لا يكاد المشهد اللبناني يختلف في شيء عن مشهد عصفورية مفتوحة! هذا ما تبدو عليه الصورة الآن، حيث يحتدم النقاش بشأن قانون الانتخابات، وهذا ما يتكرر في كل مرّة (كلّ أربع سنوات) يطرح فيها الموضوع للنقاش، وخصوصاً بعد زوال الوصاية أو غياب الرعاية الخارجية عن لبنان. لكن الأمر ليس كذلك فقط: إنّه أسوأ من ذلك أيضاً! فالجموح الفئوي يبلغ الآن ذروة غير مسبوقة. وهكذا لم يعد أحد (أو الأكثرية) يتحرّج في اعتماد تعبيرات وممارسات طائفية ومذهبية صرف. البعض يعلن ذلك بطريقة استفزازية ووقحة، والبعض الآخر يعلنها بطريقة أكثر نعومة... وما بدلوا تبديلا! إنّ المصالح الطائفية والمذهبية، هي في أول الأمر وآخره مصالح فئات وجماعات سياسية لا تتورع عن إحراق غابة من أجل إشعال
سيجارة!
ونتيجة ذلك، يزداد لبنان ضعفاً في تماسكه، واستقراره، ووحدته الوطنية. وهو بالنتيجة، أيضاً، معرض لانكشاف أمني خطير موصول بالاحتراب، والفوضى والشّلل، والضياع عندما تتطلب، أيضاً، المصالح الخارجية ذلك.
وسط هذا التدهور المفزع، لا مكان، تقريباً، إلّا للتذكير ببعض البديهيات في ما يتعلق بالقضايا المطروحة، ومنها قانون الانتخاب. الأصل في وضع قانون للانتخاب أن يضمن صحة التمثيل، وأن يكون صالحاً لفترة تاريخية تمتدّ بالضرورة لأكثر من عقد من الزمن على الأقل. وقد تملي المستجدات أن يطرأ تعديل على القانون، فيحصل ذلك بشكل طبيعي، ودون أن يؤدي إلى إشغال البلاد، والعباد، والأشقاء، والأصدقاء... وإلى عقد المؤتمرات الإقليمية والدولية في «الدوحة» أو في فندق «النجمة» ذي الخمس نجوم، الذي لا يبعد أكثر من مئة متر عن مقرّ مجلس النواب اللبناني!
وصحة التمثيل، وإن كانت على صلة بالواقع الملموس في البلاد، إلّا أنّها تتخطى بالضرورة المصالح المحددة، الفئوية، لهذا الطرف أو ذاك، في هذه المرحلة أو تلك. إنّها إذن، تستوحي مبادئ عامة في بيئة معيّنة، ولا تخدم مصالح خاصة في كلّ مرحلة حسب الظرف والتحولات، وتوازنات القوى، وتحالفاتها، وعلاقاتها، كما يحدث عندنا.
والأمثلة في هذا الشأن عديدة. ولا بأس من ملاحظة أنّ الإسرائيليين، أعداءنا، يستطيعون الذهاب إلى الانتخابات عند كلّ أزمة سياسية أو أزمة تمثيل. وهم يذهبون غالباً، مبكراً. ولم يصدف يوماً، أن اصطدمت رغبتهم في إجراء الانتخابات أو في تقديم موعدها بعائق قانون الانتخابات الذي يبقى سارياً، لأنه يبقى صالحاً، في نظر الجميع ولمصلحة الجميع دون تمييز أو تفريق أو أفضليات.
