بعد أن أتمت الحركة الصهيونية التطهير العرقي في فلسطين، كان على قادتها أن يخفوا سريعً أدوات الجريمة، ليس خوفاً من العقاب وإنما تمهيداً للتحوّل إلى دولة. خلعوا لباس قطاع الطرق وقفازات اللصوص، ولبسوا البدلة وربطة العنق. حلوا وفككوا مجموعات القتل كـ»البلماخ» و»الهاجاناه» ودمجوها في «جيش»، واستبدلوا ألقابها القديمة بمسميات جديدة: رئيس ورئيس وزراء ووزير. أي استحضروا كل ما يلزم لتحويلها من مجموعة عصابات إلى دولة تنتمي للعصر الحديث، وهو التحول الذي نال اعتراف الأقوياء في العالم، وبناء عليه بدأ استقبالها في مشارق الأرض ومغاربها بعزف «السلام الوطني» والسير على البساط الأحمر.
ولكن رغم كل ذلك، بقي داخل قادة هذه الحركة ذلك الشك الذي يلازم اللص أينما ذهب في أن يفضح أمره، إذ أدركوا تماماً أن قناع المدنية والاعتراف السياسي، وان كان دولياً، لا يكفيان لنشر وترسيخ صورتهم الجديدة التي يطمحون إليها. هذه الصعوبة لا تأتي من بشاعة فعلهم بالأمس وإنما مما ينوون فعله بالغد، فلم يخطر ببالهم ولو للحظة أن دورهم في السطو والسرقة سيتوقف مع تحولهم إلى «دولة»، لأن ببساطة هذه الدولة لا يمكن أن تستمر وتبقى بمجرد خلع الإنسان الفلسطيني من أرضه، وإنما لا بد أن يسلب منه تراثه وتاريخه وذاكرته وبالتالي هويته. بمعنى آخر: سعت الحركة الصهيونية لترسيخ صورة الدولة في ذهنية العالم من دون أن تخسر جوهرها ودورها في الاحتلال والإحلال والسلب والإقصاء، أي قناع دولة وجوهر عصابة.
هذه المهمة لم تكن جد صعبة على المستوى الدولي مع توفر التواطئ الرسمي وتقاطع المصالح الكولونيالية. ولكن هل يمكن تمرير ذلك على الضحية نفسها فتصدق ما تقوله مساحيق التجميل، وتنسى الكي الذي في لحمها وتاريخها؟ هل يمكن أن يأتي يوم على الضحية لا تتعرف فيه بملامح جلادها ولا تتذكر فيه تفاصيل الجريمة وظروفها؟
الطريق إلى ذلك هو النسيان، والنسيان يمر عبر هزيمة الوعي، والوعي المهزوم كان المهمة الكبرى الثانية للحركة الصهيونية بعد هزيمة صخب الجيوش العربية
الفرصة الأولى التي توافرت لإسرائيل حتى تعبث بوعي الإنسان العربي كانت بتوقيع «اتفاقية كامب ديفيد» مع مصر عام 1979، ومع أن المنتصر عادة هو من يزوّر تاريخ الضعفاء إلا أن خطاب السادات في «الكنيست» في ذلك الوقت كان محاولة لتزوير التاريخ بيد المهزوم نفسه. وهو الخارج من حرب أرادها نصف انتصار ونصف هزيمة مع أن النصر كاملاً كان بين يديه. الجدار الأخير الذي انهار ومن خلفه رأت الحركة الصهيونية للمرة الأولى إمكان تفوقها على الوعي العربي والفلسطيني كان مع توقيع منظمة التحرير الفلسطينية «اتفاق سلام» اعترفت بموجبها بوجود إسرائيل.
بعد أكثر من عشرين سنة على هذا التوقيع يمكننا القول بأن إسرائيل لم تر يوماً في «أوسلو» اتفاقاً سياسياً، وإنما مدخل لإعادة هندسة الشعب الفلسطيني وإعادة تشكيله ثقافياً واجتماعياً.
إسرائيل لم تر يوماً في «أوسلو»
اتفاقاً سياسياً وإنما مدخل لإعادة هندسة الشعب الفلسطيني


لذلك فهي لم تر المكسب في اعتراف منظمة التحرير بها على الورق وإنما بمدى قدرتها على التسرب إلى وعي الفرد. فهل حدث هذا الاختراق أو التسرب إلى الفرد؟ منظمة التحرير سمحت بذلك، فهي ارتكبت ثلاثة أخطاء حققت للطرف الإسرائيلي ثلاثة انتصارات، نوردها باختصار كالتالي:
أولاً: تجاوزها للبعد الأخلاقي للقضية الفلسطينية، إذ لم تطلب من إسرائيل أبداً الاعتراف بمسؤوليتها عما وقع عام 1948 من قتل وتهجير، وبالتالي أعفتها من ضرورة الاعتذار الأخلاقي، وهو الشرط الأول والأساسي الذي يحمي الضحية من النسيان ويساعدها في تجاوز وجعها حتى وان غفرت. فهل لنا أن نتخيل الأثر الذي يمكن أن تتركه صورة تجمع صائب عريقات وهو يعانق بفرح ايهود باراك مثلاً في لاجئ ما زال يسكن وجع الذاكرة في مخيمات لبنان؟
ثانياً: التفاوض وفق مبدأ المراحل، سخّف القضية الفلسطينية وجردها من رمزيتها المعنوية والتاريخية، وبالتالي تقلصت من قضية وطنية لتصبح مسألة سياسية.
