كانت لغة الحرب أو لغة التهديد بها، هي السائدة خلال السنوات الأربع الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً في سوريا والعراق بالنسبة للحالة الأولى، وإيران ولبنان، الى حد ما، بالنسبة للحالة الثانية. اما بخصوص إسرائيل وفلسطين، فيمكن القول: انها مستقرة في حرب دائمة منذ عقود طويلة، ولا يغيّر من واقعها شيئاً، اتفاقات تعقد هنا، أو مفاوضات تُجرّب هناك. ولا يبدو في الأفق المنظور ما يوحي بأنها ستخرج من دائرة الحرب. وآخر تجسيد لهذا الواقع الجريمة البشعة التي ذهب ضحيتها الوزير الفلسطيني زياد ابو عين والتي اقترفها جنود الاحتلال الاسرائيلي ببرودة دم منقطعة النظير.
لكن يبدو ان مختلف القوى المتصارعة تشعر بالتعب الشديد من استمرار الأوضاع على ما هي عليه، من توتر ومواجهات. وبدأت تدرك، وان بشكل متفاوت، ان اعتماد أسلوب الحرب وتبني لغتها، والتهديد بها، يمكن ان يجر من الويلات على مختلف تلك الأطراف، ما لا قبل لها به، من مضاعفات كارثية على مختلف المستويات، فباشرت تستطلع إمكانات اعتماد أساليب الحوار والمفاوضات لنزع فتيل الحروب، وتهدئة الأوضاع، وخلق شروط ملائمة لعقد صفقات سياسية، وربما استراتيجية تمكن المنطقة من التقاط الأنفاس، وعدم الانجرار الى مواجهات إقليمية ودولية مفتوحة وخارج السيطرة، فيما تواصلت مؤشرات التصعيد السياسي والميداني الى ما لا نهاية.
وفي سياق هذا الإدراك، تندرج زيارة الوفد السوري الرسمي الى روسيا واللقاء بين وليد المعلم والرئيس فلادمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف من جهة، وزيارة وفد من المعارضة السورية الى موسكو من جهة أخرى. ومما لا شك فيه ان هاتين الزيارتين تجسدان محاولات روسيا، وأطراف الصراع في سوريا،
لقاءات استمزاج الآراء ليست هي العامل المحدد في مجال بلورة ارضية سياسية للحل المنشود

إيجاد ارضية للحوار بين المعارضة وبين النظام في موسكو، بعد ان تعذر القيام بذلك، بشكل جدي، في جنيف، نظراً لسياق تنظيمه، وارتفاع السقوف التي وضعها الداعون اليه والمشاركون فيه لمطالبهم الدنيا، ما جعل مستحيلاً تسجيل أي تقدم ملموس في معالجة الأزمة في سوريا.
ففي وقت تحرص دمشق على اعتبار ان الحوار ينبغي ان يكون بين السوريين أنفسهم من دون تدخل خارجي، فإن المعارضة التي حضرت الى جنيف لم تكن ترغب إلا في أن ترى الرئيس السوري بشار الأسد خارج المشهد السياسي، وبالتالي، فإن الاصطدام بين الموقفين المتناقضين أدى الى انتهاء اجتماعات المؤتمر من دون تسجيل أية نتائج إيجابية تذكر. وقد ساهم في صنع هذا الواقع حرص ما سمي بأصدقاء سورية على حضور «الائتلاف» الذي تشكل في الخارج برعاية تركية قطرية وغربية واستبعاد قوى المعارضة الوطنية السورية في جلسات المؤتمر. ومنذ ذلك الحين طرحت الدول المؤيدة للائتلاف المعارض فكرة العمل على تغيير موازين القوى على الأرض تساعد في الدفع الى إيجاد حل سياسي للازمة السورية على خلفية ابعاد بشار الاسد من الصورة. وهي لم تكن تسمح حتى بإثارة موضوع إشراك معارضة الداخل في المساعي الرامية الى إيجاد حل سياسي للازمة.
