يسوّق الملك الأردني عبد الله الثاني رؤيته حول إصلاح يلتزم بنهج اقتصادي يقوم على نهب مقدرات الوطن التزاماً بسياسات صندوق النقد الدولي، وبرامج الخصخصة المدمرة عبر «ديموقراطية متجددة» طرحها للإعلام في ورقة نقاشية أولى، قبيل الانتخابات البرلمانية المنوي إجراؤها في الثالث والعشرين من الشهر الحالي.نقاش يُفترض «قيامه» بين نِدّين؛ غير أنّ الأردنيين سينعمون بمقالات تعجّ بها صحافة مرتهنة لمركزي النظام: القصر والاستخبارات، إذ تنثر المدائح والتقريظ والإنشاء المكرور حول رؤيا الملك ونفاذ بصيرته، ولن يحظى أردني بقراءة نقدية واحدة لورقة مضلّلة لافتراضها انعقاد الحوار المنشود بين مكونات الشعب، فيما الحقائق والمعطيات على الأرض ترسم حلفاً واضح المعالم لطبقة حكم فاسدة تعادي جموع الجياع والفقراء والمسحوقين. 
وتسعى الورقة الملكية إلى ترويج الأوهام ذات الصلة بـ«إمكانية نقاش الفقر والبطالة، وتحسين خدمات الرعاية الصحية والتعليم والمواصلات العامة، والحدّ من آثار الغلاء، ومحاربة الفساد بأشكاله وإهدار المال العام»، رغم أنّ بنية النظام ونهجه الاقتصادي وتحالفاته الدولية لا تنتج غير الفساد والإفقار.
يعاقب النظام الأردني شعبه مرتين من خلال تقيّده الحرفي بسياسات اقتصادية تديم مجموعة محتكرين تمتلك الوكالات والاستثمارات في الداخل، وأسّست لشراكة مالية مع أجهزة الأمن، التي قمعت المحتجين على رفع الأسعار في «هبة تشرين» الأخيرة (الاحتجاجات التي شهدتها المملكة في 14 تشرين الثاني الفائت، وأدت إلى سقوط شهيد واحد، وأكثر من 250 معتقلاً).
وإذا كان التحوّل الأخطر في تاريخ المملكة قد بدأ منذ عام 1989 حين جرت مقايضة الجماهير الغاضبة على غلاء الأسعار بانفراج سياسي، شهد انتخاب مجلس نواب بقانون مقبول نسبياً، لقاء اعتراف الأحزاب السياسية التي كانت محظورة بشرعية النظام وهو جلّ ما تملكه في ذلك الوقت، فإن ربع قرن مضت على هذه التسوية «الملتبسة»، أنتجت جملة وقائع على الأرض.
لقد شهد الأردن واقعاً أسهمت فيه قوى تدّعي الإصلاح ـــ عقب نضالها عقوداً بهدف تغيير النظام ـــ لتتحول إلى أحزاب تدعو إلى إصلاح سياسي، وتنادي بمطالب مبسطة ومسطحة في آن واحد لتحسين الاقتصاد وقانون الانتخاب، بينما أصبحت جزءاً لا ينفصل عن بنية النظام، بل وتسهم في تحسين شكله عبر ترويجها بصورة المعارضة أمام الرأي العام الدولي.
على وقع انطلاق الحملات الانتخابية، يفترض عبد الله الثاني أنّ «التنافس بين المرشحين لن يكون من أجل منصب يصلون من خلاله إلى مجلس النواب لحصد امتيازات شخصية، بل هو تنافس من أجل هدف أسمى، ألا وهو شرف تحمّل المسؤولية»، وهو بذلك ينهي الجدل حول عدم قانونية حلّ المجلس السابق ـــ بحسب خبراء دستوريين ـــ وكذلك تمرير قانون انتخابي لم يحظ باجماع شعبي ومثّل خديعة لجماهير غاضبة أخرجها الجوع للاحتجاج لا بسبب عوزها لمجالس نيابية محكومة من القصر والأمن.
ولم يلتفت ـــ أيضاً ـــ رأس النظام إلى المقاطعة الحزبية والشعبية لهذه الانتخابات، وعدم الإيمان بجدواها (وخاصة بعد هبة تشرين)، وغابت عن باله جميع التجارب السابقة التي ابتلي بها المواطنون في برلمانات 93-97-2001-2003-2007-2010 سواء من ناحية تزوير الانتخابات أو رهن البرلمان بنوّاب يبصمون على جميع القوانين، التي دمرت الاقتصاد، إضافة إلى إقرار (اتفاقية السلام/ وادي عربة).
