل الكامل بين هذه الفئات السكانية، ومنعت أيّ تواصل بينها على نحو يفوق بمراحل ما فعلته قوات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في القرن الماضي.  
وبما أنّ المجتمع الدولي، بشقيه الرسمي والمدني، لم يقبل نظام «الأبارتهيد» العنصري وتقسيماته الإثنية ـــ العنصرية، حيث قام ذلك النظام (بمنح) السكان الأصليين الأفارقة حق إقامة 4 (أوطان مستقلة) على 12% من أرض جنوب أفريقيا، مع سيطرة كاملة للنظام الأبيض على كل موارد الدخل ومظاهر السيادة المتعارف عليها من سيطرة على الأجواء والأراضي، والأمن الخارجي، وضمان أن أغنى المناطق بالمناجم وغيرها تقع في القسم المُسيطَر عليه من قِبل الحكومة البيضاء. لم يكن هناك أيّ إشكالية في منح (الأوطان المستقلة) مظاهر سيادية شكلية: علم، مطار، بساط أحمر، رئاسة، أجهزة شرطة أو أمن، وزارات...
ولكن هذه الحيلة العنصرية لم تنطل على المجتمع الدولي، الذي رفض الاعتراف بهذه المعازل العرقية على نحو مطلق، مع استثناء دولة إسرائيل، التي كانت تربطها علاقات على مستوى عال من التنسيق مع النظام العنصري. وسمحت لأحد «البانتوستنات» بفتح مكتب تجاري في أكبر شوارع تل أبيب! وعلى الرغم من العلاقات التي كانت تربط العديد من الدول الغربية ذات الماضي الاستعماري، مثل بريطانيا والولايات المتحدة، مع النظام العنصري، إلّا أنها لم تعترف مطلقاً بهذه الدويلات المسخ، وإن كانت قد حافظت على علاقاتها مع الدولة العنصرية! بل اعتبرتها امتداداً لها في مواجهة المد السوفياتي، حيث تولّت جنوب أفريقيا الحرب بالإنابة عن الغرب في أكثر من دولة أفريقية تسعى إلى التحرر، مثل أنغولا وموزمبيق. ومع هذه الخلفية المهمة، يبرز السؤال التالي: كيف استطاعت القوى المناهضة للنظام العنصري إقناع المجتمع الدولي بمقاطعة حكومة الأبارتهيد وعدم الاستثمار في مشاريعها، وفرض عقوبات عليها؟ أحد أبرز الأجوبة التي نسمعها من مناضلي/ات تلك الحقبة المهمة في التاريخ الإنساني على نحو عام، والجنوب الأفريقي على نحو خاص، هو أن سكان الأرض الأصليون ركزوا، من خلال برامجهم النضالية، على أنهم يمتلكون (الأرضية الأخلاقية العليا). وهذا ما لخصه المناضل نيلسون مانديلا، في دفاعه عن نفسه ورفاقه في محاكمة ريفونيا الشهيرة عام 1964: إنّ نضالنا هو نضال أفريقي مُستلهمٌ من المعاناة والتجربة الأفريقية، لكنه نضال من أجل الحق في الحياة. ولقد وهبت نفسي لنضال وحقوق الشعب الأفريقي. لقد ناضلت ضد الهيمنة البيضاء، وناضلت ضد أيّ هيمنة سوداء أيضاً. لقد آمنت بنموذج الديموقراطية في مجتمع حر، حيث يعيش الجميع على نحو متساوٍ وفرص متكافئة. المساواة، النقيض الوجودي للعنصرية، كانت الخط الأحمر!
إذاً كان الهدف واضحاً والرؤية أوضح: المساواة الكاملة بغض النظر عن العنصر أو الخلفية الإثنية. وجرت التعبئة الجماهيرية على هذا الأساس من خلال جبهة وطنية عريضة شملت الغالبية الساحقة من التنظيمات المناهضة للتفرقة العنصرية ومؤسسات المجتمع المدني. وجرى التركيز على أربعة «أعمدة للنضال» حدّدها الجنوب أفارقة أنفسهم، ولم تُملَ عليهم من الخارج:
1- الكفاح المسلح 2- النضال السري 3- التعبئة الجماهيرية الكاسحة 4- حملة مقاطعة وعدم استثمار، وفرض عقوبات أممية على النظام العنصري.
