كشفت أسرار الاتفاقية النفطية الأخيرة بين بغداد وأربيل، والتي باتت تعرف بـ«صفقة عبد المهدي/ البارزاني»، وأعلن واحداً منها وزير المال الجديد هوشيار زيباري في حوار أجراه معه الصحافي الأجنبي المتخصص بقضايا النفط دنيال سمث ونشر في موقع iraqoilreport، عن حجم التفريط الذي أبدته حكومة العبادي التي يهيمن عليها «التحالف الوطني».

فبموجب هذه الصفقة جرى التنازل عن ربع ميزانية العراق السنوية للسلطات الكردية من قبل «التحالف» مقابل الحفاظ على الحكم واستمرار التحالف بين الطرفين، بما يؤدي الى استمرار العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية. فقد قال زيباري إن الاتفاقية تضمنت اعتراف حكومة حيدر العبادي بأن حصة الإقليم من الميزانية الاتحادية العراقية هي 17%، والجديد الذي جاءت به الاتفاقية هو أن هذه النسبة ستكون في منأى عن أية استقطاعات لمصروفات سيادية كانت تبلغ 8% في السابق. معنى ذلك أن النسبة الحقيقية التي ثبتت (وردت كلمة «تثبيت» حرفياً في نص إعلان الاتفاقية)، ستبلغ عملياً أكثر من 25% من ميزانية العراق. وإذا ما علمنا أن أكثر من 97% من مصادر هذه الميزانية تأتي من النفط، وأن تصدير النفط من حقول كركوك متوقف منذ أشهر بسبب وقوع خطوط أنابيب التصدير تحت سيطرة تنظيم «داعش»، فمعنى ذلك أن ربع نفط الجنوب العراقي سيذهب إلى الإقليم وهذا ما أثار ردود فعل حادة، رغم أنها ما تزال في بداياتها، في الوسط الشعبي. وحتى النسبة البالغة 17% والتي تقرر أنها تعادل النسبة السكانية للعراقيين الأكراد، سبق وأن شكك فيها متخصصون كُثر معتمدين على إحصاءات كردية قالت بأن النسبة السكانية للأكراد لا تتجاوز 13%، موثقين ذلك بالاعتماد على تصريح رئيس لجنة المال النيابية الكردستانية، في الدورة الماضية النائب الكردستاني آراس حسين، وتقريره الذي أفاد أن نسبة سكان الإقليم الحقيقية هي 12.6%. واستشهد بذلك الزميل صائب خليل في صحيفة «البديل» العراقي في عدد 5 آذار 2014. أكثر من هذا وذاك، أن حيدر العبادي نفسه، حين كان رئيساً للجنة الاقتصادية في مجلس النواب السابق، اعتبر «أن تخصيص نسبة 17% من ميزانية البلاد للإقليم غير دستوري وبعيد من عملية تقسيم الميزانية على أساس نسبة السكان وهو أخذٌ لحقوق الناس الآخرين في العراق ومنحها للأكراد». وشاركه هذا الرأي التيار الصدري وتحالف النجيفي على لسان زعيمه وطالبوا بخفض النسبة إلى 13%. ومعلوم أن حكومة الاحتلال الأولى برئاسة إياد علاوي هي من قررت هذه النسبة 17% بأمر من المحتل الأميركي كمكافأة للزعامات الكردية على دورها وتحالفها معه. وفيما بعد، التزمت الحكومات التالية قيادة «التحالف» بهذه النسبة لأن رفضها يعني الموافقة على إجراء إحصاء سكاني يشمل محافظة كركوك كما يطالب التحالف الكردستاني لأنه يعتبر ذلك الخطوة ما قبل الأخيرة لضم المحافظة الغنية بالنفط إلى الإقليم، رغم أن أقل من نصف سكانها بقليل من غير الأكراد. وهكذا أصبحت هذه النسبة ثمناً ينبغي دفعه من قبل بغداد لشراء صمت الزعامة الكردية على بقاء الحال في كركوك على ما هو عليه.
لقد كشفت هذه الصفقة عن حجم التفريط الهائل بثروات العراق، وتحويلها - كما كانت الحال في عهد نظام صدام حسين - إلى ثروة شخصية للطرف الحاكم يتصرف بها بعيداً من أية معايير أخلاقية أو علمية وبما يخدم استراتيجيته الحزبية والطائفية في البقاء في الحكم وترسيخ مرتكزاته القائمة على نظام المحاصصة الرجعي. كذلك تحولت مؤسسات الدولة السيادية والأحزاب العائلية السياسية الخمسة (آل البارزاني وآل الصدر وآل الحكيم وآل النجيفي وآل طالباني)، والأخرى المتفرعة عنها أو المتحالفة معها أو المتذيلة لها، وأجهزة الإعلام الحكومية وحتى التي تدعي الاستقلالية وعدد من الأقلام الرداحة فيها والتي كانت متخصصة حتى الأمس القريب بنقد إفراط المالكي وفساده الأكيدين، تحولت هذه الكيانات والأطراف إلى وسائل لتسويغ هذا التفريط والتبشير به كحلّ - يتخيلونه ناجعاً - لأزمة النظام العميقة والشاملة، والسكوت عن جوهر وجذور هذه الأزمة سكوتاً مطبقاً ومريباً. فما الذي يجمع بين إفراط المالكي بالأمس وتفريط العبادي اليوم، وهل يمكن اعتبار الأمرين وجهين لعملة واحدة هي عملة الكارثة الوطنية وتدمير العراق وشعبه؟
