(مَرَ ريقي بحروبِ الجهلِ من كلِ الجهاتأفلا تملأ إبريقي بساتينُ الفرات
قلقا أدعو شَتَاتَ الطير
لموا الشملَ
ما الموتُ سوى هذا الشتات
ــ مظفر النواب)



تجلس صبية في السابعة عشرة من عمرها، صفراء يكاد اللون يفارقها، أمام باب المستوصف، منتظرة أوراقها لتدخل إلى الطبيب.
من الواضح أنها لاجئة حرب العالم في سوريا. يلتفّ حجابها الأزرق حول وجهها الصغير الأسمر، وتسقط عباءتها السوداء على الكرسي البلاستيكي. هربت وزوجها الى لبنان، وسكنت مع من سكن «الصحراء»، صحراء الشويفات، المكان المثالي باسمه لوضعها: تلك الساكنة، كالملايين غيرها من لاجئات ولاجئي سوريا، صحراء هذا العالم.

ملايين قليلة («قليلة» يقولون، حسبي بها تُجمَع في كفّ)، أضيفت في السنين الأخيرة الى لاجئي هذا العالم. كم من مأساة، وكم من أرض، كم من قضية، هي محور هجرتنا ولجوئنا. واللجوء هرب من اوضاع غير انسانية نحو مسكن آمن مؤقت. والمسكن المؤقت هذا، غالباً ما يكون تلك القطعة الرخيصة من ارض موات، تحتلّها أربع زوايا ضعيفات لخيمة يملأها قيظ ايلول بالحرارة، ثم يمرّ عليها الشتاء فتكتسي بأوراق رقيقة من البلاستيك، وتأتي الثلوج، فتقويّها العائلة بألواح من الزينكو.
غالباً ما تتطوّر حالة المسكن الآمن المؤقت، مع مرور الوقت. وبذلك يكون المسكن المؤقت الأكثر تطوّرا، هو ايضا الأكثر بعداً عن يوم الهجرة، والأقل تعبيراً عن «المؤقّت». وفي المؤقت ملعبنا، ملعب الحاضر. نحن دائماً ما نعيش المؤقت. مؤقت الاحتلال، او الحرب، او السلم المنتظر حرباً أخرى... ثابتنا مؤقّت، ودائمنا عابر. ربّما من الأفضل ان نتقبّل هذا الواقع: كل ما نثبت عليه لفترة، يزول في اللحظة التي نعتاده فيها. وهذا ما يجعلنا بمعنى ما، لاجئات بشكل مستمرّ، ومن أنواع مختلفة. وهذا ما يجعل الهجرة حالة طبيعية، واللجوء لا ينتهي.
كلّنا سكّان الخيمة. لم تغيّر الأرض الثابتة او الجدران الحجرية ولا الأسقف من واقع اننا ما زلنا مذلولات ومذلولين. ما زالت كلمة المستعمر والمحتلّ والحاكم الظالم تحدّد حياتنا، وما زالت طرقاته توجّهنا.
في كلّ منّا، يقبع في الزاوية ذلك الشعور الثقيل بالوحدة ووجع غربة لا نعرف لها اصلاً. زاوية لا أضلع لها ولا حدود ثابتة، خيمة تتلوّى مع الرياح الآتية، تتحرّك مع اقتراب الحرب المقبلة.
تعلّقنا بالمكان لا يقلّ عن تعلّقنا بالعادات او الناس او منطق الحياة في هذه المنطقة او تلك. وبذلك، فإن انفصالنا عن المكان او العادات او الناس او منطق الحياة هو ذاته، الغربة ذاتها، التهجير ذاته. كلّنا مهجّرات ومهجّرون من واقع أردناه، كلّنا مهجّرات من شخص أردنا ان نكون معه، من شخص اردنا ان نكونه، من دور أردنا ان نؤديه، من بيت اردنا ان نعيش فيه، من شارع احببناه واختفى، من طريقة حياة اردنا ان نعيشها ولم نستطع.
وكلّنا لاجئات في غير المألوف، غير المعروف غده، غير الذي أردناه او حلمناه. في وجهٍ لنا تصوّرنا غيره، في حياة أردناها اسعد، في اطفال أردناهم اجمل، وأزواج اردناهم اكثر حبا، وعمل اكثر راحة، وبيت اكبر. لجوؤنا ينبع من غربة مستمرّة في غياب ما سنتوق اليه حتى الممات. اليست هذه الغربة الكبرى؟ الأرض الأكثر بعداً؟
ابشع ما في اللجوء، امكانية استمراره. وأقول إن ابشع ما فيه ايضاً، ربّما يكون احياناً ذلك «الشتات»، ذلك الشعور بتشتت المجموعة، والأرض، والأنا. ربّما هذا هو الاساس في هذه الهجرة: تشرذم المجتمع والفرد. فكيف لنا إذاً ان نعالج هذه المشكلة؟ كيف لنا، بكل اشكال هجرتنا ولجوئنا واغترابنا ان نعالج تشرذمنا مجتمعاً وافراد؟
اذا ما فكّرنا في أن التفرقة والتقسيم هما اساس المشكلة، يظهر لنا - برغم صعوبته- لبّ الموضوع. يظهر لنا الحل في البحث عن نقاط التقاء في غربتنا، لاجئات ولاجئي حروب ومجتمع واحلام مهدّمة وحيوات غير مكتملة وبلاد لا تعطي بقدر ما تأخذ.
ربّما يبدو في ذلك الكثير من الطوباوية، لكن فترة انهيار النظم التي وصلنا اليها، تدفعنا الى ان نكون راديكاليين بمطالبنا. يبدو هذا الوقت المناسب للعمل نحو ما كان يبدو مستحيلاً. وحدة ما، نقطة التقاء وتجمّع واندماج، في قوانين فيزياء طاردة طاحنة.
أقف بجانب الصبية ذات السبعة عشر عاما، ننتظر ثواني قليلة أن يُفصِحَ فحص الحمل عن خط أو خطين. «خطّين»، تقفز الصبية من مكانها فرحة. تزوجّت منذ سنة، وهي تريد أن تحمل. ترتبك بفرحة لم تعرفها من قبل. هناك حياة تنبض، حياة تكسر الفراغ لتنمو. وفي هذه الحياة، عيون ستنظر غداً إلى سماء ربّما تكون اقرب، واكثر ثباتاً.