أحكام القضاء الأميركي في الأسبوعين الأخيرين ترسم الحدّ الفاصل بين الظلم والوقاحة. فبعد منع المحاكمة عن «شرطي فيرغسون» الذي قتل شاباً أسود أعزل، هو مايكل براون، تمّ منع المحاكمة ايضاً – خلال أقل من أسبوع – عن شرطي آخر في نيويورك قتل رجلاً أسود خنقاً وهو يعتقله. انشغل الاعلام بتقديم تفسيراتٍ عن الأسباب التي تحصّن رجال الشرطة، حتى في حوادث قتلٍ أثارت غضباً شعبياً في طول البلد وعرضه، بل أنّ المحلّفين الأميركيين يمنعون هذه القضايا من الوصول الى المحاكمة أصلاً.البعض حاجج بأنّ الشرطة في اميركا تتمتّع بـ»مصداقية شعبيّة» تجعل المحلفين يميلون الى تصديق روايتها عن الأحداث، وبعض القانونيين قال إنّ المدعين العامين (الذين يعملون، عادة، الى جانب الشرطة والمحققين، لا ضدهم) يستنكفون عن تشديد الملاحقة ضدّ عناصر الشرطة في المحاكم. الّا أنّ ما يدحض هذه التفسيرات التبريرية كان مثالاً معاكساً جرى قبل أشهر في ولاية كولورادو، وتم تسليط الضوء عليه بعد الافراج عن الضباط القتلة.

على ما يبدو، قامت هيئة المحلّفين في كولورادو الصيف الماضي بتوجيه الاتهام الى شرطي محلّي من مدينة بولدر، ثمّ تقديمه للمحاكمة بتسع تهم، أُدين بها جميعاً، لأنّه قتل وعلاً (نوع من الغزال البري) كان محبوباً بين أهل المحلّة. المسألة لا تتوقف عند المعاملات القانونية، فقد أثارت القضية تضامناً شعبياً حقيقياً، وسار أكثر من ألف تلميذ ثانوي في مظاهرة حماسية الى مبنى الـ «كابيتول» في دنفر، انتصاراً للوعل المظلوم.
السّود في اميركا اليوم يعيشون في حالة تشبه تلك التي وصّف بها انتونيو نيغري ومايكل هارت علاقة الرأسمالية العالمية ببعض شعوب الجنوب: الرأسمالية لا تحتاجهم كيد عاملة (بسبب الدفق المستمر للمهاجرين)، ولا تحتاجهم كمستهلكين، ومصائرهم لا تؤثر فعلياً في مسار المنظومة والمصالح المرتبطة بها. هكذا، لا تعود هناك أهمية لحياة هؤلاء الناس أو موتهم من منظور المؤسسات المهيمنة والاعلام. للسبب نفسه، نجد العالم بأسره يقف متأهّباً بعد هجوم منفرد في 11 ايلول 2001 – أودى بحياة بضعة آلاف من الأبرياء – وتتغيّر كل السياسات بسببه، وندخل في زمنٍ جديد، لأنّ مركز الرأسمالية وقلبها قد خُدشا، فيما تمرّ ابادات جماعية وحروب في افريقيا تقتل الملايين بلا أن ينتبه اليها أحد، لأن لا وزن لهم بالنسبة الى نظام الهيمنة (هل تعرفون، مثلاً، أن حرب الكونغو قد كلّفت أكثر من خمسة ملايين قتيل؟)
أمّا من يعتبر أن الانسان\الفرد لديه فعلاً قيمةٌ محفوظة بذاته، وكيانٌ قانوني وحقوقٌ مدنيّة منفصلة عن موقعه الاجتماعي، فهو يعيش في كوكبٍ بعيد جميل؛ وشعوبنا تعرف جيّداً هذه المعادلة التي تسري على المستوى الدولي كما داخل النظام الأميركي نفسه. من هذا المنظور، فإن السود المضطهدين، كشعوب الجنوب، لا يمكنهم تأكيد انسانيتهم قبل أن يثبتوا لأسيادهم، بالطريقة التي يفهمونها، أنّ حياتهم ليست أرخص من حياة وعل.