تفصل ستة أشهر بين انكشاف انتحاريين سعوديين في أحد فنادق بيروت وظهور عدد من الأجانب، الأوروبيين تحديداً، في فيديو اعدام عناصر من «داعش» لجنود سوريين ذبحوا أخيراً. وتفصل بينهما مئات بل آلاف العناصر الجهادية التي وصلت إلى سوريا عن طريق الحدود المفتوحة خاصة مع تركيا، والى لبنان عبر الحدود السورية أو اغلبها عبر المرافق الشرعية لا سيما مطار بيروت الدولي.
وتطرح هذه الظاهرة مسألة الحرية المطلقة للراعايا العرب - والاجانب من عدد كبير من جنسيات العالم - بالدخول الى لبنان، عبر المعابر الشرعية على الاقل، والاقامة فيه بحرية تامة لمدة تتراوح بين الثلاثة أشهر والشهر تباعاً، وتفتح نقاشاً – أو من المفترض أن يكون كذلك - حول ضرورة اعتماد تأشيرة دخول مسبقة للسماح للاجانب بالدخول الى الاراضي اللبنانية، من اجل مراقبة الوافدين بالحد الادنى في محاولة للتخفيف من خطر بعضهم، أفراد وجماعات. وكالعادة تأتي ردة الفعل بالسياسة بعيداً من الموضوع تقنياً. في الواقع يشكل الثنائي جواز السفر، كبطاقة تعريف شخصية عالمية منمطة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وخاضعة لمعايير دولية متعارف عليها بالحد الادنى، والتأشيرة كإذن مسبق بعد التحقق بدخول اراضي دولة معينة ولمدة محددة، الأداة الأولى الناجعة للتعامل مع مسألة الهجرة (الشرعية) ومبدأ حرية تنقل الافراد من زوايا عدة: سياسات الهجرة نفسها، والبعد الامني لتنقل الاشخاص، بما في ذلك مفهوم الشرطة والضبط عن بعد والمتضمن بالنسبة للدول الغنية امكان تقييد حركة مواطني باقي دول العالم من خلال التأشيرة عبر فرضها احادياً من خلال معايير امنية واقتصادية، مستفيدة من واقع حال لصالحها بشكل كبير، والحؤول دون تحرك الشخص غير المرغوب فيه من بلده الاصلي اساساً وبالتالي تفادي التعاطي مع حالته على اراضيها.
بالمقارنة فللبنانيين قصصهم مع التأشيرات والممارسات القنصلية لعدد كبير من الدول، كون قسم منهم يعمل في الخارج، وكون واقع الممارسة اللبنانية مازوشي بشكل غير مفهوم، لم يسمع ربما بمبدأ المعاملة بالمثل وان بشكل ملطف يراعي موازين القوى. ففي قنصليات دول الاتحاد الاوروبي تبقى الممارسات غير شفافة اطلاقاً، ويعتري اعطاء او رفض التأشيرة الكثير من الاستنسابية غير المبررة والتي لا تراعي مصالح المواطن اللبناني وحقه بالسفر لأي غرض
مشروع.
أضف إلى ذلك حالات من الزبائنية الموثقة والتي تحدثت عنها تقارير أوروبية – فرنسية تحديداً - قوامها استخدام حق منح التأشيرة كوسيلة لصرف النفوذ وتقوية الشراكة مع زعماء ومتنفذين محليين. والحديث عن الصلف والوقاحة يطول،
وحده نظام التأشيرة المسبقة كفيل بالحد نسبياً من تدفق المنتوجات المتفجرة


وكان قد وصل الامر بوزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير لتأنيب لبنان بتعبيره عن امتعاضه العلني من رفض قدوم جاد المليح، الكوميدي الفرنسي من اصل مغربي لانه يحمل ايضاً الجنسية الاسرائيلية وسبق له الخدمة في جيش العدو.
اما دول الخليج فهي مقفلة بوجه اللبناني من دون تأشيرة يرتبط اعطاؤها باعتبارات كثيرة، وان لم نأخذ منها الا الشق التقني المتعلق بشروط الاقامة والعمل يتبين لنا انها تأشيرة جدية. من دون الحديث عن التمييز الديني السافر الذي تمارسه بعض هذه الدول في اعطائها التأشيرة للبنانيين من خلال الفصل بينهم كمسلمين وغير مسلمين، اضافة الى التهديد الدوري بالطرد والترحيل لاشخاص امضوا عقوداً يعملون في هذه البلدان.