ثالثاً: فتح باب التطبيع وتسهيله بل وتشجيعه على الصعيد الاجتماعي والمدني بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حتى قبل أن تنتهي السنوات الخمس الافتراضية لتحول السلطة الفلسطينية إلى دولة على حدود 67 كما كان طموح من وقع هذا الاتفاق. وقد كانت مؤسسات المجتمع المدني والتمويل الدولي السخي والمغري هما الأداتان لتشجيع هذه الظاهرة، وبالتالي سمحت القيادة الفلسطينية وبإرادتها بمحاولات «غسل الدماغ» وتشويه ذاكرة الإنسان الفلسطيني مقابل مجرد وعود تحولت اليوم إلى أوهام.
هذه الأخطاء الثلاثة متكاملة ومبنية على بعضها بعضاً، إذاً لم يكن من الممكن تحقيق ثغرة والدخول منها إلى التطبيع لو لم يتم تجريد القضية الفلسطينية من كل عناصر رمزيتها المقدسة. وهذا التجريد من المقدس الوطني لم يكن ممكناً لو لم يُهمل البعدان الأخلاقي والإنساني. ما حدث عملياً، وعلى صعيد الفرد الفلسطيني، أن هذه البنية الثلاثية من الأخطاء أنتجت واقعاً معلولاً يمكن تلخيصه أيضاً بثلاث نقاط - قبل أن تأتي انتفاضة القدس الحالية لتبشرنا بأن تصويب الصراع وإرجاعه إلى جذوره الحقيقية قد يبدأ فعلاً من هذه المدينة – وهي:
أولاً: جرى خلق ما يمكن تسميته ثقافة «النضال بالوكالة» لدى الفرد الفلسطيني، إذ إن إنشاء السلطة الفلسطينية وإيهامها الشعب بأن هنالك حلاً وشيكاً ستتمخض عنهما المفاوضات، إضافة إلى تنازل «فتح» أكبر فصيل وطني عن الكفاح المسلح عملياً في ذلك الوقت، وضعف الأحزاب اليسارية الأخرى أدى إلى عزوف الفلسطينيين وبخاصة في الضفة الغربية وقطاع غزة عن الاشتباك المباشر مع المحتل من جهة وعزوفهم عن الانخراط الحزبي من جهة أخرى. فلا معنى للعمل الحزبي للحركات التحررية من دون آليات عمل نضالي يومي فعالة. وبالتالي جاءت السلطة لتشكل الحاجز أو الوكيل النضالي بين الفلسطينيين والاحتلال.
ومع أن حركة حماس استمرت في عملياتها العسكرية آنذاك، إلا أن استراتيجية هذه الحركة لم تكن شعبية بقدر ما كانت مقتصرة على خلايا ضيقة تنتهج العمل السري، وهذا لا يوفر فرصة النضال لكل فرد بحسب موقعه وقدرته، وبالتالي لا يشكل بديلاً للنضال الشعبي الذي كان سائداً قبل أوسلو. نتائج هذه الثقافة الجديدة التي نسميها «النضال بالوكالة» يمكن أن نلمسها مثلاً في الفشل بتشكيل حركة نضالية شعبية عامة في الضفة الغربية ضد بناء الجدار الإسرائيلي، إذ حاولت كل قرية أن تقاومه بما تستطيع بشكل منعزل عن بقية المناطق بل ومن دون اكتراث القرية المجاورة، والانتفاضة التي تعيشها القدس منذ إحراق الفتى محمد أبو خضير قبل حوالى ثلاثة أشهر وحتى اليوم من دون أن تنتقل بالمستوى ذاته إلى بقية مدن الضفة هو دليل ثانٍ على ذلك.
