شهد العالم عام 2014 الذي يطوي الآن ايامه الاخيرة تحولات وتغييرات مهمة. من المتوقع ان يتواصل ذلك العام المقبل. بعض هذه التحولات والتغييرات حصل نتيجة تراكم ظاهر وملموس على امتداد السنوات السابقة. من ذلك تراجع دور الولايات المتحدة في العالم. حصل ذلك التراجع نتيجة بروز منافسين جدد في الحقول السياسية والاقتصادية والعسكرية. حصل ذلك ايضاً نتيجة مغامرات أميركية باهظة التكلفة، خصوصاً في العراق الذي غزته واحتلته القوات الاميركية والحليفة في ربيع عام 2003. لم يغيّر ذلك من استمرار احتلال الولايات المتحدة الأميركية صدارة ترتيب الأقوياء في العالم.
لكن تبيّن أنّ للقوة حدوداً بعد ان اختبرت ادارة جورج بوش الابن ممارسة سياسة قوتها «غير القابلة للتحدي» التي تستبق وتهاجم وتحاول تغيير التوازنات والانظمة وصولاً الى أنماط الحياة والسلوك... بالغزو والقوة العسكرية! الرئيس اوباما خير من يمثل التحولات الجديدة. هو لم يكتف بالاعتراف بها وبنتائجها، انما انطلق يروّج لما استجد واستقرّ من معادلات سياسية واقتصادية، مضفياً عليها أبعاداً نظرية واسترتيجية.
وفق جدلية الصراع والتطور كان تراجع واشنطن هو الوجه الاخر المتمم لعملية تقدم آخرين بنسب متباينة. الصين تتقدم المنافسة في الحقل الاقتصادي وتكاد تقصي واشنطن عن الموقع الاول لأكبر اقتصاد في العالم. موسكو تحاول استعادة دور كوني خسرته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته في بداية تسعينيات القرن الماضي. تقام لأغراض المواجهة والمنافسة وتحقيق المكاسب والدفاع... أحلاف وصيغة دولية وإقليمية جديدة. برزت في العقد الأخير خصوصاً ثغرات كبيرة في منظومة التوازنات وآليات الضبط والسيطرة الدوليين. يحتاج العالم الى تغييرات جوهرية في مؤسسات قديمة كمنظمة الامم المتحدة ومجلس الامن المنبثق عنها. يحتاج كذلك الى استحداث منظمات جديدة على المستوى القاري او الاقليمي لغرض احتواء التوترات والنزعات القديمة والجديدة.
أوَليس الأحرى ان يكون
الاصلاح سياسية رسمية تبدأ باحترام الدستور والقانون

من التغييرات والتحولات التي أشرنا إليها آنفاً ما بدا مفاجئاً، بل وحتى دراماتكياً الى ابعد الحدود: ظهور «دولة الخلافة الاسلامية» على جزء واسع من اراضي العراق وسوريا.
منطقة الشرق الاوسط هي، طيلة العقد الماضي، حقل الصراع الاساسي في العالم والذي سيستمر كذلك العام المقبل على الاقل. أدت مظالم فادحة ومتمادية الى بقاء قضية شعب فلسطين وصمة عار على جبين العالم المتحضر. واصل الصهاينة سياسة القتل والدمار والتشريد الى حدود محاولة الإبادة الشاملة كما حصل في العدوان الاخير على قطاع غزة.
أشكال الاستئثار والتسلط والقمع والاستبداد راكمت، هي الأخرى، مساهمات خطيرة في النيل من حقوق المواطن وفي امتهان انسانيته وكرامته. الغزو الخارجي العدواني وغير المبرر، وما نجم عنه من خسائر بشرية وعمرانية وحضارية وأخلاقية وتراثية، راكم لمصلحة انهيار الضوابط وانفلات الغرائز. همجية الاساليب التي مورست في حروب الغزو والاغتصاب والعدوان، وبشاعة الادوات التي استعملت لعقود في حروب السيطرة والاخضاع والاستبداد، مهدت لانهيار القيم وإطلاق الغرائز والعصبيات. التكفير والإرهاب المستشريان الآن ينشران خطرهما وارتداداتهما في العالم اجمع كما لم يحصل منذ انهيار النازية والفاشية في اواسط القرن الماضي.
استخدام الدين في السياسة يبلغ ذروة غير مسبوقة خصوصاً عبر استحضار نزاعات وانقسامات يتداخل فيها الفقه بالسياسة والجهل بالتخلف... ويشكل ذلك ادوات للاستقطاب والتفرقة والشرذمة والتكفير والقتل، بالارتباط والتفاعل دائماً مع محاولات استعمارية خبيثة لإعادة تشكيل التوازنات والمنطقة عموماً لمصلحة مراكز الهيمنة الدولية المعروفة...