ما يهمنا في هذا السياق هو المبدأ النضالي الرابع، وعلاقته المباشرة بالثالث، حيث إنّه من المعروف تاريخياً أنهما كانا العمودين الرئيسين اللذين أرضخا نظام الأبارتهيد في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن المنصرم، وأدّيا في المحصلة النهائية إلى زواله من مسرح التاريخ الإنساني، حيث يقبع الآن في مزابله، وفي أفضل الحالات، متاحفه!
حينما توجهت الحركة المناهضة لنظام الأبارتهيد بنداء المقاطعة الأول في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كان تركيزها، عملياً، على المجتمع المدني. ولم تبدأ الحكومات، الغربية منها بالذات، بالاستجابة إلّا في منتصف السبعينيات حيث صدر قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة الشهير، عام 1973، باعتبار الأبارتهيد جريمة ضد الإنسانية (مع معارضة الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، جنوب أفريقيا، والبرتغال!). ومع التراكم النضالي، والتركيز على المقاطعة والكفاح الشعبي العارم المتواصل، مصحوبين بدعم هائل من المجتمع المدني الدولي، عُزل النظام العنصري على الرغم من محاولات حكومتي بريطانيا والولايات المتحدة «التحاور» مع الحكومة العنصرية في منتصف الثمانينيات بذريعة «المشاركة البناءة!»، ومحاولة إقناعه بالتخلص من بعض صلاحياته، إلّا أنّ إصرار الجبهة الديموقراطية الموحدة، المناهضة للنظام العنصري، على أنّ الحد الأدنى من الحلول لا يكون إلا من خلال التخلص من القوانين العنصرية على نحو كامل، وحقّ الاقتراع لكلّ سكان جنوب أفريقيا بغضّ النظر عن العرق، الدين، والجندر. وقد رضخت الحكومات الغربية بسبب الضغط الهائل لمؤسسات مجتمعها المدني، بعد نجاح الحركة المناهضة للتفرقة العنصرية في جعل قضية ج.أ شأناً داخلياً في كل الدول الغربية، وبالذات الولايات المتحدة الأميركية.
كان هذا الاستطراد ضرورياً لتوضيح الخلفية التاريخية، الحديثة نسبياً، في نجاح تكتيك المقاطعة وعدم الاستثمار وفرض العقوبات (بي دي أس) في مواجهة أحد أعتى الأنظمة في أفريقيا السوداء. نظام كان يُعدّ امتداداً للحضارة الغربية بشكلها الاستعماري الاستيطاني. نظام امتلك قوة عسكرية غاشمة، وتحالفات استراتيجية مع دول عظمى. نظام يقوم على أسس أيديولوجية ممزوجة بتبريرات دينية فجة!
إذا كان المجتمع الدولي لم يستمر في إغماض عينيه عما يقع في جنوب أفريقيا من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وإذا كانت هذه التجربة النضالية قد سجلّت أسبقية مبنية على خليط من الأخلاقيات والقانون الدولي المتفق عليه من تجريم للأبارتهيد وإدانة للفصل بين الناس على أساس عرقي، أو ديني، فإن الأحرى في من يعاني أشكالاً متعددة من الاضطهاد أن يعتمد هذا التكتيك، الذي لا ينتظر بالضرورة حكومات المجتمع الدولي أن تصحو من غفوتها وتبدي دعمها للشعب الفلسطيني! ما ميّز حركة البي دي أس (المقاطعة) كان أنّها خاطبت الضمير الفردي لكل مواطن من أستراليا إلى الهند، إلى مصر، إلى أوروبا، والولايات المتحدة. كل فرد أصبح يشعر بأن لديه مسؤولية أخلاقية إنسانية، وأنه/ا بممارسته/ا حقّ الاختيار في تجنّب شراء البضاعة المصنوعة في ج.أ، أو مقاطعة مغنّ أبيض من نفس الدولة، أو عدم السماح لفريقه الرياضي باللعب ضد فريق أبيض عنصري، أو السماح بتعاون جامعته مع جامعة بيضاء، فإنّه يسهم في القضاء على نظام مضطهِد معادٍ للانسانية.