ثانياً: استبدال الوطن بدولة، وهذه مسألة جد مركزية في علة الواقع الفلسطيني اليوم، فقد ساهمت بشكل مباشر في حرف بوصلة علاقتنا بالعدو بل وسمحت للبعض في أحيان كثيرة بـ»أنسنة» هذا العدو. وقد أدى الخطاب الفلسطيني الرسمي حول موضوع «الدولة» والذي ترافق مع عملية المفاوضات إلى تقزيم الصراع وتصويره على أنه خلاف حول مساحات جغرافية، ومحمود عباس تحديداً كرّس ذلك في السنوات الأخيرة من خلال إصراره على حرق كل أوراق النضال واختصارها بورقة «الأمم المتحدة». وعندما يتم التحول من البحث عن وطن إلى المطالبة بدولة يصبح كل شيء مباحاً: فمثلاً تفقد الأرض معناها وتصبح رخيصة تقاس بالمتر المربع، وحين تفقد الأرض معناها تصبح إقامة وسكن فاقد الوطن مسألة تقنية وليست مسألة جذور وهوية وتاريخ، وحينها يكون من المعقول جداً طرح فكرة التوطين هنا وهناك أو التعويض. كله يخضع لشطارة المفاوض وليس لمبدأ العلاقة بين الإنسان وأرضه وهويته، وإذا تبدلت علاقة الإنسان بأرضه وتجردت من معانيها الثقافية والتاريخية يصبح من السهل اختراق وعي الفرد وتشويه علاقته بجلاده سارق هذه الأرض.
ثالثاً: النضال بالوكالة واستبدال الوطن بدولة أوصلا للعلة الثالثة المتمثلة في تحويل الفلسطينيين من شعب بالمعنى السياسي إلى مجتمع بالمعنى الاجتماعي. وهذا المجتمع يوصف بأنه مجتمع «ما بعد الثورة وما قبل الدولة»، فاليوم أسلوب ومستوى معيشة الفلسطينيين وخصوصاً في الضفة الغربية حيث تتركز السلطة بنسخة أوسلو الأصلية من دون التغيير الذي طرأ عليها في نسخة غزة، لا يناسبان على الإطلاق شعباً عليه مهمة مواجهة احتلال، فمتطلبات هذا المجتمع واهتماماته والتحديث الذي طرأ عليه يجبره على تقديم مصالحه الاجتماعية والمعيشية على حساب قضيته الوطنية، وهو ربما التفسير الأبرز لعدم انتقال الانتفاضة من القدس إلى بقية المدن. كيف تعمل القدس اليوم على تصويب هذا الصراع التاريخي في ظل كل هذه العلل ونتائجها؟
الانتفاضة في القدس هي اشتباك مباشر مع الجوهر وليس القناع. الجوهر الذي تحدثنا عنه في بداية هذا المقال والذي حاولت أن تخفيه الحركة الصهيونية بقناع الدولة الحديثة. شباب ورجال ونساء القدس يصارعون الجيل الجديد من اللصوص من دون بدلات وربطات عنق، وهم حتى لا يجتهدون في الضحك على الوعي العالمي بخطابات دبلوماسية، بل يعبرون عن حقدهم بكل وقاحة. وقاحة تؤدي إلى الحرق والشنق، أساليب تعيدنا فجأة إلى تاريخ طويل من المجازر فتذكرنا بأن مساحيق التجميل لا يمكن أن تكون بديلاً من الوجه البشع.
الانتفاضة في القدس بعيدة من الايديولوجيا والنظريات السياسية، إنها تجري وفق مبدأ بسيط اسمه «غريزة التمسك بالحياة». الدهس والبلطة والسكين، أساليب وأدوات لا يلجأ لها الإنسان بعد تفكير وتخطيط، بل تلك الغريزة هي من ترشده إليها خصوصاً مع انهيار المنظومة الحزبية الفلسطينية الحاضنة التقليدية للعمل النضالي.
الانتفاضة في القدس شفيت من ثقافة «النضال بالوكالة» وانفجرت لتقول للسلطة الفلسطينية وكل قادتها ورموزها: انتم كاذبون وعاجزون حتى عن حماية أنفسكم، وكل ما بنيتموه من أجهزة أمنية هي لحماية عدونا، وبالتالي أخذنا المبادرة بأيدينا.
الانتفاضة في القدس تعلن كل يوم أن لا غنى عن النضال والكفاح الشعبي، وعلى رغم أهمية الصاروخ الذي يطلق من غزة، لكن لا بد من غضب في قلب كل فلسطيني يجد منفساً له ولو بحجر.
الانتفاضة في القدس تقول مازال هنالك ما يحمي الوعي الفلسطيني، ففلسطين مازالت لنا وطناً، وأرضها يا أغبياء لا يمكن أن تقاس بالكيلومتر المربع لأنها تاريخ وهوية وذاكرة.
الانتفاضة في القدس عاجلاً أم آجلاً ستنتشر في بقية فلسطين لتهدم الوهم وتعيد بناء جدار الوعي، وقبل كل ذلك ستقول للاجئ في الشتات بأنك قلب القضية، فلا أرض من دون إنسان ولا معنى للإنسان دون أرض.
* صحافي فلسطيني ــ فرنسا