غير ان هذا التحوّل المنتظر في موازين القوى على الساحة السورية، عندما وقع، اتخذ منحى جديداً، تماماً، وذلك بدخول تنظيم «داعش» الإرهابي على الخط، ليس في سوريا فحسب، وانما، أيضاً، في العراق. الأمر الذي دفع مختلف أطراف الصراع، على الساحة السورية، الى اعادة تقييم مواقفها، في ضوء هذا المستجد، وهذا الخطر الداهم لكل دول المنطقة. وفي هذا السياق تم تشكيل التحالف الدولي تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية، وبدأ شن غارات جوية على مواقع التنظيم في العراق وسورية، قصد وقف تمددها واجتياحها لمزيد من الأراضي. وقد ترافق هذا مع حرص دول التحالف على عدم الدفع باتجاه حسم المعركة ضد «داعش» في الزمن المنظور بل أكدت مصادر التحالف ان هذه المعركة قد تستغرق وقتاً طويلاً جداً.
في ظل هذا المناخ العام تحركت روسيا الاتحادية بشكل سياسي تجاه الأزمة السورية في الشهرين الأخيرين على الخصوص من خلال استقبال وفود رسمية ومعارضة في موسكو.
وقد ترافقت زيارة الوفد الرسمي برئاسة وليد المعلم ووفد للمعارضة السورية، ضم معاذ الخطيب الى جانب آخرين، بأحاديث عن وجود مبادرة روسية لحل الأزمة، ذهب البعض في تأويلها الى إمكانية وجود تعارض جوهري بين موسكو ودمشق حول الحل السياسي، وبأن هذه المبادرة الافتراضية يمكن ان تتحول الى نقطة تصادم بين القيادتين الروسية والسورية. غير ان روسيا ما لبثت أن نفت، بشكل قاطع، وجود مثل هذه المبادرة، وان دورها وتحركها، في الوقت الراهن، لا يعدو القيام بنوع من استمزاج آراء بعض أطراف الأزمة السورية، والتعرف على الإمكانيات المتاحة لعقد اجتماع، في المستقبل، بين النظام السوري وبين أطراف معتدلة من المعارضة. واكدت لمن هو بحاجة إلى تأكيد، ان موقف موسكو المساند للشعب السوري لم يتزحزح، وليس محل أية شكوك، وأنها تقدم للقيادة السورية كل أشكال الدعم التي هي بحاجة اليه، لحماية مصالح بلادها العليا، وبما يسمح بإعادة الأمن والاستقرار الى ربوعها ضد كل محاولات القوى الإرهابية، والقوى الاقليمية والدولية التي تدعمها، تقويض مقومات الدولة السورية، وانتهاك سيادتها او النيل من وحدتها الوطنية.
وإنه لأمر له دلالاته السياسية والاستراتيجية العميقة، رفض موسكو بعض الدعوات، القديمة - الجديدة، الى ابعاد الرئيس بشار الأسد عن السلطة، والقبول بأية شخصية أخرى، يختارها النظام ذاته، لشغل منصب الرئاسة. ذلك ان موسكو تعتبر ان شرعية الرئيس الأسد ليست موضع تساؤلات أو شكوك، وبالتالي، فإنه مرشح للعب دور رئيسي في عملية البحث عن حل سياسي لأزمة البلاد التي فاقمها نشاط التنظيمات والجماعات الإرهابية المتطرفة المدعومة من قوى إقليمية ودولية وضعت في صلب تحركاتها السياسية الإطاحة بموقع سوريا وإلحاقه بأحلاف مضادة.
وبطبيعة الحال، فإن لقاءات استمزاج الآراء والإعلان المتجدد للمواقف الخاصة بهذا الطرف أو ذاك ليسا العاملين المحددين في مجال بلورة ارضية سياسية تكون أساس الحل السياسي المنشود في سورية. ذلك ان مواقف الولايات المتحدة الاميركية والروسية لم تبرح تناقضها الجوهري، خصوصاً ان واشنطن جددت رغبتها غير مرة بأنها ترغب في تسليح بل وتباشر تسليح بعض جماعات المعارضة التي تعتبرها معتدلة كما انها حريصة كل الحرص على الا تكون دمشق هي المستفيد الأساسي من عمليات التحالف ضد «داعش».
والحال ان استمرار شد الحبل بين موسكو وواشنطن، بهذا الشكل، لا يوحي بان هناك إمكانية جدية للحل السياسي في سوريا لا سيما ان أعداء دمشق لا يرغبون في ان تكون هي المستفيدة من كل الحلول المتخيلة وفق موازين القوى الحالية على الأرض، وتصاعد خطر تنظيم «داعش» الإرهابي الذي يهدد بالتمدد الى دول الجوار إن لم يكن الى أبعد منها بكثير.
* كاتب مغربي