بين حزب الله وضاحيته جدليّة رائعة. فالحزب يُكاد يكون وليدها وهي حاضنته. لكنّ الحزب جميل والحاضنة ليست على ذاك القدر من الجمال. والحزب دقيق وشديد التنظيم لا يشبه المكان. فعبثية تفاصيل الحياة اليومية في هذه الأزّقة الغارقة بأغلبها في دورة من القهر تكاد تُحاكي الإذلال، لا تشبه مطلقاً تلك الصناعة الأسطورية التي اسمها حزب الله. إنّها أزمة تستعصي على المنطق وتتحدّى أصول الرياضيات لتقترب من دياليكتيك جاف: النور الذي يخرج من الظلام. ولئن كان المتربصون بالوليد أعجز من أن يصيبوا منه مقتلاً، فمن السهولة بمكان الطعن في الحاضنة وتصويب السهام إلى مكامن البشاعة في صورتها، وهي كثيرة.
لكنّ الحقيقة أنّ الضاحية الجنوبية ليست صناعة الحزب ولا هي صورته المثلى، بل هي تراكمات تاريخية من النزوح القسريّ وإهمال النظام الطائفيّ وموجات التهجير والكثير من الفقر وبعض الجهل المستعصي على الترويض. لكنّها أيضا منبت العصاميين الذين صاغوا عيشاً أفضل ومدرسة للمناضلين والثوريين والمحررين كذلك، فهي مقلع الشهداء وعلامة فارقة عند كل منعطف في تاريخ الوطن. إنّها إرث صعب بكلّ ما حوت، ومن التبسيط بمكان أن تُدرك صورتها على أنّها انعكاس لصورة الحزب. والخطأ الأكثر شيوعاً هو محاولة إضفاء القدسيّة على المكان، ليكون فوق النقد وفوق العقل. فهذا محضّ هراء.
الضاحية الجنوبية
ليست صناعة الحزب، بل هي نتيجة تراكمات تاريخية من النزوح القسري وإهمال النظام الطائفي
ليست الضاحية مدينة مقدّسة، فلا هي النجف ولا هي كربلاء، بالقدر الذي ليست هي على بؤس «هارلم» نيويوك أو «لافافيلاس» البرازيل كما يحلو للشامتين، أو الشتامين، تقديمها.
نعم، للضاحية وجه رومانسيّ. فهي التي أسقطت بلحمها العاري 17 أيار، وهي التي أطلقت أولى قوافل المناضلين لتحرير الجنوب، وهي التي قامت قيامة الفينيق في تموز 2006 . لكنّها أيضا ضاحية الوجع المرير حين تنام على العتمة وتستفيق في الزحمة وتتعايش في سكينة مع مجاري الصرف الصحي وتستسلم لزعران الأحياء الذين يتسلطون على أوادمها، وهذا مهين، ولا يُجدي الإنكار. فالإعتراف يُطهّر النفس من الرذيلة، وهو أولى مراحل الشفاء. وليس على الضاحية أن تلقي بأثقال صليبها على كاهل حزب هو أصلاً منهك بأثقال صلبان ومن كلّ الأنواع وفي كلّ الساحات. بل عليها أن تلاقيه في صورته لتتماهى مع تلك الصورة الرائعة في تنظيمها، لا أن تكون عبئاً مضافاً وخاصرة رخوة ومسرحاً مشيناً ينافي الإنعتاق من الصورة النمطية لمجتمع بائس متخلّف على أطراف المدن. فصباحات الضاحية كما كلّ مساء لا تشي بجمالية وُجب لها أن تكون في مجتمع أنتج وينتج شباباً يعشق الحياة ويحترف النضال ويعرف كلّ أنواع التضحيات.
لنتوقف عن الكذب وعن وهم المدينة الفاضلة. فللمدينة الفاضلة شروطها، ومن شروطها إدراك الكائن لقيمته البشرية ولحقوقه المدنية ولواجباته القانونية. فغياب الحقوق تماماً كغياب الإلتزام بالقانون، فلا يُمكن اجترار منطق الغابة ثمّ الولوج إلى منطق التبرير والتدليس وإلقاء الملامة على الآخر، وهذا يحتاج إلى جذوة ثورية منتفضة على الذات في تجديد لمفاهيم إدراك الواقع والمحيط، لعلّ تكون لنا شوارع نظيفة وساحات جميلة ووجوه راضية وربما ملاعب أطفال. على الضاحية، كلّ الضاحية، أن تُلاقي مثالها المعشوق في منتصف الطريق وأن تكون على صورته ومثاله. فالحزب الذي قهر أعتى قوى العالم تكاد حاضنته أن تقهره بالفعل. غريبة هي جدليّة هذه العلاقة، وغريبة هي طبيعة المكان والزمان، وليس من سبيل للنجاة سوى الإرتقاء. الدم وحده لا يغسل العار. نحتاج إلى كثير من الجهد والعمل والقليل القليل من الخطابة والإنشاء ليكون حب وخبز وسلام وضاحية جميلة تشبه شهداءها وقد مضوا وسلّموا الأمانة، وأقلّه أن نحفظ الأمانة.
فلنشمّر عن زنودنا وغداً يوم آخر.