ويمعن العاهل الأردني في تقمّص دور «الحَكَم» بين السلطات والشعب، متناسياً أنه تخلّى عن هذا الدور، بعدما شهد عهده بيع مقدرات الدولة، ورعاية للفاسدين وتغطيتهم ـــ بغض النظر عن تشكيل هيئة مكافحة الفساد ومنجزاتها الشكلية ـــ وتقديم النظام خدمات أمنية إلى دول الخليج وإرسال قوات الدرك لقمع المتظاهرين هناك لقاء أموال لا تدخل خزينة الدولة، وتتحصلها شركات يتولى إدارتها (بصورة شكلية) ضباط أمن سابقون، بحسب تقارير إعلامية عديدة. وتكريساً لحكم ملكي مطلق يواصل جلالته التأكيد على أنّ «ورقة النقاش هذه خطوة على الطريق» ستضاف إليها مجموعة أوراق ستنشر خلال الفترة المقبلة، مشيراً في ورقته إلى مقابلة أجراها مع صحيفتي «الرأي والجوردن تايمز» الأردنيتين، تفصّل رؤيته لمستقبل الديموقراطية وخارطة الإصلاح التي لا ينازعه عليها أحد.
ويصرّ على أنّ الانتخابات النيابية المقبلة، المقررة في 23 كانون الثاني، هي «إحدى المحطات الأساسية على خارطة الإصلاح السياسي، لإنجاز الديموقراطية»، التي تفتقر ـــ واقعياً ـــ إلى كلّ شروطها التي تستوجب شيوع الثقة بين المحكوم والحاكم، التي لا تتأتى عبر صناديق الاقتراع، بل عبر الاعتراف بالأخطاء التي قادت مواطنين في محافظات نائية إلى الاحتجاج على حياتهم المسحوقة وفقدهم فرصة العمل، فيما شركات الفوسفات والبوتاس ـــ التي تجاور سكناهم ـــ قد بيعت بأزهد الأثمان إلى مستثمرين أجانب في صفقات مشبوهة.
ورقة الملك تشير إلى استمرار الحوار والنقاش حتى تنجح الديموقراطية! أيّ حوار والمواطن يعرف مصير مقررات لجنة الحوار الوطني التي أنشئت منذ عام ونصف عام، وألقي أغلبها في سلة المهملات، ومن قبلها توصيات لجنة الأجندة الوطنية التي أسست لتكون عنوان التغيير خلال عشر سنوات مقبلة، وحفظ تاريخ تشكيلها عام 2005 وتوصياتها في متحف النسيان.
ويتمنى الملك على رعيته (التي سجلّت أسماءها في كشوفات الناخبين) أن يبادروا للتصويت على أساس مواقف المرشحين لا على أساس العلاقات الشخصية، أو صلات القربى، رغم أنّ جولة واحدة في العاصمة الأردنية كفيلة باكتشاف فقر برامج المرشحين وانتماءاتهم إلى «نادي الحكم»، وتجلّت المفارقة بترشح 61 قائمة انتخابية يفوق عددها ضعف المقاعد المخصصة للدائرة الوطنية البالغ 27 مقعداً (فهل يعقل أنّ يتولّد هذا العدد من التيارات والاتجاهات السياسية في المرة الأولى التي يقرّ خلالها قانون القوائم).
حقيقة وحيدة يستخلصها المتابع بأنّ البرلمان المقبل لن يصمد بالنظر إلى ولاء نوابه المطلق لجميع سياسات النظام.
ويستنكر الملك في ورقته النقاشية شكلاً مختلفاً من هذا الولاء، فلا مكان لـ«التصلب في المواقف، والعنف، والمقاطعة التي لا تقود بالضرورة إلى النتائج المرجوة»، فما يشهده الأردن، بحسب ملكه، مجرد «اختلافات في الرأي»، وعلى الجميع العمل من أجل تجاوزها وإعادة عربة الديموقراطية إلى مسارها الصحيح.
ومطمئناً إلى توصيفه شكل الديموقراطية المنشود، يعتقد الملك أنّ ما نحتاج إليه بالتزامن مع انطلاق الحملات الانتخابية، هو تطوير ممارسات ترتبط بمفهوم المواطنة الصالحة، ما يبدو فضفاضاً وملتسباً، لأنّ أساس المواطنة ـــ التي لا تقاس بالصلاح حتماً ـــ يستند إلى الحقوق، ولا مجال للحديث عن الواجبات في حال تغيبها.
