بالأمس غاب محمود الأسود. بغيابه طويت حكاية من حكايات منطقة باب التبانة في طرابلس، تلخّص بطريقة خاصة تاريخ المنطقة وصراعاتها ونضالاتها.. بطولاتها الأسطورية في مساحة ضيقة من بضعة أحياء، ومآسيها الكثيرة التي تضاهي مآسي أوطان وأمم. فأبو عبد الله اسم يختزن ذاكرة المحلّة، من ستينيات القرن الماضي، مروراً بالسبعينيات، فالثمانينيات التي خلّفت جروحاً ما زالت تتفاعل حتى اليوم. عايش أبو عبد الله علي عكاوي في صراعه ضد الإقطاع والتسلّط السياسي، ورافق شقيقه خليل في مختلف مراحل الصراع التي عاشها حتى اغتياله عام 1986. وتنقّل بين التيارات السياسية يوم لم يعد للنضال معنى متجسّد في حراك شعبي تغييري يحمل شعارات الثورة.. حاله حال غالبية المناضلين الذين قضى تراجع الواقع الثوري، على المستوى العالمي، على اندفاعتهم.«عمّ تتحدث؟» قد يتساءل بعيدون عن واقع المدينة، وتحديداً عن منطقة باب التبانة من الداخل، وهي ليست سوى منطقة من مناطق لبنان، وشبيهة بكثير من الأحياء المكتظة بالفقر والإهمال: تتكاثر الأعداد البشرية، وتتفاقم المعاناة على كل المستويات، يغيب الاهتمام، الرسمي والخاص، وتغيب البنى التحتية ومظاهر العمران والتطور والتحديث بعد مرور أكثر من قرن على نشوئها. فلماذا تكون حكايتها مختلفة، ولماذا تتجسّد بـ«أبو عبد الله»، فكثيرون من أبناء جيله لا يزالون أحياءً يرزقون، لكنّ المفارقة تكمن في الحديث عن منطقة مختلفة بتمايزاتها وتاريخها وطبائع سكانها.. حياتهم مختلفة، وانفعالاتهم مختلفة، وتطلعاتهم مختلفة أيضاً.
من هنا، يكتنف الغموض باب التبانة، المنطقة الأكثر جدلاً، وتكثر التساؤلات حولها كأنها ولدت للاشتباك والمواجهة. منطقة شعبية صغيرة، لكنها تتصرف كأمة بحدّ ذاتها، أطفالها ينشأون على البطولة، منذ نعومة الأظفار يبحثون عن الميثولوجيا، وباللاشعور ينمو فيهم التمرد. قد يكون موتاً مجانياً، غير مهم، ففي تمرد تلك الأحياء نمطية غير اعتيادية. للوهلة الأولى تشعر بالشرذمة والانقسام وتعدد الولاءات، وفي لحظة استشعار الخطر، تخرج من التفكك لتصبح جسماً واحداً للذود عنها، فالجنازة والزفاف واحد، سيان الأمر: «المهم ما حدا يكسر راسنا».
منذ فترة أصبحت باب التبانة سبقاً صحافياً، ويتبارى فيها كل مبتدئي الإعلام والصحافة، وكلٌ يكتب على مزاجه، ولكن تبقى باب التبانة حكاية غير كل الحكايات. فهذه الرمزية لم تأتِ من فراغ، ولا هي وليدة الصدفة، ولا هي حدث عابر، هي تراكم نضالات، وصولات وجولات.
إن منطقة باب التبانة تقع على المدخل الشمالي لطرابلس، عادةً تتشكل مناطق الأطراف من عموم الوافدين من الريف، الساعين إلى تحسين سبل العيش، وإلى نيل قسط من التعليم. بين الفقر والأميّة، والمساكن غير المستكملة البناء تتشكل أحزمة البؤس، فبالاندماج بين الوافدين من الريف وأبناء المنطقة تتكوّن فئة ممزوجة من الطيبة والقوة، والتمرد والأمل، هذا يجعلها بيئة حاضنة لتوليد الحركات النضالية، وملتقى للأيديولوجيات الثورية، وأرضاً خصبة لإنتاج قادة ثائرين.
منذ الخمسينيات وهي تقارع السلطة وتعايش الأحداث. بيئة تراكمت فيها عوامل كثيرة. فهذا القدر من التضحية ليس مصادفة، ولا الفوارق الاجتماعية تجعل هذه القوة الرمزية، فالإحساس بالمسؤولية له أسباب أخرى. في باب التبانة فقط يولد المرء ثائراً.