لكن ماذا عن الممارسة اللبنانية؟ بزيارة لموقع الامن العام على الانترنت يتبيّن أن عدداً كبيراً من الدول يستطيع رعاياها الحصول على تأشيرة دخول الى لبنان اوتوماتيكياً بمجرد الوصول إلى مطار بيروت الدولي كدول مجلس التعاون الخليجي والاردن، والدول الاوروبية ودول اميركا اللاتينية، اضافة الى فئة غريبة هي فئة رجال الأعمال... إلخ، فيما يربط مجيء رعايا دول اخرى الى لبنان بالحصول على موافقة الامن العام، وهي الدول الفقيرة المصدرة لليد العاملة عامة، حيث الشروط صارمة والمعاملة اقرب الى الرق الحديث من اي شيء اخر... وللانصاف فإن الامن العام كان قد اقترح بعد نهاية الحرب تطبيق نظام تأشيرات لاعتبارات امنية، رفضه آنذاك المغفور له رفيق الحريري لاسباب متعلقة بسياساته الاقتصادية وعلاقاته الدولية.
يتبيّن إذاً أن أعداداً كبيرة من الاشخاص يستطيعون الدخول الى لبنان بحرية مطلقة وذلك عبر الحصول على تأشيرة في مطار بيروت الدولي أو على أي معبر حدودي آخر بري أو بحري، والتأشيرة هنا عبارة عن ختم الامن العام المتضمن تاريخ الدخول، بعد تدقيق اقل من عادي يتم من خلال التأكد من عدم وجود اسم الشخص على لائحة من لوائح المطلوبين.
بعد كل حادثة امنية ترتبط بوافدين غير لبنانيين تتخذ بعض الاجراءات في حرم المطار للتشدد في دخول الرعايا الأجانب، لكنها على الارجح اجراءات موقتة لا تلبث ان تتضاءل لتعود الامور الى ما كانت عليه سابقاً. والاهم انها اجراءات مبتورة لا تعالج موضوع الخطر الامني المحتمل الذي قد يشكله بعض الوافدين. فكيف يمكن لتدقيق بسيط بالاسم والاتصال بأرقام هواتف المضيفين في لبنان – ان وجدت - البت في التهديد الامني للشخص المعني، او السماح بتشكيل فكرة عنه؟
على سبيل المقارنة ففي دول الاتحاد الاوروبي المنضمة لاتفاقية «الشنغن»، التي تسمح بحرية التنقل ضمن مساحة هذه الدول بمجرد الدخول الشرعي الى احداها، تحتاج التأشيرة الى اسبوعين مبدئياً للبت فيها سلباً او ايجاباً وذلك من تاريخ تقديم الطلب وبعد ابراز لائحة طويلة من الاوراق الثبوتية المطلوبة والمعلومات، وبعضها ينتهك مساحات يحميها القانون اللبناني ككشف الحساب المصرفي، وبعد الحضور لموعد أخذ الصورة والبصمات، وبعد دفع مبلغ اجمالي لا يقل عن 220 دولاراً اميركياً بين ثمن التأشيرة وخدمة الشركة المكلفة تشكيل الملف في حالات تقديم الطلب للقنصلية الفرنسية، السويسرية، الدانماركية او الايطالية، والتأمين وباقي الاوراق وكلفة الترجمة. تتم احالة ملف الطلب على السلطات الوطنية للتحقق من الشخص، وكذلك الى نظام المعلومات «شنغن»، وهو عبارة عن قاعدة بيانات ضخمة تضم معلومات عن الاشخاص (اكثر من 100 مليون شخص) والسيارات ويتم من خلالها تبادل هذه المعلومات بين السلطات الامنية الوطنية لكل دولة. لا مجال للمقارنة مع لبنان حتماً. لكن المسألة الاساسية تبقى في كيفية التأكد مما اذا كان الشخص يشكل تهديداً امنياً أو أن هناك مجرد شك بهذا – وهو كاف لرفض التأشيرة عادة. فالعمل بنظام تأشيرة مسبقة يحصل عليها الشخص من القنصليات اللبنانية في الدولة التي يقيم فيها يسمح على الاقل بالتأكد من وضعه مع السلطات الوطنية في بلد الاقامة أكان البلد الذي يحمل جنسيته او لا، كما يسمح بإرسال المعلومات عنه الى السلطات اللبنانية لاجراء المقتضى، والاستئناس بتقاطع المعلومات من نوع غرض الزيارة او شخصية المضيف، والمنطقة التي سيسكن فيها الاجنبي، توقيت ومدة الزيارة، فضلاً عن المردود المالي لخزينة الدولة من استيفاء ثمن ولو بسيط لتأشيرات الدخول.
وحده نظام التأشيرة المسبقة كفيل بالحد ولو نسبياً من تدفق المنتوجات المتفجرة لممالك الخير والرمال أو لبلدان حقوق الانسان، تصلنا دورياً بشكل انتحاريين أو ساديين قاطعي رؤوس.
* باحث لبناني