أربعة مبادئ وممارسات أساسية لا بدّ أن تتجذر في سلوكنا السياسي والاجتماعي حتى نبني النظام الديموقراطي الذي ننشد، وفق الورقة الملكية، وتقوم الأولى على احترام الرأي الآخر أساس الشراكة بين الجميع، وتستدعي حديث الوحدة التي تسمو فوق الاختلافات العرقية أو الدينية، متجاهلةً الاختلاف الجذري بين طبقيتي الحكْم والشعب: النهب المنظم والمسلوبين.
وتفترض الورقة أنّ «المواطنة لا تكتمل إلا بممارسة واجب مساءلة الحاكم»، في تعمية على سلطة لا تكفل هذا الحق ابتداءً من وضع المعوقات أمام تداول المعلومات وليس انتهاءً بسوق اتهامات تقويض النظام والتجمهر غير المشروع للمحتجين على هذه السلطة، التي ما من إجماع شعبي حولها ولا حول نهجها الاقتصادي وتحالفاتها الدولية. ومتجاوزاً شعارات إسقاط النظام، يؤكد الملك أنّ الاختلاف لا يؤشر على وجود خلل، وليس شكلاً لـ«انعدام الولاء»، مكرساً بذلك مفهوم الولاء وسلوكه في بلد يرتدي الموالون فيه لبوس البلطجة ضد كل المعارضين، من خلال هيئات وشخصيات تستحوذ على دعم السلطة والتمويل الأجنبي، وترسخ ثقافة الخضوع للملك والاعتداء على خصومه في الشارع والحصول على مكاسب في الدولة يحدّدها حجم هذا الولاء.
ويرى جلالته أنّ «أكثر أفراد المجتمع فضلاً هم الذين يبادرون للتضحية في سبيل الصالح العام، وهؤلاء، الذين يؤثرون على أنفسهم، هم من يرسخ في الذاكرة الوطنية»، مقدماً رؤيته هذه في سياق بحثه عن حلول توافقية، ما يستدعي التساؤلات عن التضحية التي بذلها جلالته حين أصرّ على إجراء الانتخابات رغم المعارضة لها، وعن التضحيات التي قدّمها عبر المضي بنهجه الاقتصادي التدميري أو في معاقبة الشعب على «هبّة تشرين» والاكتفاء بتناول الغداء مع قوى إصلاحية مترهلة، حالماً بصناعة بديل يساري لتحالفه السابق مع الإخوان.
وعلى طريقة المشايخ، تُصدّر الورقة فتوى ملكية تحرّم التظاهر الذي يعدّ في نظره «أداة اضطرارية، لا يتم اللجوء إليها إلا كخيار أخير، ولا يصحّ المسارعة إلى تبنيها فيتعطل الحوار، ويغلق باب التواصل».
ويطمح جلالته ـــ في الختام ـــ إلى بلورة إحساس جمعي بالكرامة والاعتزاز بما ننجزه معاً كشعب واحد، وفي اليوم ذاته تُصدر جهة حكومية (وزارة التخطيط الأردنية) دراسة تشير إلى ارتفاع معدلات الفقر إلى حدود 14.4 % من مجموع الشعب، بالرغم من تشكيك جهات عديدة في صحة هذه الأرقام التي تتعدى ـــ بحسبها ـــ هذه النسب بكثير.
ولا يفوت صاحب الورقة النقاشية دعوة شعبه إلى «تبني المبادئ والممارسات الديموقراطية التي عرَضها، فهي تمثل اجتهاداً لترسيخ سلوكيات المواطنة الصالحة المؤمنة بالديموقراطية نهج حياة»، وعلى ضوء هذا الخطاب لا يجد المرء مكاناً لجميع الطروحات الإصلاحية، سواء تلك التي قدّمتها قوى وفعاليات حزبية أو وجاهة للاحتجاجات الشعبية.
نقاش في فضاء متخيل يُعمّد الداعي له محتكراً للحقيقة، وحكماً بينه وبين خصومه، ومحاوراً أفكاره وحدها، ومخلّصاً لشعبه الذي يجبر على تصديق كل ذلك فلا يعدو لنقاشه معنى! 
* كاتب أردني