في ظل التطورات الدراماتيكية التي تشهدها الساحة السورية، وانقلاب الموقف لصالح النظام وتحالفه، فاجأت المملكة العربية السعودية الرأي العام بإعلانها الاستعداد للدخول في معركة برية في سوريا. إعلان استدعى الكثير من التساؤلات نظراً إلى غرابته، فهي لم تتدخّل يوم كانَ تدخّلها نافعاً، وكانت حينها التنظيمات المدعومة منها ما تزال قوية، بالإضافة إلى أنها ليست دولة محاربة في الأساس. وإذا نظرنا إلى التطورات التي حدثت مؤخراً، وقلبت موازين القوى رأساً على عقب، نعرف أن الموقف السعودي يستدعي التوقف عنده وأخذه على محمل الجد. فقد تمت السيطرة على نبل والزهراء ومن خلال ذلك، السيطرة على قطاع واسع من الحدود المحاذية لتركيا. وهذه الخطوط كانت منذ بداية الأزمة عاصية على الدولة، وأول من خرج على سيطرة النظام. وهي شكلت خطوط إمداد لوجستي للعديد من المواقع مثل حريتان، عندان، حيان، بيانون كمناطق شكلت خزاناً للمسلحين.
وفي الوقت نفسه، كان لهذه المناطق امتدادات تصل إلى مدينة حلب فالجيش السوري على وشك السيطرة الكاملة والإطباق على تلك المناطق ومحاصرة المسلحين وقطع الامداد خصوصاً عن أحياء حلب الشرقية، وتستكمل العملية باتجاه مدينة، الباب أكبر معاقل تنظيم «الدولة» في ريف حلب الشرقي بالتزامن مع التقدم نحو كفرنايا وتل رفعت وباب السلامة واعزاز، ومحاصرة المسلحين، وتكون الحدود قد أقفلت مع تركيا، بالتوازي مع العمل الجاري لإقفال الحدود من جهة ريف اللاذقية الشمالي.
الغرب لن يترك نفسه عرضة
للخسارة المفاجئة والكبيرة

على صعيد الجنوب السوري، تتواصل عمليات السيطرة على باقي البلدات بعد استعادة الشيخ مسكين وعتمان والعمل على اجراء مصالحات في أبطع وداعل، تمهيداً لتوسيع السيطرة في أرياف درعا، بما يغيّر الموقف العسكري جذرياً.
في خضّم هذا التحوّل، يظهر الموقف السعودي الغريب في توقيته. ويطرح علامات استفهام كثيرة عن دوافعه وخلفياته، وإن كان جدياً أم عابراً، وما الأسباب. لكن إذا نظرنا إلى خريطة المرحلة السياسية، قد لا نفاجأ بالتصريح السعودي.
فالأميركي نفذت الأوراق التي يمكن أن يلعبها، ولم يبق له ما يخسره. ولا مانع لديه إن غامر بآخر ما تبقى له، ولدٌ ليس من لحمه ودمه، أرعن من ناحية، وخياره وحيد، القبول بإذعان، من ناحية ثانية.
دخل الأميركي العام الأخير من ولاية رئيسه، وبدأ انشغاله بتعقيداته الانتخابية. وصل إلى الانتخابات خالي الوفاض، ولم يستطع أن يحقق أي شيء في نزعة سيطرته السابقة على العالم، ويقف أمام تحدي فقدان كل الساحات، ولم تبق ورقة عالمية بيده، وإن حقق شيئاً فهو الاتفاق النووي الإيراني الذي يبدو أنه نصر لإيران، وتحالفها، أكثر بكثير مما هو نصر له.
والساحة السورية التي يرتسم العالم الجديد فيها، تخرج من يده، وتمضي قوى التحالف الشرقي بحسم الموقف العسكري ميدانياً، وهو ينظر إليها مشلولاً، منهكاً، غير قادر على التأثير، أو تحصيل أي مكسب، أو تغيير يعيق المسار الجاري. وقوى الجهاد الإسلامية التي لعب لعبتها، خسرها، وهي خسرت نفسها، وبدأت بالتراجع، وبشيء من الانهيار الأولي.
لكن الأميركي، والغرب المتطور عقلاً وقدرات، لم يكن ليترك نفسه عرضة للخسارة المفاجئة والكبيرة، ويبدو أنّه أعد لها العدة، فجمعت مملكته العربية السعودية دول «التحالف الإسلامية»، ويبدو أنها اتخذت قراراً بتشكيل قوة تدخّل عسكرية، وتعلن اليوم جهوزيتها لمناورة ضخمة قبل بدء التدخل.
قد يقول قائل إنّ الكلام فيه الكثير من التهويل، ولكن ليس من المنطق الاكتفاء بهذا الكلام، فليس ما يمنع هذه القوة من التدخل، وليس ما يمنع أي قوة أو تحالف من الدفاع عن نفسه، والتدخل مهما كان الثمن إذا شعر أن خسارة كبيرة ستلحق به على غرار مسار العملية العسكرية في سوريا راهناً.