■■■
عام 2014 لم يعد احد يتذكر مجرد اسم جامعة الدول العربية. ما يحصل في ليبيا واليمن خصوصاً بعد العراق وسوريا وفلسطين هو عنوان فوضى كابوسية مفتوحة بانتظار توازنات وتسويات جديدة ليست سريعة حتماً. ما تحتاجه مجتمعاتنا بعد عهود الاستعماروالتبعية، هو حركة نهوض جديدة للإمساك بمقدرات وثروات ومصائر شعوبنا ولاعتماد نهج في الانتاج والسياسة والعلاقات من شأنه إرساء أُسس مسار واثق للتطور والتحرر والاستقرار.
في سياق ذلك، سيكون من قبيل العبث واختلاط المفاهيم العامة بالمصالح الصغيرة أوالفئوية، استمرار حوار الطرشان حول «الربيع العربي»، في حسناته وسيئاته، او في وجوده اصلاً من عدمه.
حصول تطور في الوعي الاجتماعي عملية أكثر تعقيداً من فرص وإمكانات التقدم في المجالات القائمة في البنية التحتية المادية: الاقتصادية والعلمية. على صعيد المنطقة، قدم المثال التونسي استثناء لم يأت، مع ذلك، من خارج قاعدة التطور والتقدم الماديين بالتراكم، وكذلك من خارج تراكم الوعي ومكونات الوعي عبر المعاناة والانجازات والتطلعات والإبداع...
تقيأ، تاريخنا وتاريخ البشرية الراهن، «داعش» واخواته سموماً أنبتتها، كما ذكرنا، قرون الاستعمار وعهود الاستبداد وبشاعة أساليب وأدوات عمليات الاخضاع والاستغلال في منطقتنا وفي العالم. ذلك يملي مسؤولية خاصة على القوى التي رفعت شعارات التغيير والتحرير ذات المحتوى الوطني أو القومي أو الاجتماعي (فضلاً عن قوى سياسية واجتماعية جديدة)، لجهة التصحيح وتجاوز الأخطاء التي كان بعضها قاتلاً.
■■■
في لبنان تكشف نظامنا السياسي عن مزيد من حالات التفكك والعجز وحتى الافلاس. الأزمات تضرب المؤسسات قبل سواها. الدويلات تتقدم على حساب الدولة التي يستشري تحاصصها الى درجة تعليق غير معلن للدستور والقانون لحساب «الميثاقية» الطوائفية والمذهبية المشفوعة بمزيد من التبعية للخارج. بعد العجز المتكرر عن انتخاب رئيس جديد للبلاد كان التمديد الجديد وغير الدستوري لمجلس النواب. يدور لبنان في حلقة مفرغة من انهيار شرعية مؤسساته: كيف يمكن لمجلس غير شرعي أن ينتخب رئيسا شرعياً؟! في خلال ذلك تراكم الحكومات المتعاقبة خطأ، بل خطيئة، الإمعان في هدر الثروة البترولية الموعودة. المشروع والأطماع الإسرائيليان يستحثان الخطى بالمبادرة والسرقة على حساب لبنان وحقوقه: ألا تؤدي المحاصصة (والتناتش المرافق لها)، في بعض وجوهها، إلى شكل من أشكال الخيانة الوطنية!؟
يحاول البعض، من وقت الى آخر، ان «يرش على الموت سكراً» بحسب القول الدارج. تتحول بعض اشكال محاربة العفن والفساد الى «موضة» مبتذلة أحياناً تضيع فيها المسؤوليات والحدود: أوَليس الأحرى ان يكون الاصلاح سياسية رسمية تبدأ باحترام الدستور والقانون وبإعادة تفعيل اجهزة الرقابة بدءاً من المجلس النيابي الى اجهزة التفتيش والخدمة المدنية... وصولاً الى إقرار قانون انتخاب يمنع تحويل الانتخابات الى مهزلة تمديد دائمة؟!
لا يستطيع نظام كنظامنا ان يوفر سيادة او استقراراً او تطوراً اجتماعياً او اقتصادياً. يزيد من الأخطار تردي ممارسات المحاصصين وانهيار البدائل. الحركة المطلبية الاحتجاجية الكبيرة التي اطلقتها «هيئة التنسيق النقابية» حوصرت بجشع ونذالة اطراف المحاصصة وبغياب الاحتضان السياسي والشعبي من قبل قوى التغيير. لكن هذه الحركة نفسها، كما في حقل المقاومة ضد العدو، أشارت الى قدرات هائلة لو جرى تفعيلها لغيّرت وجه لبنان (أصل التعبير للزعيم أنطون سعاده).
هل يشهد العام الجديد انطلاق ديناميات جديدة للتقدم وللتغيير؟
* كاتب وسياسي لبناني