في صبيحة 15 حزيران 1973، قتل المناضل علي العكاوي في أحد السجون اللبنانية في ظروف غامضة، والأرجح جرى التخلّص منه. اعتقدت السلطة أنها أنهت ملف باب التبانة المشاغبة والمتمردة لتعيدها إلى بيت الطاعة. شيّع الشهيد في جنازة مهيبة. حمله الفقر بنعش مكلل بالغضب والثأر، وبينما كان الشهيد يوارى في الثرى كان شقيقه خليل يحمل الراية، ويشعل الفانوس مجدداً لتظل أحياء باب التبانة مضيئة تنير درب المحرومين، وحناجرها تهتف عند عشية كل ليل دامس، تسمع فيه أنين وصرخات المحرومين، وليكون اسمه صرخة احتجاج يصرخها المجروحون عند كل إطلالة فجر. كان مقتل علي بداية الطلاق بين أهالي باب التبانة والسلطة. مثّل علي إرهاصات أولية لكوكبة من المناضلين سينطلقون بعده. وما مواجهته مع السلطة عام 1970 إلا محطة في سلسلة تحركات نضالية _ مطلبية. لم يكن فتى التبانة الأغر مغامراً محلياً، بل مناضلاً شمولياً يمقت الطائفية فساند فلاحي السهل العكاري عام 1969 في انتفاضتهم ضد الإقطاع، جلّهم من غير طائفته (يومها لم يكن للانتماء الطائفي أي اعتبار)، ومقاتلاً في صفوف المقاومة الفلسطينية، ولكن منطقة باب التبانة، وحالها المتردي، وفقرها المدقع دفع «علي» إلى الكفاح المسلح كوسيلة لتحسين الواقع المعيشي والصحي والتعليمي والإنمائي. حصلت مواجهة غير متكافئة أدت إلى اعتقاله ثم تصفيته، ترك إرثاً نضالياً حمله شقيقه خليل، الذي سيعمل على تطويره وتعزيزه، وبذلك تكرّست باب التبانة عاصمة للفقراء والمقاومة والتمرد ومنطلقاً للعمل النضالي، ونموذجاً للتحدي، وبيئة للحالمين بالتغيير نحو حياة أفضل. منذ ذلك الحين عرفت التبانة بمنطقة الغضب.
قبيل انفجار الحرب الأهلية عام 1975، أسّس خليل عكاوي «المقاومة الشعبية» كفصيل مقاتل في صفوف الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، وسرعان ما استقلّ عنهما ليعمل وفق رؤية مغايرة تماماً. فهو كان يرى في الحركة الوطنية والمقاومة نماذج مشابهة للأنظمة العربية، والبرنامج الإصلاحي الذي طرحه كمال جنبلاط ليس سوى تحسينات صغيرة في كيان مصطنع، والمقاومة ليست أكثر من ساعية إلى مساومات مع إسرائيل للحصول على حكم ذاتي في كيان مغتصب.
إن اختيار خليل عكاوي أسلوب الكفاح المسلح فجّر الخلاف مع اللجان الشعبية في منطقة باب التبانة، فاللجان تشكلت من نُخَب المنطقة، ومعظمهم كانوا أساتذة مدارس ومن تيارات سياسية مختلفة، آثروا الحركة المطلبية دون استخدام العنف فحصل الخلاف بينهم. وجاءت ظروف الحرب لتعطي الأرجحية لمنطق خليل، علماً أن الحركة الشعبية _ المطلبية ساهمت في بلورة الحركة الفكرية في المنطقة، وكانت في طليعة التظاهرات والاحتجاجات وقدمت أسلوباً حضارياً في مناهضة السلطة، وتركت فكراً سياسياً في باب التبانة. مع اندلاع الحرب الأهلية تلاشت فكرة اللجان، واستمر خليل في استكمال حركته «المقاومة الشعبية» التي مثلت الرافعة لإنشاء «حركة التوحيد الإسلامي» لاحقاً. بعد مواجهات محلية مع النظام السوري بسبب الإشكالات التي وقعت في طرابلس على خلفيات صراعات الحرب الأهلية، والدعم السوري للحزب العربي الديموقراطي (جبهة المواجهة الوطنية آنذاك)، اختبر خليل عكاوي أهمية مواجهة النظام السوري، ورأى أن ذلك يساعد على نهوض الأمة ويكسر حدود التجزئة ويلغي الكيان المفبرك، وفرصة لمزيد من التلاقي مع حركة التحرر المعارضة، وخاصة في الداخل السوري، لبلورة مشروع أكبر من المنظمات والقوى المحلية، أو لبلورة مشروع رديف لحركة الأمة، طالما أن لبنان ليس مركزاً، ولذلك كان يرفض الصيغة الكيانية. بدأ التناغم فعلياً إبّان أحداث حماه 1982 وهو، أي خليل، كان قد بدأ بالتفاعل مع الفكر الإسلامي عشية انتصار الثورة الإسلامية في إيران محاولاً إيجاد صيغة توفيقية بين الماركسية والإسلام. كان خليل يرى في الماركسية أداة علمية لتحليل طبقات المجتمع وتطورات التاريخ، ووجد أن الإسلام هو تراث الشعب ولغته وثقافته، لذا وجد الأثر الثوري والتعبير التعبوي في الإسلام كديمومة لمناهضة الظلم والاستعمار الغربي، ورأى أن المسجد يمثل حلقة وصل بين فئات الشعب.