وما يرفع من نسبة احتمال التدخل، هو تحليق الطيران الحربي الاسرائيلي في الأجواء اللبنانية بعد انقطاع طويل ولأشهر إثر تدخل الطيران الحربي الروسي في سوريا. ويعتبر التحرك المستجد للطيران الإسرائيلي إشارة واضحة للمسار الذي ينوي التحالف الأميركي اتباعه، وهو الدخول في مسار جديد مختلف عن مسار جنيف التفاوضي، وعن الاستعداد للخوض في حوارات التسويات، وما شابه. إنه مسار تعقيد الأمور، وعرقلة مسار الانتصارات التي تحققت في سوريا حتى الآن، ووقف إمكانية حسم الموقف لصالح سوريا وحلفائها، وتمديد الأزمة، أقله حتى ما بعد الانتهاء من الانتخابات الأميركية، ورسم الإدارة الجديدة استراتيجيتها للأعوام المقبلة.
ليس السعودي هو الذي يريد التدخل في سوريا، على ما صدر عن دوائره. نعرفه الولد الأرعن الذي يلعب اللعبة من دون الاكتراث بثمنها، ولا التطلع إلى نتائجها. أموال نفطية طائلة لم يتعب في إنتاجها وجنيها. يتلاعب بها وفق أهوائه، وأهواء سيده الأميركي الذي من دونه لن يبقى الحكم الملكي بيده. وبين أهوائه، والحفاظ على كرسي الحكم من جهة، وخياره الوحيد القبول برغبة سيده من ناحية ثانية، ليس ما يمنع التدخل العسكري في سوريا، وإلا لم تتجمع كل القوات العسكرية التي ستجري مناورة «رعد الشمال».
قالها الروسي له، هل انتصرت على أعدائك كلهم في اليمن حتى تهدد بالتدخل في سوريا؟ لو لم يكن الروسي على فهم بالسعودي لما قالها، ولاكتفى بالقول إن الكلام السعودي ما هو إلا من باب التهويل. فالروسي، ومعظم الملمين بالسعوديين، يعرفون تهورهم، ومقامرتهم، وتوظيف أموالهم الطائلة في أهوائهم، ومغامراتهم، شخصية أم سياسية أم عسكرية. دخلوا الحرب في اليمن، وتكبدوا فيها التكاليف الهائلة، ولم يتراجعوا. بلغ احتياطهم المالي الخطوط الحمر، ويستمرون في مغامراتهم. أسقطوا سعر النفط، ليس لصالح الشعوب الفقيرة، ويستمرون في هدر ثروتهم لتغطية نفقات مغامراتهم العسكرية في سوريا واليمن، أو في تشكيل القوات العسكرية لتحالف الدول الإسلامية.
بعد كل هذه المغامرات لم يكترث السعودي بالخسائر، ويمضي في جنون أهوائه، وهوس حفاظه على سلطته، يسترضي سيده الذي يحمي له مملكته من تداعيات عالمية محتملة، ويثابر مصراً على مغامراته. فالسيد الأميركي الذي لم يعد بيده أوراق وليس لديه ما يخسره، لم يبق أمامه إلا السعودي، والتحالف الذي أقاماه معاً، يزج به في المعركة السورية عله يعيق انتصارات خصومه، واستمرارهم في التقدم العسكري على كل المحاور، وبالتالي استئثارهم بقرارات الحل، وخيارات ما بعد الحرب السورية، ورسم العالم الجديد.
لعل تأخير الحل من جانب واحد، وحتى عام من اليوم، يعيد للأميركي الرهان نفسه على متغيرات ما بعد الانتخابات، حيث تكون انشغالاتها قد انتهت، وخطط ما بعدها وضعت، عله يستحصل على بعض مكاسب بطريقته الخاصة التي لا يقف عائق أمام محاولات تحصيلها مهما كانت.
فهل بعد كل ذلك يغصّ السعودي بـ«تدخل ما» في سوريا على ما صدر عن دوائره؟ وهل القوة العسكرية التي يهول بمناوراتها المقبلة، تهدف إلى التهويل فحسب؟ تساؤلات مطروحة يستغربها العالم، لكن من يعرف السعودي يدرك أنه احتمال مرجح ومطلوب لوقف الزحف المناوئ، بغض النظر عن حساب الربح والخسارة.
وعلى الصعيد التركي، وفي السياق عينه، لا يمكن المرور مرور الكرام على احتمال تدخله في الشمال السوري، حيث لحقت به الخسارة الكبرى. وليس ما يمنع قوات «رعد الشمال» من التدخل، ترفده تركيا بقوات من طرفها، وتتدخل إسرائيل في محاولة لقلب ميزان القوى، وعلى الأقل وقف المسار التصاعدي الحاسم للمحور الشرقي.
وإذا شاء هذا المحور الحفاظ على انتصاراته، ما عليه إلا أن يقوم بضربات «استباقية» تمنع التدخل الذي يجرى التحضير له، وإلا دخلنا في متاهة وتعقيدات جديدة، قد نعرف بدايتها لكننا لا نعرف كيف ستكون نهايتها.
* كاتب لبناني