في نظام المحاصصة الذي اعتمدناه أسلوب حكم وإطار علاقات، لم نستطع أن ننتج نظاماً انتخابياً متحرراً من المحاصصة. وكان الوضع يتدهور باستمرار بمقدار ما ترسَّخ التقاسم أو تعذّر التفاهم على الحصص والنسب وفقاً للمتغيرات، وبمقدار ما تعززت الفئوية واكتسبت المزيد من الشرعية الرسمية والمشروعية الاجتماعية. وهكذا، مثلاً، أصبح القانون خادماً للمحاصصة ومكرّساً لها، بمقدار ما أصبح، أيضاً، جزءاً منها، هو، بالضرورة، أيضاً، جزء من التجاذب على بناء التوازنات والمعادلات أو تعديلها، وبالارتباط دائماً بالعامل الخارجي، الحاضر بقوة باتت حاسمة في إرساء المعادلات الداخلية أو في تغييرها.
هذا هو الأساس في صياغة القوانين الانتخابية في لبنان. أما النصوص الدستورية، فتتعرّض دائماً لأبشع أشكال التشويه، والتبديل، والحذف، والضمّ وفقاً للمصالح والأهواء. وهكذا لا يندر أن ينسب إلى الدستور ما ليس فيه. وكذلك أن تُختزل أو تُجتزأ النصوص، وأن يتحوّل الدائم إلى موقت والموقت إلى دائم. هذا رغم أنّ النصوص مكتوبة وواضحة، وأحياناً، حاسمة لا تقبل اجتهاداً أو تفسيراً!
ولا بأس من التذكير بالنصوص الدستورية التي تحكم قانون الانتخاب في المبدأ وحتى في التفاصيل:
_ «لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية المعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمييز أو تفضيل» (مقدمة الدستور).
_ «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية» (مقدمة الدستور)
_ «لكلّ لبناني الحقّ في تولي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلّا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينصّ عليها القانون» (المادة 12).
_ «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية» (المادة 22).
_ «يتألف مجلس النواب من نواب منتخبين يكون عددهم وكيفية انتخابهم وفقاً لقوانين الانتخاب المرعية الإجراء. وإلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزّع المقاعد النيابية وفقاً للقواعد الآتية:
أ_ بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين.
ب_ نسبياً بين طوائف كل من الفئتين
ج_ نسبياً بين المناطق (المادة 24)
_ «على مجلس النواب المنتخب، على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضمّ بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب رئيس مجلس الوزراء وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.
مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية» (المادة 95).
إذا قرأنا هذه البنود وفق تسلسل ورودها في النصّ الدستوري أو بالعكس، بدءاً من المادة 95 (وهي الأخيرة)، تبيّن لنا بسهولة، ولكلّ غير ذي غرض أو مرض، أنّ مضمونها هو الآتي: كان يجب على مجلس النواب الذي خضع للمناصفة في انتخابات عام 1992، أن يباشر منذ عام 1996 في إقرار آلية إلغاء الطائفية السياسية، وفي وضع قانون انتخاب خارج القيد الطائفي وفي تشكيل مجلس شيوخ تحال عليه المناصفة الطائفية بصلاحيات «محصورة».
كل ما عدا ذلك هرطقة، وخداع، ونفاق، وتزوير، وتأجيل، ومماطلة، وتشويه وتفريط... بهدف إبقاء القديم على قدمه وتحويل الموقت إلى دائم، كما قبل الحرب الأهلية، الأمر الذي كان أحد أسباب قيامها عبر نظام الامتيازات والتمييز بين اللبنانيين. وهذه النصوص، وهذا الاختصار كما أوردناه دون تلاعب أو تحايل، هو الذي يجب أن يوجّه مساعي وضع قانون جديد، وكذلك مواقف رئيس الجمهورية ومجلس النواب.
لكن كالعادة، تتقدّم المصالح الخاصة على المصالح العامة، وتنتصر الحسابات الفئوية على الاعتبارات الوطنية. والثمن يستمرّ بدفعه المواطن اللبناني من حقّه في المساواة التي لا ضمانة سواها، والوطن الذي يستمرّ في وضع غير مستقرّ، وغير موحّد، وغير حصين، وغير سيّد: وطن معلّق على قارعة المصالح الصغيرة والفئوية، الداخلية والخارجية.
* كاتب وسياسي لبناني