انطلقت باب التبانة نحو رحاب العمل السياسي الشمولي، وبدأت بدخول اللعبة السياسية بقوة، كلاعب لا في الإطار الطرابلسي المحلي فحسب، بل أيضاً على مستوى الساحة. وكانت رافعتها علي، ومن ثم خليل عكاوي. فآل العكاوي وباب التبانة توأم لا تستطيع الفصل بينهما، وإذا تحدثت عن واحد فستذكر الآخر على نحو طبيعي. وكيفما بدأت تعود إلى الآخر. هذا المخاض والحراك أنتجا في باب التبانة جيلاً سياسياً واعياً. فمواكبة الأحداث لم تكن أمراً عفوياً، بل جزءاً من قوة المنطقة، وما قدمته من تضحيات ومشاركات وكبيئة حاضنة للمقاومات، وكتاريخ، نما على نحو طبيعي عبر عقود، لذا لم تعد المنطقة على الهامش، بل أصبحت جزءاً من التفاعل السياسي في المدينة. وجاءت النكبة الثانية، قتل خليل في 9/2/1986، لتدخل باب التبانة في غيبوبة قسرية، ويحصل الانقطاع التاريخي وتنكفئ باب التبانة بعد غياب خليل، ملهم المنطقة، واستكملت النكبة بمجزرة كبيرة وتهجير وسجن كل رموزها. لقد كان خليل عكاوي ورفاقه، أو باب التبانة، كتلة نار بوجه السلطات الجائرة، وحاول خليل حمل الجمرات الصغيرة مع رفاقه ليرجم هذه السلطات بها. وراح رفاق الدرب يتساقطون الواحد تلو الآخر، فانطفأت الكتلة النارية، لكنها بقيت متّقدة في قلوب أبناء منطقة الغضب، وما يعرف بمنطقة بئر الحرمان. إن باب التبانة تختزن ذاكرة مليئة بالبطولات من الصعب تحويلها إلى صندوق انتخابي فقط دون إعادة الاعتبار إليها، وتأمين حلول لمشاكلها على كل المستويات الاجتماعية والإنمائية والصحية والتعليمية.
انتهت الحرب الأهلية في الطائف عام 1989 ودخل لبنان مرحلة جديدة، ولم تدخلها باب التبانة، وظل في شعورها، ومكنون ذاتها أنها مغبونة ومظلومة. فشبابها كانوا متراس المدينة الأول، وبين زنازين التعذيب ومتاريس النضال ترسخ فيهم حاجز نفسي بأنهم دائماً مستهدفون. ولأن مصالحات ما بعد الطائف استبعدتهم، والواقع السياسي المستجد بعد توقف الحرب حاول إقصاءهم أكثر فأكثر انطلاقاً من أنهم هزموا كمشروع، فهذا كان يعني ثورانهم كلما لاحت فرصة، بالرغم من عدم قدرتهم على إنتاج حالة سياسية جديدة بعد مقتل خليل، إلا أن ذلك لا يعني خروجهم من اللعبة السياسية، بل استمرار ردات الفعل لحين إنضاج الفعل. وهكذا كانت حال أبو عبد الله _ آخر الحبات التي سقطت من العقد على الطريق.. لكن ليس الحبة الأخيرة.
* كاتب لبناني