وهنا تكمن قوة نداء المقاطعة الفلسطيني الصادر عام 2005 عن أكثر من 170 مؤسسة مجتمع مدني، الذي يتمحور حوله الآن إجماع فلسطيني غير مسبوق. وبقراءة متأنية لهذا النداء الشهير، يستطيع المرء منّا أن يرى الدروس الكبيرة التي تعلمها الفلسطيني من أخيه الج.أ، وبالأخصّ مواجهة المجتمع الدولي بواجباته، والشرعية التي يدّعي أنه يقوم على أساسها، وتتلخص في إنهاء الاحتلال الاستيطاني، وتطبيق قرار الأمم المتحدة 194، وإنهاء السياسات العنصرية الممأسسة ضد فلسطيني/ات 48! وهكذا فإن تشكيل اللجنة الوطنية للمقاطعة قد أعاد النضال الفلسطيني ضد احتلال عسكري مباشر، وتطهير عرقي ممنهج، وتفرقة عنصرية بغيضة، إلى أبجدياته، التي كانت قد أصابها الكثير من الضرر نتيجة مغامرات سياسية غيرمدروسة، ليس هنا مجال الحديث عنها. وبالتالي جرت العودة إلى التعريفات الرئيسية التي لا تميّز فئة فلسطينية على حساب الأخرى. وعلى نحو واضح فإن انسحاب قوات الاحتلال من المناطق التي احتلتها عام 67 لا يعني بالضرورة أنّ حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني قد جرى تطبيقه، حيث إنّ سكان الضفة والقطاع لا يشكلون سوى ما يقارب ثلث الشعب الفلسطيني، وهم، بالتالي، مكوّن رئيسي من الشعب الذي لا يكتمل تعريفه إلا بإحقاق الحقوق الشرعية للثلثين الباقيين: اللاجئون/ات وفلسطينيو/ات 48. وهنا بالضبط تكمن أهمية اللجنة الوطنية للمقاطعة، من حيث كونها جزءاً رئيسياً من الأدوات النضالية الفلسطينيةـ التي تتعامل مع حق تقرير المصير على نحو غير مجزَّأ، وكما نصّت عليه الشرعية الدولية. وبناءً عليه، فإن المقاطعة في حالة اشتباك مستمر مع إسرائيل حتى تطبيق المطالب الثلاثة على نحو كامل: لا مفاوضات بين (الطرفين) ولا هدنة طويلة الأمد!
أنا أدعو إلى مقاطعة إسرائيل، إذاً، لأنني فلسطيني من غزة، لاجئ من قرية زرنوقة قضاء الرملة. أرغب في العودة إلى فلسطين، وفي أن أعامل كمواطن له حقوق وعليه واجبات، كأي مواطن/ة أخر/ى بعد عودتي. وحقي هذا لا يمكن تجزئته، حسب فهمي لحق تقرير المصير، وحسب نداء المقاطعة الفلسطيني. وبالتالي فإنّ لديّ حقاً على المجتمع المدني الدولي أن يتضامن معي، من حيث كوني صاحب الأرض الأصلي. ومُضطهَداً من قبل احتلال استيطاني عنصري على نحو يخالف الأخلاقيات والمثل الإنسانية العليا، والحد الأدنى من الشرعية الدولية كما عُرِّفت بعد الحرب العالمية الثانية. وبسبب الفجوة الهائلة في موازين القوى بين المضطهِد والمضطهَد، والخلل الكبير في الدعم الذي تقدمه القوى الكبرى، فإنّ لدي حقاً على المجتمع الدولي المدني بأنديته، أحزابه، مساجده، كنائسه، نقاباته، جامعاته، فنانيه، مثقفيه، طلابه... أن يتخذ القرار الأخلاقي الذي يقدر عليه، ألا وهو ما فعله ضد نظام التفرقة العنصرية: المقاطعة وعدم الاستثمار، وفرض عقوبات على إسرائيل حتى تنصاع لقرارات الشرعية الدولية كاملة!
لأنني أؤمن بحقي الكامل في الحرية والعودة والمساواة، فإنني أقاطع!
* عضو اللجنة التوجيهية للحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل