وكأن الانتخابات تجري لأول مرّة في لبنان! هكذا هو الأمر منذ عام 1992. أي منذ تحول مركز ثقل القرار إلى «مجلس الوزراء مجتمعاً»، ومركز تكوين السلطة إلى المجلس النيابي. قبل ذلك كانت التوترات تدور حول رئاسة الجمهورية، وتحديداً حول مسألة التمديد لدورة ثانية للرئيس، لا يجيزها الدستور إلا بتعديل الدستور نفسه، وعلى طريقة الاكراه أو وفق مبدأ «أبغض الحلال» في أحسن الأحوال. ذلك أنّ رئاسة الجمهورية كانت هي مركز القرار عبر رئيس «يحكم ولا يلي الأحكام»، أي لا يُسأل ولا يُساءل، ولا يُحاسب طيلة فترة ولايته!ومع ذلك، ورغم تبدل الأحوال، والظروف، ومعطيات، وتوازنات الداخل والخارج، ورغم استمرار اجراء الانتخابات بشكل دوري (إلّا في مرحلة الحرب الأهلية)، لم يعرف لبنان استقراراً للعملية الانتخابية ولا، خصوصاً، للقانون الذي يحكمها. أي أنّ لبنان لم يراكم، طيلة سبعة عقود من الاستقلال، في مجال تكريس عملية انتخابية متطورة ومستقرة، وفي بلورة قانون انتخابي مقنع ومساهم في تأمين الحد الأدنى من صحة التمثيل، وبالتالي من الثبات والاستمرارية والاستقرار التشريعي والسياسي، رغم أنّه راكم في مجال اتقان اللعبة التصويتية: تزويراً، وسوء استخدام سلطة، وتعبئة غرائزية، وشراء ذمم، وتدخلاً خارجياً.
ولقد تفاقم الطابع «التأسيسي» للعملية الانتخابية، خصوصاً، منذ انهاء الدور السوري في إدارة الشؤون اللبنانية عام 2005. ولم تكن التسويات التي حصلت سوى أشكال من الهدنة الموقتة في صراع كان يتعاظم في الداخل وعلى الصعيد الاقليمي، حتى بلغ ذروته بعد اندلاع الأزمة السورية في مطلع ربيع عام 2011. ذلك أنّ الدور السوري، وطيلة خمسة عشر عاماً، قد حلّ محل دور رئيس الجمهورية في سلطة ما قبل «الطائف». وهذان الدوران، وبأشكال دستورية أو واقعية، كانا يمثلان قوة السلطة القادرة على حسم الأمور ولو على زغل. هذا الأمر تغيّر بعد تعديلات الطائف وبعد الانسحاب السوري عام 2005. وهو تغيّر إلى حدود غير مسبوقة بعد انفجار الصراع الحالي في سوريا، كما أسلفنا.
بالعودة إلى أسباب هذا الخلل أو الوضع الشاذ، لا بدّ من العودة إلى مشكلة الانقسام بين اللبنانيين حول الأساسيات. والأساسيات تلك هي التي من شأن التفاهم عليها توفير الحدّ الضروري من التوحّد الوطني والحصانة الداخلية. في فترة الحرب الأهلية تكرّرت عبارة شهيرة لمؤسس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل. وكانت جريدة «العمل»، الناطقة باسم الحزب تكرّر آنذاك، وبأسلوب رئيس تحريرها جوزيف أبو خليل عبارة: «أيّ لبنان نريد؟». هذا السؤال الذي استمر كمادة سجال وصراع حتى يومنا هذا، انطلق في مراحل مبكرة، حتى منذ ما قبل الاستقلال. وهو ما زال دون جواب حتى يومنا هذا. نجم عن ذلك عجز، يتفاقم دائماً، عن بناء دولة موحدة وحصينة. ونشأت بالمقابل دويلات تعبر، ولو جزئياً، عما يريده كل فريق. وفي السياق، برز تقدّم الولاء الفئوي على الولاء للوطن. وبرزت الهوية الطائفية والمذهبية على حساب الهوية الوطنية الجامعة والشاملة.
وفي العودة إلى الأسباب أيضاً، لا بدّ من تتبّع أثر العامل الخارجي في القرار اللبناني العام. هذا العامل «تأسيسي» هو الآخر. وهو سبب ونتيجة في الوقت نفسه. إنّ رعاية وتكريس وتأجيج الانقسام بين اللبنانيين قد كان أمراً حاضراً دائماً منذ أواخر حكم الاستعمار العثماني. وهو أثمر تسويات موقتة، وهشّة، ومفخخة. وتكرّس ذلك في النظام السياسي الطائفي، بثبات أسسه وتغيُّر وتبدل توازناته. ولقد بات الاستقواء بالدور الخارجي عاملاً داخلياً في اكتساب الأدوار أو المحافظة عليها، أو إعادة النظر فيها. وفي صراع اقليمي عاصف، هو بالأساس صراع كوني على مصادر الطاقة والثروات الطبيعية والموقع الجغرافي، تداعت الانقسامات بشكل مخيف حتى وصلت إلى الصورة المذهبية التي هي عليها اليوم، ليس في لبنان وحده بل في المنطقة العربية والاسلامية بشكل عام.
الصراع الدائر حول صيغة قانون الانتخاب، ودوائره، وطبيعته هو صراع يتعدى إذن الحصص والتوازنات، ولا يتعامل معها إلّا بوصفها أداة لإزاحة مفهوم أو لتكريس آخر. ولا بدّ، في هذا الصدد، من التحذير من عودة مشاريع الغلبة التي سُمي بعضها «انتحارياً» في مرحلة من المراحل. والغلبة المقصودة هنا، هي تلك التي تنطلق من حسابات خارجية خصوصاً، لإقامة سلطة مهيمنة مستبدة ومستأثرة، لا يمكن أن تقوم (إذا قامت) إلّا على ركام من الجماجم، والحراب، والمآسي، والضياع، والتضييع. والأمر المهم الذي ينبغي لفت الانظار إليه هو أن هذا الجموح الشاذ، لا يمكن أن يتمّ إلّا من خلال النظام الطائفي ــ المذهبي الراهن، ومن داخل هذا النظام بالذات. إنّه حلم يراود كلّ «الشركاء» في تحاصص الوطن، لكنّه عاجلاً أم آجلاً، كابوس بالمعنى الحرفي، والصافي، والعملي للكلمة!
لقد لامس «اتفاق الطائف» لعام 1989 هذه المشكلة. وهو وضع لها آلية افتقرت، بعد التعديلات الدستورية التي ثبّتتها، إلى الصيغ التنفيذية الضرورية. السبب كان، أيضاً، في الدور الخارجي (السوري آنذاك)، وفي الفئوية الداخلية، حيث استمرت طبقة طفيلية في السياسة أيضاً، باستخدام مخاوف وغرائز وعواطف المجموعات اللبنانية سبيلاً إلى استقطابها، وإلى توظيفها في لعبة المنافسة والصراع على الأدوار والمواقف. وهكذا لم يبقَ من تعديلات الطائف إلّا «المناصفة» التي يتذكر بعض السياسيين من وقت لآخر بأنها موقتة، عندما يريد المناورة أو ممارسة الضغط أو حتى الابتزاز. إنّها، غالباً، تُستخدم ككلمة «حق يراد بها باطل». ولذلك، وخلافاً لنصّ ومحتوى نصّ الدستور، جرى تحويل الموقت إلى دائم. وجرى تفويت فرصة لتحرير اللبنانيين ونظامهم من الانقسام الطائفي، أي من استخدام الدين والايمان في أبشع صور القفز إلى المواقع السياسية، أو المحافظة عليها.
المطلوب اليوم ردّ شعبي ــ سياسي بحجم المخاطر المحدقة بلبنان، وهذا الردّ لن يأتي إلّا من خلال قيام مشروع وطني تتجند وتتأطر في سياقه جهود كتلة كبيرة من اللبنانيين في عملية نضالية شاقة، لا بأس من أن تنطلق من وقف مهزلة تجاهل الدستور ومن وقف مجزرة تشويهه، وذلك بهدف وقف هذا الاندفاع الفئوي الخطير بلبنان واللبنانيين نحو الهاوية وبئس المصير!
*كاتب وسياسي لبناني