قبل أن نتوقف بالتحليل والعرض عند تفريط العبادي نستعرض ما تعلق بإفرط المالكي: لقد أفرط رئيس مجلس الوزراء السابق، وفي الاتجاه السلبي، في الكثير من أمور الحكم والمجتمع، نذكر منها: إفراطه في تركيز الصلاحيات التنفيذية بين يديه وأيدي الدائرة الضيقة من محازبيه المحيطين به. وأفرط في حماية كبار الفاسدين وبعضهم بدرجة وزير، وغض الطرف عن عمليات فساد وإفساد كانت تجرى علناً أمامه وبلغ بعضها القضاء وصدرت أحكام بحق بعض المدانين ولكنهم أفلتوا من العقاب. كذلك أفرط في التعامل المتشنج وقصير النظر، في التعامل مع المعارضين وخصوصاً من العرب السنة في ساحات الاعتصام السلمي، وقد صبّ ذلك في مصلحة المتطرفين الطائفيين والتكفيريين ودعاة التقسيم والأقلمة، فيما اكتفى المالكي بعمليات ترقيعية وإعلامية فاشلة كتشكيل اللجان تلو اللجان لامتصاص الغضب في حين كان الوضع يتطلب اصلاحات وإجراءات جذرية وعميقة، لم يكن بمستطاعه القيام بها فقد كان هو شخصياً وحاشيته جزءاً من نظام غير قابل للإصلاح بل ينبغي أن يزول. أفرط المالكي في الاعتماد على الطرف الأميركي أو في الأقل لم يقف بوجهه الوقفة المطلوبة لردعه عن تمزيق الوضع العام والعمل على تغيير قواعد النظام السياسي ومرتكزاته واكتفى بأمور شكلية لم يتجاوز خط المطالبة بتحقيق انسحاب قوات الاحتلال إلى مرحلة إزالة آثار الغزو والاحتلال معاً، بل ودافع عن اتفاقية الإطار الاستراتيجي الخطيرة والمنظمة للاحتلال الأميركي غير المباشر للعراق. وقد اعتمد سياسة الممانعة أو غض النظر مع الأطراف الإقليمية المتدخلة بعمق في الشأن العراقي فكان يواجه التدخل الإيراني الذي بلغ المستوى العسكري المسلح في «آبار الفكَّة» في الجنوب بالاتفاقات السرية والسكوت والمراوغة، أما التدخلات السعودية والتركية فكان المالكي يعتمد في مواجهتها أساليب متنوعة وعقيمة من الممانعة والنكاية والتحشيد الإعلامي ذي النزوع الطائفي. رغم كل هذا الإفراط وقف المالكي وكابينته الحاكمة الضيقة بوجه أطماع وطموحات الأحزاب العائلية وبعض أطراف المرجعيات الدينية بمستويات مختلفة الشدة والإيقاع ونجح في تحجيم وتهميش حزب المجلس الأعلى، وأوقف موقتاً وجزئياً عملية النهب المنظمة التي كان يقوم بها حزبا البارزاني والطالباني في الإقليم، ووجّه ضربة عسكرية قوية في الجنوب للتيار الصدري لم يغفرها له التيار حتى أفلح أخيراً في المشاركة في خلعه من الحكم ضمن «التحالف» المتحكم بكابينة حيدر العبادي اليوم.
إنّ إفراط المالكي الذي تتكشف وقائعه اليوم بالأرقام والأدلة المادية الملموسة، ومنها قضية العسكريين والموظفين المدنيين الوهميين «الفضائيين» وهم بعشرات الآلاف باعتراف العبادي ويقدرهم آخرون بمئات الآلاف، هو الثمرة المرة المتوقعة من نظام تقوم طبيعته على أساس محاصصات وهمية و«فضائية» ولتوضيح ذلك نسأل: ترى هل يمثل المالكي حقاً وفعلاً الشيعة العراقيين والبارزاني الأكراد العراقيين والنجيفي السنة العرب العراقيين، أم أن كلّاً منهم يمثل مجموع العوامل التي جعلته يحصد هذه الكمية المحددة من أصوات ناخبين تم تأطيرهم سلفاً في وضع طائفي أو عرقي خاص؟
لم يكن بوسع المالكي بالأمس، مثلما ليس بوسع العبادي اليوم اجتراح المعجزة والقيام بما يسميه بعض المتفذلكين «عملية إصلاح ناجحة» لما يسمونه «العملية السياسية» لأنهما جزء عضوي من هذا النظام ونتاج طبيعي له. وهذا النظام غير قابل للإصلاح بل للقلب والكنس ليحل محله كنظام للمكونات نظام للمواطنة والمساواة، وهذا ما لم يشأ التفكير به لا المالكي بالأمس ولا خصومه في حكومة العبادي اليوم.
لقد حاول المالكي منع الجهات المتنفذة في النظام، وبخاصة أقطاب الأحزاب العائلية والطائفية الخمسة، من التغول ونهب الدولة والمجتمع، ولكنه – بالمقابل - فتح الباب على مصراعيه أمام اللصوص من جميع الأحجام والأنواع فدخلوا وانتشروا في جميع مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية محاولاً الاستعاضة عن دعم وتأييد بعض القيادات السياسية العائلية والدينية بدعم شريحة واسعة من الجمهور الزبائني والمتعيش على ما تضخه الدولة من عائدات النفط على شكل رواتب وامتيازات ومُنَح فوصل وضع الدولة والمجتمع الى مستويات مخيفة من الترهل والتحلل والغنى الفاحش من جهة والفقر المدقع والمعاناة من جهة مقابلة.
فما هي أبرز الأمثلة والتجليات على نهج التفريط الذي اعتمدته حكومة العبادي وما آفاق هذا النهج سياسياً واقتصادياً وأمنياً؟ هذا ما سنتوقف عنده محللين في مناسبة قادمة.
* كاتب عراقي