من الأمور المثيرة في عالمنا اليوم مراقبة قوّة صاعدة وهي تحاول تركيب أجزاء امبراطورية تحت أنظار امبراطورية قائمة، أي وضعية الصين تجاه اميركا. منذ اكتشاف العالم الجديد، أصبحت السيطرة على الطرق البحرية والمعابر بين المحيطات هي الشرط الأول للقوة الامبراطورية؛ فكانت أعمدة الامبراطورية البريطانية، في أواخر القرن التاسع عشر، تقوم على سنغافورة وجبل طارق والسويس. ثمّ بنت اميركا، اثر الحرب العالمية الثانية، شبكة نفوذ بحرية تمتدّ من قناة بنما (التي امتلكتها رسمياً حتى عام 1999) الى اليابان فغوام والخليج العربي. هكذا تفرض القوة العظمى نفسها كالحامي لخطوط التجارة، وتضمن خطوط امدادها الاقتصادية والعسكرية.
الصين تحاول رسم خريطة جديدة للتجارة البحرية، تغيّر الجغرافيا والموازين السياسية في آن؛ وأبرز هذه المحاولات قناتان جديدتان للملاحة العالمية، سيكون للصين اليد الطولى في انشائها، وستعطيها منافذ مستقلّة عن سطوة القوى الاستعمارية القديمة. المشروع الأول هو «قناة نيكاراغوا»، والتي ستمثّل بديلاً عن قناة بنما يقع جنوبها، رابطة المحيط الأطلسي بالهادىء. بدأ العمل رسمياً في القناة (يبلغ طولها أكثر من 270 كيلومتراً) الأسبوع الماضي، عبر شركةٍ يملكها رجل أعمال صيني ويُقال إن خلفه ارادة الحكومة وتمويلها.
القناة الثانية ستكون في جنوبي تايلاند، وتصل بشكلٍ مباشر بين بحر الصين والمحيط الهندي، لتكون طريقاً بديلاً ومختصراً لأهمّ معبرٍ بحريّ في العالم اليوم: مضيق ملقا الذي تعبره عشرات آلاف السفن في كلّ عام، وأكثر النفط الذي يصدّره الشرق الأوسط الى الصين واليابان. مضيق ملقا ــــ وعلى مدخله الجنوبي سنغافورة ــــ كان من رموز هيمنة الامبراطورية البريطانية في الماضي، وتحرسه اليوم دوريات بحرية هندية وأميركية. تقول التقارير إن القناة التايلاندية ستتحول الى واقع بمساعدة صينية، وقد تمّ فعلاً الاعلان عن بدء شركات صينية كبرى بالعمل في الانشاء، منذ أشهر، قبل أن تنفي الشركات المعنية الخبر.
في الحالتين، تدفع الصين بمشاريع كانت مقترحة لعقود (أو لقرون، كما في حالة «قناة كرا» في تايلند، والتي بدأ التفكير بها منذ القرن السابع عشر على الأقل، وكاد فرديناند دي ليسبس نفسه أن يترأس مشروع بنائها، ثم اقترح الأميركيون أن يشقوها في ثمانينيات القرن العشرين باستعمال القنابل النووية) فتؤمّن لها التمويل، وللبلد الذي يحتضنها موقعاً على طرق التجارة الدولية.
بينما تلتهي الولايات المتحدة بمواجهاتها مع روسيا وايران في الأطراف والهوامش، تبني الصين، خطوةً خطوة، معالم امبراطورية جديدة، تبدأ بما يسميه المراقبون نظرية «عقد اللؤلؤ»، أي الاستحواذ على مجموعة مرافىء وقواعد وتحالفات في محيط الصين تسمح لها بالدفاع بفعالية عن مصالحها وطرقها الحيوية اذا ما تعرّضت للتهديد. وبين نيكاراغوا والمحيط الهندي تنشىء الصين، بمالها وبعلاقاتها، بواباتها الخاصة الى العالم.
2 تعليق
التعليقات
-
لربما نحن نريدها و نستعجلهالربما نحن نريدها و نستعجلها ان تلعب هذا الدور.... الثابت انها ليست مستعدة بعد للقيام به بدليل تحفظها الداءم في التعبير عن اختلافها مع أمريكا في اغلب القضايا... او، انكى من ذلك، اتفاقها ( الصين ) معها ( أمريكا )... نحن نحتاج فعلا لمن يقوم بدور المعارض للولايات المتحدة الامريكية لانها غلبت علينا و اوجعتنا و دمرت شعوبنا و نخبنا لم تجد الى حد الان طريقا الى الخلاص و الى إنجاز المشروع القومي التاريخي للعرب، و لكن مهامنا لن يقوم بها فيرنا و علينا اعادة طرح المساءل بطريقة مختلفة
-
لؤلؤ ولكن تحليل غني ورائع كعادته وعلمي منطقي للرفيق الرائع عامر محسن...إلا أن هذا التوصيف الواقعي الدقيق يبقى من وجهة نظر خارجية، وحتى يكتمل عقد الؤلؤ يؤسفني أن أقول (كمراقب من داخل التنين الصيني)أن الصورة مغايرة قليلاً عماتعرضه التحاليل والدراسات في الغرب، وأن الموضوع بحاجة لعرض ما تنكّب عليه مراكز صنع القرار الصيني، ومن يعمل في خدمتها من مراكز أبحاث ودراسات ومؤسسات وشركات كبرى وجامعات. ولعل خير دليل على ما أشير إليه هو الموقف السياسي الصيني الملتبس من كثير من مسائل السياسة الداخلية والخارجية، على حد سواء. ختاماً، من ركائز الاقتصاد السياسي وقوانينه (وهو أبو العلوم السياسية والاجتماعية)، فأن السياسة هي التعبير الأكثر تكثيفاً للاقتصاد، من هنا فقط يمكن فهم موقف (التنين النائم) أو أي دولة أخرىمن القضايا الراهنة والملّحة.